الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صورة الزمن في الفن والواقع

يوسف ليمود

2012 / 1 / 3
الادب والفن


في عام 1991، طلبت مؤسسة سواتش للساعات من الفنان السويسري المعروف نوت فيتال تصميماً لساعةٍ، في سلسلة الساعات الشعبية التي تنتجها سنوياً، والتي يقوم أحد الفنانين المشهورين برسم تصميمها، وغالبا ما يكون التصميم ذا علاقة مباشرة بشكل الإنتاج الفني لهذا الفنان أو مذكّراً بأسلوبه ورؤيته الفنية عموماً. قام نوت فيتال بوضع تصميم لساعةٍ هي عمل فني لا علاقة له بوظيفة الساعة، بل كان تصميمه ضد فكرة الساعة. بدلاً من العقارب التي تشير إلى الوقت، صنع الفنان عجلةً بدائية الشكل، تدور في ميناء بلا أرقام. الساعة تتك والعجلة تدور في المطلق، في معصم يد! هل أراد الفنان أن يسخر من ماكينة المجتمع الحديث في بلد كسويسرا، كل شيء فيه بالدقيقة والثانية، وحيث الإنسان أشبه بترس شفاف لا يكاد يُرى في آلة فائقة الدقة، في حين أنه في الحقيقة يدور ويدور في ميناء فارغ وبلا بوصلة؟ أم أراد الفنان بـ”العجلة الحيوان” التي تدور في الفراغ أن يشير إلى ما هو أبعد من ثلج الواقع الاجتماعي، إلى فكرة الزمن بمعناها الكبير؟ أياً ما كان منطلق الفنان، فإن عجلته الحيوان، السابحة في بياض الميناء، تثير السؤال حول علاقتنا بمفهوم الوقت المصنوع من آلة اجتماعية رهيبة، لا مهرب كاملاً من تروسها، مقابل زمن حيواني أبيض لا أرقام فيه ولا تقسيمات، زمن نولد به ولا نعرف من ضبط توقيته ولا في أي ساعة يتوقف؛ ربما ما نحدسه فقط هو أنه صورة مصغرة لإيقاع تلك الميناء اللا محدودة – الكون.

عكس معظم الفنون، لا تحتاج الصورة (لوحة كانت أو فوتوغرافيا) إلى زمن في إدراك مكوناتها وعناصرها، إدراكها يتم في لحظة وقوع العين عليها، غير أن هذه الحقيقة لا تنفي حقيقة أخرى وهي أن لكل صورة زمن داخلي تخلقه مكوناتها وعناصرها ومنطق تعامل الفنان مع أشكاله ومفردات صورته. كان هذا واقع فكرة الصورة منذ نشأة فنون التصوير، حتى لو لم يكن الفنان على وعي بفكرة الزمن داخل مسطحه اللازمني بطبيعته. لكن، مع مطلع القرن العشرين، باكتشافاته العلمية الكبرى، بدأ الفن في تغيير جلده مستفيداً من نظريات وافتراضات العلم، كما حدث مع المدرسة الانطباعية التي تأثرت بنظرية نيوتن في انشطار الضوء واكتشافه ألوان الطيف السبعة… الخ؛ حدث ولأول مرة، متأثراً بنسبية آينشتاين، وباللهاث الصناعي الذي شكّل الحياة الحديثة، أن حاول الفن تحقيق عنصر السرعة (التي هي الزمن) في اللوحة، كما في الأدب والعمارة والموسيقى وحتى في فن الطبخ. أطلق منظّر وزعيم هذا الاتجاه الفني الثائر، الكاتب الإيطالي فيليبو مارينيتي، على حركته اسم: المستقبلية، داعياً إلى قطيعة تامة وحاسمة مع كل الأشكال والمواضيع وطرق التناول الفنية السابقة عليه، عبر انتاج فن مستقبلي، الحركية أساسه ومنطلقه، وهي السوط الذي يلسع ظهر الحاضر، كما يسوط عين الناظر إلى العمل الفني، حيث الحقيقة لا تتجلى إلا في الحركة التي ينتفي فيها الأمان الخادع للسكون.

بهذا المفهوم، فتت الفنانون المستقبليون (ومن أبرزهم جياكومو بالا، أمبرتو بوتشيوني، كارلو كارا، وغيرهم)، فتتوا الشكل في أعمالهم عبر ترددات خطوط مهتزة توحي بالسرعة، كما لو حرّكت إصبعك يميناً ويساراً بسرعة كبيرة، تراه أصابع عديدة متداخلة وبلا تفاصيل واضحة. هذه المدرسة الفنية التي خبَت بُعيد الحرب العالمية الأولى، كان لها تأثير، ولو بشكل غير مباشر، على حركات فنية عديدة تزامنت معها، كالتكعيبية، في فرنسا، وكذلك الدادائية، ثم السريالية فيما بعد. وواضح أن “المستقبلية” تعاملت بشكل مباشر مع مفهوم الزمن الفيزيائي المترجم ميكانيكياً إلى حركة، أي الزمن الخارجي الناتج عن تسابق وصراع أزمنة وقوى كثيرة مختلفة؛ إلا أنه مع مجيء فرويد بنظريته في العقل الباطن، خرجت السريالية، التي وجدت في ذلك “الباطن” بحيرتها التي تصطاد فيها سمك الأحلام. كان هذا يعني، ضمنياً، الانتباه الى الزمن الذي يتك في الداخل، بلا صوت، وفي غفلة منا ـ الساعة البيولوجية.

في زمن الحلم هذا، انصهرت ساعة العالم المصنوعة من أرقام وعقارب وسالت كصمغ على غصن، مثلما صورها سلفادور دالي في لوحته الشهيرة المسماة “إلحاح الذاكرة”، كما استطالت ظلال الأشياء في لوحات جورجيو دي كيريكو، بأجوائها الميتافيزيقية الطافحة بشعور اغتراب الانسان ووحشته في فضاءات تعطلت ساعات أبراجها، مجمّدة ً الزمن، كمدينة تحولت أشباحها إلى تماثيل تنخرها شمس من نحاس. غير أن أفضل من تعامل في لوحاته مع عنصر الزمن، كان الفنان البلجيكي (المصنف كرسام سريالي ولكنه في الحقيقة فوق التصنيف) رينيه ماجريت. انطلق عمل ماجريت، بشكل عام، من فكرة الالتباس، أو الخلط الذهني، بين شيئين أو معنيين، في لحظة فالتة من أسر العقل الواعي، فالطائر يصبح هو السماء والسحابة، وخطوة الحصان في الغابة تصبح جذعَ الشجرة، والمرأة العارية على الشاطيء يصبح نصفها السفلي أرضاً، والعلوي بحراً وسماء… هذا المنطق الذهني الملتبس، والذي حوّله ماجريت إلى جمالية بصرية ملتبسة، يكشف عن اختلاف الأزمنة التي تعمل بها الأجهزة الحيوية داخل الفرد الواحد، فالمنطق “السليم” الذي برمجَنا به نظام العالم، والذي يشبه الخط الزمني المستقيم، يتقاطع معه منحنىً حدسي شاعري رؤيوي، يرى حقائق الأشياء، مخترقاً حاجز الزمن، فالرسام الذي داخل اللوحة، يرسم طائراً بينما هو ينظر إلى بيضة على طاولة بجانبه! ليس هذا مجرد استباق بارد للحاضر، قدر ما هو لحظة كشف انبثقت لقريحة يحركها زمن الشعر، لا زمن الآلة.

في الستينيات، راهن بعض فناني الطليعة الأمريكيين (جاكسون بولوك، وليم دي كونينج، بيير سولاج وآخرين، أُطلق عليهم اسم “فنانو الأكشن”) على عنصر الزمن في إنجاز لوحتهم: دفقة شعورية واحدة عبر أداء سريع يعتمد على الحضور الذهني والتركيز الشديد وسرعة التصرف والترحيب بما يسمى الصدفة. هذه الروح الأدائية – الانفعالية، التي حاولت ان تسابق الزمن من خلال توتر وذبذبة روحية عالية، لم يكن افتعالاً أدائياً أو تجريبياً، بل كانت حاجةً. كانت انعكاساً لأرواح قلقة لنوع من الفنانين ولدوا في أزمنة مرتبكة، وغرّبهم الواقع بآليته وسرعته المجنونة، فبصقوا بدورهم حمولاتهم الانفعالية في حيز مسطح، بلا تشنجات، لكن بنفس سرعة واقعهم.

يوسف ليمود

م. الدوحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن