الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يصلح العطّار ..

خيري حمدان

2012 / 1 / 5
الادب والفن


عرف العديد من رجال الدولة قدرتي على شفاء المصابين بأمراض مستعصية، لا أنكر بأن لديّ قوّة غير عادية في انتزاع جذور المرض كما النبتة الفتية من التربة الخضراء الرطبة. فوجئت صباح أحد الأيام حين حضر أحد أعوان الزعيم مطالبًا بحضوري على الفور لغاية سامية عليا، لم أكن أملك القدرة على الرفض أو التردد. هكذا عقدت عزمي وانطلقت مع الرجل المعبس القويّ البنيان كجدار صنع من الخرصان. استقبلت بحفاوة عند المدخل وسرعان ما أمر سيادته باستدعائي إلى مجلسه. كان هناك العديد من الأطباء والعطّارين والخبراء، جميعهم متحلقون من حوله يتجاذبون أطراف الحديث. دعاني سموه للجلوس في مكان كان قد خصص لي. عندما رأيت وجهه أصبتُ بالدهشة، لكنّي تمكنت من كبت مشاعري ورسمت ابتسامة على تقاطيع وجهي.
- أنا بأمر سموّكم.
- كما ترى، فقد اسودّ وجهي على حين فجأة، وقد حاول الخبراء والعطّارين في مملكتي تقديم المساعدة، لكن دون فائدة. أخبروني بأنّك عطّار قدير وغالبًا ما تتمكن من التغلّب على الأمراض والأوبئة المستعصية.
بدوري كنت قد أدركت العلّة التي كان يعاني منها الزعيم، لكنّي وتحسبًا من غضبه وبطشه لم أسارع بتقديم الوعود. لم أشأ أن أقترب منه كثيرًا، لكنّي في نهاية المطاف قررت خوض هذه المغامرة.
- هل لنا أن نجلس على انفراد يا سيدي؟ ما أن اكملت هذه الجملة حتى رأيته ينظر آمرًا الآخرين بالانصراف من المكان. ألقوا بالطبع نظرات نارية عليّ لدى مغادرتهم المجلس الأثير. بعد أن خرج الجميع قال سيادته: والآن، أخبرني .. لم يعد في المكان أحد. هل باستطاعتك تقديم المساعدة؟
- نعم ولكن لديّ شرط واحد.
- لك ما تشاء من الأموال والنساء والخيرات يا عطّار العطارين. لكن، اشفيني فأنا غير قادر على مقابلة الملوك والأمراء والرؤساء. كما ترى وجهي أسود قاتم بعد أن كان أبيض في منتهى الإشراق.
- لا أريد مالاً يا سيدي، لكن لا يمكنني تقديم المساعدتة لسموّك سوى في مكان ما بعيدًا عن البشرية، وأقترح إحدى الجزر غير البعيدة عن الديار.
أصيب سيادته بالدهشة واستغرب طلبي كثيرًا. طلب حضور بعض الحرس الذين يثق بهم، وأضاف عابسًا: هل لديك مانع يا عطّار؟ هززت رأسي موافقًا وبدأ التحضير للرحلة بعيدًا عن الرعية والبشر. كان الرجل شديد البطش وقد أودى بحياة الكثيرين من المواطنين وكبار الدولة وقادة الجيش خوفًا من أن ينقلبوا عليه، ولأسباب تافهة لا تذكر أحيانًا، كابتسامة تظهر على ملامح أحدهم دون داعٍ في حضرته، وهذا ما كان يعتبره محاولة للسخرية منه. من جهة أخرى، لم يكن زعيمنا يثق بنفسه بتاتًا، لهذا سرعان ما كان يلجأ إلى استخدام حبل المشنقة والخوازيق بحقّ كلّ من يشكّك في ولائه وطاعته.
ابتعدنا كثيرًا عن العاصمة، لأول مرة وجد الزعيم نفسه على بعد مئات من الكيلومترات عن العاصمة التي تدين له بالطاعة العمياء خوفًا من التنكيل والقتل. لم يخبر سيادته أحدًا بأمر سفره ولا حتى زوجته وأولاده، وكان يأمل بأن يعود قبل أن يدركوا أمر غيابه، خوفًا من الانقلاب على عرشه، لكنه كان مجبرًا على تنفيذ ما طلبت منه ليتخلص من حالة القبح السوداء المفاجئة التي ألمّت به.
وصلنا جزيرة تطلّ على المملكة، وقف الحرس ليس بعيدًا عنّا، بل حاصروني إذا أردنا توخّي الدقّة في سرد هذه الحكاية. كانت عيناه تخترقني بقوّة لا يقدر عليها سوى متجبّر ظالم. كان يحثّني على تنفيذ ما حضرنا من أجله.
- سيدي، أرجو أن تطلب من حرسك الخاص عدم التدخل طِوال عملية العلاج وهي لن تطول كثيرًا على أيّة حال.
- لك ذلك. دعنا نبدأ يا عطّار النحس!
غمز بحرسه طالبًا منهم الابتعاد، وما أن ابتعدوا حتى مددت يدي بجرأة لم أتوقعها أنا نفسي إلى صدره وقبضت عليه بكلّ ما أملك من قوّة، ثمّ سحبت يدي وسط صرخاته التي أخذت ترتفع مع كلّ حركة أقوم بها. حاول الحرس التدخل لإبعادي عنه لكنه لوّح بيده آمرًا إياهم بالابتعاد. بعد لحظات أبعدت قبصة يدي عن صدره فوقع على الأرض مرهقًا. تقدّمت ببطء نحو البحر وما أن وصلتُ بالقرب من المياه حتى رميت بالكتلة السوداء في زرقته. عندها سمعت صوت الأسماك تئن، ثمّ انقلبت الآلاف من أصناف السمك المختلفة على الظهر ميّتة. اقترب منّي الزعيم وأشار بيده نحو الأسماك الصغيرة والحيتان الكبيرة الفانية.
- ماذا حدث للأسماك يا عطّار؟ كلّ هذا بسبب سوداويتي!
- بل وأكثر. لقد ذاق السمك بعض ما أذقت شعبك يا سيدي.
عندها جلس على ركبتيه باكيًا وموجهًا أنظاره نحو مملكته طالبًا المغفرة، كان الصفاء في تلك اللحظة قد أخذ بالعودة إلى تقاطيع وجهه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير