الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتماء الأحمق..تأملات في الإنتماء الكُروي !!

مجدى عبد الهادى
باحث اقتصادي

(Magdy Abdel-hadi)

2012 / 1 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


يتحدث الجميع اليوم عن أزمة هوية وانتماء، خصوصاً لدى الاجيال الجديدة، وكأنما القضية هى قضية الانتماء في ذاته، رغم أن الانتماء حولنا يملأ الأرض والسماء، ففي ظنهم أن المشكلة في غيابه، بينما المشكلة الحقيقية في حضوره السالب. *

عن الإنتماء والهيمنة والكرة :

يُعرف الدكتور صابر عبد الباقي ( كلية الآداب – جامعة المنيا ) الانتماء بأنه "الإرتباط والإنسجام والإيمان مع المُنتمى له وبه"، ويرى أن دافع الانتماء " إذا توافر لدى الفرد، وتحفز؛ فإنه يستطيع أن يعدل كثيراً من سلوكه حتى يصبح مطابقاً لما يرتضيه المجتمع، فعندما ينضم الفرد إلى الجماعة، فإنه يجد نفسه، في كثير من الأحيان، مُضطراً للتضحية بكثير من مطالبه الخاصة ورغباته في سبيل الحصول على القبول الاجتماعى من أفراد الجماعة، فنجده يساير معايير الجماعة وقوانينها وتقاليدها، فيتوحد الفرد مع الجماعة، وكأنها امتداد لنفسه، فيسعى من أجل مصلحتها، ويبذل كل جهد لأجل إعلاء مكانتها، ويشعر بالفوز إذا فازت، وبالأمن كلما كانت آمنة".
وفي معجم العلوم الاجتماعية يعرفه الدكتور أحمد زكى بدوى بأنه "إرتباط الفرد بجماعة، حيث يرغب الفرد في الانتماء إلى جماعة قوية يتقمص شخصيتها ويوحد نفسه بها، مثل الأسرة أو النادى أو الشركة".
ومن منظور الفلسفة وعلم النفس، فليس الانتماء سوى تعبيراً عن القلق، فهو حاجة للتواصل وأخذ موقع والشعور بالمكانة، يشبعها الفرد باندماجه في جماعة تحقق له كل هذا مقابل مشاركته في ممارسات الجماعة، في ممارسة تواصلية تبادلية عامة تحقق أغراض الجميع، أفراداً وجماعاتً.
ويرتبط مفهوم الانتماء إرتباطاً وثيقاً بمفهوم الهوية، فانتماءاً لجماعة ما يعني بالضرورة قبولاً وتحدداً بهويةً ما، هى هوية الجماعة المُنتمى لها بالضرورة.
وقد عرفها ابن حزم بأنها "كل ما لم يكن غير الشي، فهو هو بعينه، إذ ليس بين الهوية والغيرية وسيطة يعقلها أحد البتة، فما خرج عن أحدهما دخل في الآخر"، وهو التعريف الذى أوجزه الأستاذ جميل صليبا بقوله "المُميز عن الغيرية".
وتنبع إشكالية مفهوم الهوية الأولى – والانتماء معه هنا باعتباره موضوعنا الأساس – من كونه فردياً واجتماعياً في آن واحد، وهو ما يعكس تناقض الشخصية الإنسانية نفسها، التي تعبر عن نفسها – فرديتها – بالانتماء إلى جماعات، وكم تتعقد المسألة إذا ما أخذنا بالاعتبار تعدد وتنوع الانتماءات بتعدد وتنوع وتشابك الهويات، وتراتبياتها المختلفة، وفقاً لتفضيلات كل شخص، أو بالأحرى تركيبته وخلفيته الفكرية، وهو الأمر الذي يزداد تعقداً وتوسعاً كلماً إزداد التطور البشري؛ نتيجة لتوسع وتنوع النشاطات البشرية ومجالات الفعالية الإنسانية.
وبصفة عامة، عرفت الهوية وقرينها الانتماء أشكالاً أساسية ترادفت والنظم الاجتماعية المختلفة التي مرت بها البشرية، حيث بدأت قبلية مع المجتمع الشيوعي البدائي، ثم تطورت إلى دينية مع المجتمع العبودي الصرف، ونصف العبودي {الإقطاعي}، ثم وطنية مدينية مع مدن التجار البرجوازيين والطوائف المهنية، وأخيراً قومية مع الدول القومية المُوحدة في ظل الرأسمالية بكافة أشكالها، ووصولاً إلى العولمة بتناقضاتها المحفزة للكوزموبوليتانية والطائفية المقاومة للإندماج في آن واحد !!
وقد لعبت غرائز ( التهوي ) والانتماء على مدى التاريخ دوراً تابعاً ومساعداً ومتأقلماً مع التطورات السوسيو- اقتصادية التي مرت بها البشرية بمختلف مجتمعاتها، فانتماءاً قومياً هو مكون جدلي ضروري في تطور منطومة الرأسمالية الحديثة، التي تطلبت شكلاً قومياً موحداً للدولة كوحدة سياسية، حيث فرضه تطورها من ناحية، كما خدمها وجوده فتعززت قوتها ووتيرة صعودها من ناحية اخرى، وهو ما يؤكد بُعداً إقتصادياً إجتماعياً تاريخياً للهوية والانتماءات التابعة لها، بالشكل الذي أضفى عليها تطورات وتحولات في الشكل والمضمون، وإن بقى مضمونها الغرائزي واحداً.
وقد لعبت هذه الهوية دوراً لا جدل حوله في إثارة العنف بدوراته المتكررة التي ملأت التاريخ طولاً وعرضاً، ويؤكد الاقتصادي الهندي "أمارتيا صن" أن العنف ينمو عندما نعمق إحساسنا بالحتمية حول هوية يُزعم أنها فريدة ومتميزة، ويرى أن الصراع والعنف يدعمهما اليوم وهم هوية متفردة، ويؤكد البعض هذه الرؤية بشكل آخر، حيث يفيدون بأنه عند عجز بعض المجتمعات عن إفراز آليات مدنية لتصريف علاقاتها بالآخر، تعاوناً أو صراعاً؛ فإنها تنتج غيريات متهاوية وهويات غير مرنة محكوم عليها بالتصادم المركب، خصوصاً عندما يتم إقصاء الثقافة من دائرة التحديث، بما يدفع بعض الفئات إلى الإنزواء الثقافي والاحتماء بالقيم التقليدية والمرجعيات العرقية والدينية والمذهبية، فيندفع أكثر الأفراد شعوراً بالإقصاء والتهميش والتهديد إلى العنف ( مجلة علوم إنسانية )، أما أمين معلوف فيرى أنها " قد لا تكون السبب الرئيسي لقيام الحروب والقتل الجماعي، ولكنها السبب في الطغيان والطمع للاستحواذ على الأراضي والثروات، إنها الوقود الذي يستخدمه المُهيجون لإشعال النيران في أي مجتمع، إنها ميكانيكية "نحن" و "هم"، التي بها لا نستطيع "نحن" أن نحيا إلا بقتلـ "ـهم"، ولهذا فإن "هم" لابد وأن يُجردوا من إنسانيتهم ليصبحوا أرقاماً وبيانات للقتلى.
وعلى جانب آخر، يرى فرانسوا بايار أنه "لا توجد هويات طبيعية تفرض نفسها بقوة الأشياء، بل فقط إستراتيجيات تقوم على الهوية، يقودها بوعي فاعلون معينون"، ويؤكده المؤرخ الأمريكي هنري بروكس آدامز بقوله "لقد كانت السياسة العملية دائماً مجرد تنظيم متوالي للأحقاد"، أي الأحقاد المُوجهة للآخرين، من حيث هم مغايرون للأنا الجماعية المعينة، فإذا ربطنا هذا بما سبق وذكرناه بشأن علاقات الترابط الجدلي بين الهويات والانتماءات من ناحية والنظم الاجتماعية ( ذات المصالح الاجتماعية المتشابكة ) من ناحية أخرى؛ لأدركنا بوضوح خطورة الدور الذي تلعبه الهوية، بتمكين الطبقات المُسيرة لهذه الأنظمة من السيطرة والتحكم بالطبقات الخاضعة، وذلك بامتطاء الأولى للهويات الاجتماعية السائدة، وترتيبها وأحياناً إصطناعها، بما يخدم أغراضها، بتحويل أنظار الطبقات الخاضعة عن العلاقات الحقيقية للهيكل الاجتماعي بما تتضمنه من مصالح وامتيازات.
وهكذا تتحول الهوية ورديفها الانتماء لوسائل ضمن منظومة الضبط والسيطرة الاجتماعية، مُستهلكةً في طريقها كل فردية وتميز فردي، مُحيلةً الفرد في المجتمع من شخصية إنسانية ذات أبعاد متعددة وفرادة متميزة إلى "إنسان ذي بعد واحد" كما وصفه الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوزة، مُختزلةً إياه إلى مجرد رقم ضمن قطيع الجماهير المُستهلكة لإيديولوجيا السلطة وأيقونات الميديا مع منتجات السوق الرأسمالية.
وبهذا سقطت الفردية المزعومة على أيدي الطبقات البرجوازية المُهيمنة، عرابة النظام الرأسمالي الحر، عبر توظيف الهويات والانتماءات في خدمتها، وبما يحقق أهدافها في السيطرة، وقد استخدمت في هذا كل الإيديوجيات والروافع الاجتماعية الطبيعية من دين وعُرف وثقافة شعبية، وليس آخراً الغرائز الجماعية بكافة أشكالها من جنس وعنف وصراع وحب وإعجاب وكراهية ونمطية ....إلخ.
أما عن أغرب أشكال التوجيه والضبط الاجتماعي، من خلال الانتماء والهوية، فقد كانت الرياضة، وليست الجدة والحداثة هى منبع الغرابة، بل ما يبدو - ظاهراً – من بعد في الشقة ما بين الرياضة، والحقل الاجتماعي الذي أتت لتحل محله، وهو السياسة.
وقد كان أول استخدام مشهور للرياضة لإلهاء العامة هو ما كان يتم في روما القديمة من مسابقات أولمبية ورياضات عنيفة، تلاه إستخدام مشهور آخر يخص اللعبة التي تعنينا هنا في النقاش، وهى كرة القدم، التي أُبتكرت بالأساس لإلهاء عمال مناجم الفحم عن عذابات حياتهم الكئيبة، بتوفير تسرية مناسبة لهم.
واليوم تتربع كرة القدم ربوة الرياضة في العالم أجمع، ومعها قلوب وعقول مئات الملايين حول العالم، وذلك بشكل جعلها هماً أساسياً لدى قطاع كبير من الجماهير، بحيث تجاوزت حجمها الحقيقي من مجرد لعبة إلى ميدان لمعارك مركبة تتصارع فيها نوازع الدين والسياسة، وأصبحنا نسمع عن وقائع غريبة تكشف عن مدى ما وصل له الهوس الكروي، وبشكل لم تفلت منه أعلى المستويات العلمية والثقافية، فهذا أستاذ جامعي عربي توفي بأزمة قلبية؛ ليس لقتل إبنه مثلاً، أو لاغتصاب إبنته لا سمح الله، بل لسبب أكثر أهمية وجوهرية بكثير، وهو هدف تم إحرازه بمرمى فريقه المصون، وهذه هى الجماهير البريطانية، الباردة، الرصينة، تخرج منها حجافل الهوليجانز مُدمرةً السيارات والمحال التجارية، ومُمارسةً العنف الأهوج ضد جماهير الخصوم، في مشهد لا علاقة له بالتحضر المُفترض لأعرق ديموقراطيات العالم، أو لشعب الإمبراطورية التي كانت لا تغيب الشمس .
وفي ذات السياق نجد مشاهداً أخرى كثيرة رصدها الدكتور ياسر ثابت في كتابه "حروب كرة القدم"، وفي مدونته "قبل الطوفان"، تؤكد كلها الحجم المُهول لظاهرة الهوس الكروي، التي تداخلت مع جميع الميادين، مُقنعةً الجميع، وخصوصاً رجال المال والسلطة، بأهميتها كاداة سيطرة وتوجيه ووسيلة للقوة.
ومما ذكر تقديرات الفيفا لعدد مشاهدي نهائي مونديال ألمانيا 2006م، والتي وصلت بهم لثلاثة مليارات شخص، وهو الجمهور الأضخم في التاريخ، كذا ما حدث مع إنتهاء مونديال 1994م، من إطلاق إسم اللاعب البرازيلي روماريو على غالبية المواليد الجدد بالبرازيل، بل والأغرب والأدهى، بيع عشب إستاد لوس أنجلوس مُجزأً في قطع صغيرة بعشرين دولاراً للقطعة، الأمر الذي يوحي بتحول الأمر لما يشبه الصنمية "FETISHISM".
كذا ما حدث مُؤخراً بين مصر والجزائر، فلا شك أن أي متابع متعقل لهذه ( الخناقة )؛ قد اجتاحته مشاعر مضطرمة من السخرية المريرة، ليس تجاه المشاعر الوطنية والقومية الكلاسيكية، بل بالأساس تجاه مفاهيم الانتماء لدى الأجيال الجديدة، وربما القديمة أيضاً.
فكل متابع لحرب الفيديوهات على الإنترنت ستعتريه ولاشك مشاعر الدهشة تجاه تلك العواطف الوطنية الجياشة التي لم نرها منذ زمن طويل، وربما في مواقف أكثر أهمية وخطورة من مجرد بطولة كروية تافهة، لن تصنع نهضةً ولا تقدماً، وبالطبع لا يمكن اعتبارها استقلالاً ثانياً – كما إرتأى أحدهم – عند أي مستوى للنظر.
شيئاً شبيهاً نراه على المستوى المحلي، وهو أعمال العنف والشغب المتبادلة بين جماهير الأندية المصرية – كتلك التي حدثت بين جماهير الأهلي والإسماعيلي -، كذلك الصراع الكلاسيكي المُبتذل ما بين جماهير القلعة الحمراء – وكأنما هى المعسكر الأحمر الشهير – وجماهير القلعة البيضاء – التي تذكرني بمعاني يعف لساني عن ذكرها -، وهو الصراع الذي تناوله مُؤخراً فيلم "الزمهلاوية" السخيف سخافة الصراع الأصلي .
ذات الصراع تناوله بسخريته اللاذعة الأستاذ أحمد رجب – في سياق سخريته من مثقفي اليسار المصري- في فيلم "فوزية البرجوازية"، عندما تحول صراعاً فكرياً وسياسياً بين اليمين – مُمثلاً بالبيت الأبيض – واليسار الأحمر، بين حفنة من المثقفين، إلى صراعاً بين مشجعي اليمين الزملكاوي واليسار الأهلاوي في وعي جماهير الشعب .
أما أغرب ما ظهر في الفترة الاخيرة من مهازل الهوس الكروي المجنون، فهو الأغاني التي كُتبت فقط لأجل اللاعبين والأندية، فهذه أغنية لمحمد أبو تريكة، يبدأ مطلعها بـ "أبوتريكة يا فنان..ألعب كما وكمان..ألعب وهات إجوان..وقلوبنا تدعيلك"، والتي أضافتها الصين – التي درست سوقنا ونفسيتنا الجماعية جيداً – لفانوس على شكل اللاعب الشهير، مُصدرةً لنا هوسنا في صورة منتج يحمل الكثير من الدلالات، بمزيج غريب من الدين والرياضة، وغيرها الكثير الكثير من الأغاني التي كُتبت خصيصاً للأندية واللاعبين، ولكننا سنكتفي هنا بأحدى أكثرها دلالة، وهى الأغنية التي غنتها الجماهير بمناسبة إعتزال محمود الخطيب، على ألحان إحدى الأغاني الوطنية ( كذا !! ) كما لو كانت تودع زعيماً تاريخياً، والتي تقول كلماتها :

بيبو بيبو بيبو...الله يا خطيب
بيبو بيبو بيبو...يا سلام يا خطيب

وتأتي في ذات السياق أغاني المطربين العرب لمصر، والتي نراها دائماً مُتصلة بالكرة بالأساس، كأنه لم يبق لمصر سوى الكرة – وهو الأمر الذي يكاد يكون حقيقياً –؛ التي أصبحت وحدها المدخل الملكي لعقول وقلوب شعب مصر !!
كل هذه المؤشرات تؤكد مدى سيطرة الكرة على عقول الجماهير المصرية، بحيث أصبحت مكوناً أساسياً في هيكل الانتماء والولاء في مصر، بشكل يكاد يجب إنتماءات أخرى كثيرة.
ربما لو جلسنا لأحد العجائز لتحسر – كما يفعلون دائماً – لما وصل إليه الحال، فمنذ ما لا يزيد عن سبعين عاماً لا غير – وهى عطفة حارة في تاريخ شعب عريق كشعب مصر – كانت الاهتمامات أعلى، والانتماءات أرقى، وأسس التصنيف أوعى وأعمق، تجد جذورها في أرضيات فكرية وسياسية، فهذا وفدى وذاك دستوري، وذلك اشتراكي وذينك شيوعي، وهذه فاشية وتلك إخوانية.
وهكذا كنت تسأل هذا أو ذاك : أإخواني أنت أم شيوعي؟، واليوم تحولت الدنيا فارتقت كثيراً، فأصبح السؤال التقليدي – الذي ربما يحدد موقف البعض منك – هو : أهلاوي أم زملكاوي؟
طبعاً ليست قضيتنا المحاكمة، فما تم تم، والتاريخ لا يُحاكم، كما يرى البعض، فقط نسعى لإيجاد تفسير، وذلك برصد هيكل الانتماءات في المجتمع المصري، بتبدلاته وتحولاته، من انتماءات فكرية وسياسية إلى انتماءات طائفية وكروية، والأسباب الكامنة خلفها.

عن منطق الانتماء الكروي وأسبابه :

إذا أنعمنا النظر في منطق الانتماء الكروي؛ فسنجده - للسخرية – إنتماءاً سياسياً من الدرجة الأولى، فإذا كانت السياسة في جوهرها صراعاً، فلربما جاز لنا اعتبار الرياضة – الشعبية منها بالأساس، لا الهامشية، ولا النخبوية، ولا الفردية عموماً – سياسة العصر الحديث، والتي قدمتها الطبقات المهيمنة كبديل للجماهير الشعبية عن السياسة الحقيقية.
فما دام الإنسان كائناً سياسياً، كما يرى أرسطو، فهو لا يستطيع كبت غرائزه واحتياجاته السياسية، التى ربما تعود أصولها لغرائزه القتالية القديمة، والتي تبلور شكلها النهائي في تلك الصراعات بين الجماعات حول المصالح والمكاسب والامتيازات كقنوات ومسارب طبيعية ومنطقية تنساب خلالها تلك الصراعات.
وإذا أردفنا ملاحظتنا هذه بملاحظة أخرى تزامنها، ولا جدال حولها، وهى الموات العالمي للسياسة، وانسحاب الجماهير من مواقعها النضالية القديمة، تاركةً الساحة للسلطات المتحيزة؛ لتنفذ مشاريعها العدائية تجاه مكتسبات تلك الجماهير، والتي كافحت في سبيلها على مدى عشرات السنين، وبما يخدم في النهاية مصالح الطبقات المُهيمنة، وبالرجوع لتاريخ نشأة اللعبة الذي سبق ذكره؛ لوصلنا بالضرورة لوجود تدبير ما قاد لهذا الهوس المجنون بقطعة البلاستيك المنفوخة !!
ورغم وجود بعض الخصائص الذاتية للعبة كرة القدم مكنتها من اكتساب كل هذه الشعبية، كإرضائها لبعض الغرائز لدى البشر، كالانتماء والانحياز والقلق والأمل والشعور بالتفوق والعدوان والتنافس، بل وحتى الجنس، إلا أن كل هذه الخصائص لا تفسر لنا كل هذه الشعبية، فهى قد تفسر لنا شعبيتها النسبية مقابل الألعاب الجماعية الأخرى – فالفردية عموماً خارج الحساب بحكم طبيعتها -، ولكنها لا تفسر لنا شعبيتها المطلقة التي تجاوزت أهمية الرياضة في حياة الناس عموماً، من حيث هى نشاط ثانوي وغير إنتاجي بشكل مباشر بالأساس.
لهذا فسنجد في النهاية المُتهم المباشر واضحاً أمامنا بلا أقنعة، وهو أجهزة الميديا الجبارة، وقوتها المُعولمة، والتي كانت دائماً في خدمة السلطة والطبقات المهيمنة بالأساس، ويشهد التاريخ بما مارسته بشكل مباشر وغير مباشر من أحط وأقذر أشكال الكذب والتزييف في عصرنا الحديث، وبشكل يعفينا من التوثيق، إذ تكفينا جداً مسئوليتها عن مذابح التوتسي برواندا، وتحيزها الفج في الصراع العربي الإسرائيلي ( هنا نقصد العالمية فقط )، والتزييف في مشاهد صراعات الشوارع في فنزويلا .
طبعاً في حالتنا العربية، يُضاف عامل أقوى وأكثر خطورة، كانت له اليد العليا في إقناع جماهيرنا العربية جمعاء – وهذه هى النقطة الوحيدة التي إتفق فيها العرب - باعتزال السياسة عموماً، وذلك قبل أن تعبر عتبة ممارستها أساساً، وكان النموذج المبكر والأكثر فجاجة وقتها، هو ما فعله أعرق ممثلي الليبرالية المصرية، الزعيم سعد زغلول – الذي قاد مع حزب الوفد النادي الأهلى أيضاً – مع أول حزب اشتراكي في مصر عام 1925م، وهو الأمر الذي استمر فيما بعد كسياسة ثابته يلعب فيها الأمن والقضاء دور حجري الرحى اللذان يطحنان أي قوة بازغة، ويرهبان الجماهير المُرتعشة أساساً؛ لتقف أبعد فأبعد، وهو الأمر الذي تعزز بفعل إنكشارية خالد الذكر الزعيم جمال عبد الناصر، ولم يستطع – كما لم يمهله القدر- إصلاحه؛ لتصبح تلك الآلات ذاتها أدوات أعداؤه وأعداء جماهير الشعب في إرهاب الأخيرة وإقناعها بخطورة السياسة ولا جدواها، كذا بكونها حكراً على السلطة الغاشمة، التي لن ترحم من يفكر مجرد تفكير في ممارسة حقوقه السياسة، عفواً، في العدوان على منطقة نفوذها التى لا تقبل فيها نداً ولا شريكاً.
وهكذا اعتزلت جماهير الشعب السياسة باعتبارها لعبة غير مأمونة العواقب؛ لتنشأ في ظل هذا الوضع أجيالاً جديدة لم تر يوماً مظاهرة، أو تسمع عن اعتصام، اللهم إلا في التلفاز، وتم تربيتها على أن السياسة اختصاص، كذا تقليم ملكاتها النقدية الطبيعية، بفعل كبت – وليس تربية - الأسرة، وأنظمة التعليم، عفواً، التعتيم.
أما على الضفة الاخرى، فلم يبق على ساحة الفكر إلا الخصم - الصديق – المناسب تماماً، فغزت السطحية والجهالة والرجعية الفكر الديني، وبدلاً من أن ينشأ لدينا لاهوت تحرير إسلامي، نشأ فقه النقاب والثعبان الأقرع.
وهكذا أيضاً سقطت جبهة الفكر؛ لننتقل من الانتماءات الفكرية الاجتماعية لانتماءات جديدة، يغلب عليها الطابع الطائفي، وتتعدد بتعدد الأولياء الجدد، فهذا مريد لحسان، وذاك لشنودة، وهذه مريدة لخالد، وتلك لزكريا بطرس.
وبالنهاية توزعت انتماءات الشعب ما بين انتماءات طائفية وانتماءات كروية، تجيد السلطة توظيفها وقت اللزوم وفقاً لأهدافها وبما يخدم مصلحتها في النهاية، وقد رأينا مُؤخراً ذلك التدخل الغريب من قبل قمة السلطة في مشاكل كروية، بينما توجد عشرات المشاكل الأجدر بمثل هذا التدخل، كتدخل الرئيس لحل مشكلة لاعب الأهلي عصام الحضري، وتدخل نجليه جمال وعلاء في مشكلة مصر والجزائر، التي دار حولها الكثير من الجدل، حول صراعات عائلية خفية وصفقات مشتركة...إلخ.
ويعمل في خدمة هذا كله، جهاز إعلام – والرياضي منه بشكل خاص – يقوده مجموعة من رجال الأعمال أصحاب المصالح والمرتبطين بالسلطة، ومجموعة أخرى من اللاعبين السابقين المفتقدين لأي ثقافة عامة أو شعور بالمسئولية يؤهلهم للعمل الإعلامي، ومعهم في النهاية مجموعة من الإعلاميين المخبرين، ممن يتعاملون مع أجهزة الأمن، فيأتمرون بأومرها، ويلتزمون بتوجيهاتها بالأساس.
ويقوم هذا الجهاز بمهمته كاملةً في الشحن والتهدئة، حسب متطلبات المرحلة، ووفقاً لتوجيهات السلطة ورغباتها، كذا مهمة الإلهاء التقليدية للشعب عن مشاكله الحقيقية، بحفنة من القضايا التافهة، كصراعات الأندية، وصراعات رجالاتها الداخلية، ومشاكل هذا أو ذاك من اللاعبين، وغيرها الكثير.
وطبعاً لا يمكن لأي كان أن يدعي أن سلطةً وجهازاً إعلامياً، مهما تأتت لهما من أسباب القوة، أن يقودا شعباً وجهة معينة إلا بوجود قصور طبيعي يمكنهم من ذلك، بصيغة اخرى، فإن الشروط الذاتية لا تتجاوز الموضوعية أبداً، فلابد وأن تغيراً ما في البنية الاجتماعية هو ما ساعد ومهد الطريق للوصول لهذه الحال، وما أتصوره كسبب، هو ما حدث من نزوح جماعي من الريف إلى المدن، مع عدم حدوث عملية "تحضير" حقيقي؛ ما أدى فى النهاية لـ ( ترييف ) المدينة، لا تحضير المهاجرين، بما يعنيه ذلك من مستوى ثقافي وتعليمي لا يُكسب الجماهير وعياً حقيقياً، كذا ما نتج عن الحراك الاجتماعي المُشوه الذي صنعه الانفتاح الاقتصادي، وما نتج عنه من طبقات جديدة نشأت بالطفيلية وعليها؛ ما نتج عنه عموماً إنخفاضاً في النوعية لدى جموع الشعب، بحيث أصبحت مُؤهلة للتسطيح، والتوجيه لغير مصلحتها عموماً، وعلى أي حال هذا موضوع آخر.
ما يعنينا في النهاية، هو كيف تمكنت السلطة عموماً – كعامل آخر – في سياق ممارستها لعملية الهيمنة من تفريغ كل الإيديولوجيات الفكرية من مضامينها، عبر منطقها الأداتي؛ بحيث تصل معها جماهير الشعب لقناعة باللاجدوى عموماً، ولحالة من الفراغ العقلي والمعنوي، التي يصبح عندها الانتماء الطائفي الانتماء الفكري الوحيد الباقي، والانتماء الكروي الانتماء السياسي الممكن، فتختلط عليها الأمور، وتفقد التمييز عموماً؛ ليصبح فكرها طائفية، وسياستها كرة !!
جماهير تعيش فكرها في الماضي لا المستقبل، وتمارس سياستها لا من أجل ولا حول مصالحها وعيشها، بل حول قطعة من البلاستيك المنفوخ هواءاً، صُممت لرؤوس على ذات الشاكلة !!

خاتمة :

وبكل هذا وصلنا لمجتمع مُنشق على نفسه، ومُنقسم على ذاته، يطلق مشاعره الوطنية في غير مكانها، ويحارب معاركه السياسية في غير أرضها، كذا يطلق ملكاته الفكرية – أو بالأحرى يكبتها – في مسارب تأخذه للخلف لا للأمام.
وبالنهاية إنتقلنا من انتماءات سياسية وفكرية تعبر عن إهتمامات إجتماعية واعية بواقعها وتاريخها، إلى انتماءات كروية وطائفية، تعبر عن إغتراب وفصام إجتماعي شامل، وإنفصال كامل عن الواقع، وربما فقدان كامل للاتصال بالحياة الحقيقية، في حالة من الذُهان الجماعي الشامل.


----------------------

* كُتبت هذه المقالة قبل إنتفاضة 25 يناير 2011 بفترة وجيزة، ورغم تغير كثير من التفاصيل التي على رأسها سقوط جدار الخوف، وتقدم قطاع كبير من الجماهير العربية لساحة الفعل مرة أخرى، إلا أن الرؤية العامة فيما يخص موضوعتنا الأساسية المُتعلقة بالإنتماء الكُروي تبقى صحيحة، ولا يغير "الألتراس" المناضل – في خصوصيته المصرية - من النتائج العامة؛ حيث تبقى ثوريته التي ظهرت مُؤخراَ ضمن العرضي والثانوي والإستثنائي من الظاهرة، بالنسبة لتكوين تنظيمي مُحايد في وعيه الإجتماعي ويميل للفاشية في نمطه؛ فلا تغير الطبعة المصرية من طبيعة توظيف الإنتماءات الكروية !! وربما تطلب الأمر دراسة مُستقلة لتناول خصوصية الإلتراس المصري؛ الذي بزغت ثوريته من إحتكاكه الدائم بالشرطة المصرية المُتجبرة !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران


.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل




.. إيران تزيل القيود على حركة الطيران في المطارات إثر هجوم إسرا


.. استهداف الاحتلال الإسرائيلي بعبوة ناسفة عقب اقتحامهم مخيم نو




.. الوكالة الدولية للطاقة الذرية: نؤكد عدم وقوع أي ضرر للمواقع