الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حضور الغياب.. صفحات مصرية

رويدة سالم

2012 / 1 / 31
الادب والفن



وعدني الكاتب لما قدم لي أولى رسائل الغرام بمنحي مقابل كل نص يفضح هوان الإنسان في شرقنا التعيس، كل الحب الذي تحتاجه روحي الحيرى.. وكم أحتاج التحليق في عالم خرافي يسكن أحلامي منذ كنت صبية. كم حلمت طفلة وشابة بهذا الحب المجنون الذي لا يستكين لأي حدود.. لعنتي الأبدية التي لا أجد منها مناصا.
لأجله كنتُ سندرلا التي يجعلها الحب كل يوم أكثر بهاء.. كنتُ الأميرة النائمة التي تولد مع كل قبلة.. كنتُ عروس البحر الرقيقة كقطرات الماء التي جبلت منها والتي تتحول إلى زبد لتحمي مراكب حبيبها من الغرق. لكني من اغرق المراكب...
- ما أعذب ذكرى هواك أنيس.. وما أغبى قراراتي...
البعد قرار إعدام نهائي فقد بعده قلبي القدرة على النبض كما فقد جسدي القدرة على الحب..
حب تراه أختي انحلالا وانحرافا عن شرع الله وأراه قدرا شاركني فيه كثيرون منذ اكتسب الإنسان القدرة على تحليل الأمور وقول "لا" في وجه كل ثابت مطلق يدعي القداسة ويمنع الخروج عن القطيع.
- لا تلعنيني أختي الغالية ولا تعتبريني غانية..
أنا مثلك تماما صنيعة قدر لم يترفق أو ظرف موضوعي غبي.
بعد الثورة، لبسِتِ هذا الرداء الخليجي وتزوجتِ زواجا عرفيا من رجل امرأة أخرى وقلتِ أنه حلال وقدمت الفتاوى..
في شرعتي، أنيس إله ككل الآلهة قداسة وسطوة.. قبل أن يوجد الكون وُجد لحن عشقي له.. عشق ملك روحي دون أن تشعر أنها تُحتل أعنف وأروع احتلال ومن هذا اللحن الرائع خُلقت الحياة الرافضة للمعايير الثابتة..
فهل أنا مذنبة؟
ذنبي أن حبي كان بلا أمل وكنت اعلم انه ألم متواصل لن ينتهي..
ذنبي أني تنازلت عنه وهربت من المواجهات.. ضعفت أمام ظرفي الموضوعي فحطمت حبا وجرحت قلبا كما ضعفتِ أنت فقبلتِ باسم المقدس أن تمنحي جسدك لأخ في الله قدم لك بعض القرآن مهرا وأهمل إعلام عائلات تنتظر الفرحة الكبرى بأسرة تنشأ وأطفال يملئون الدنيا بسمات.

حاولت أن أهرب من ذكرى هواه لأوراقي المتناثرة.. أن ارسم وجوها أو أخط اعتذارات لكن تكسرت كل أقلامي وبعثر الألم أوراقي.
وقفت أمام نافذتي ونظرت إلى السماء. في سكون الليل حيث تنبض نجوم في رقصة رحيل نهائي وتولد أخرى.. لما يصير الكون كله جزء بسيطا منا.. نحتضنه في خيالنا.. نسمع همسه ونؤثثه بالأحلام.. بحثت عن أنيس.
ربما يقف الآن مثلي أمام نافذته يتأمل النجوم ويحادث القمر وينتظر قصصا لن تصل..
ربما يلعنني لأني حافظت دوما على نصيب كبير من الغباء القادر على هدم كل المعابد.
فجأة لاحت لي عيونه الجميلة التي سحرتني دوما. ابتسم. رقص قلبي. إنه يعود. أنه يغفر تخاذلي وضعفي. امتدت يده وداعبت خدي. شعرت بالأمان. أغمضت عيوني وتمددت في كفيه. ترددت في أعماقي آخر كلمات كتبها لي:
- " مساء الخير حبيبتى
وصلتنى القصة وتأثرت بها كثيرا وفهمت الرسالة التي تريدين توصيلها. هذه الرسالة القصة أصابتني بارتباك شديد جدا. تلاطمت أحاسيس كثيرة وهزتني بمشاعر شتى.

بالفعل أنا مضطرب ولا أريد أن أكون قاس وظالم مع احد
أعذريني على ارتباكي فأنت صدرته لى بكفاءة
احبك دوما"
انتفضتُ كعصفور ذبيح.
كم عانى أنيس بسببي وكم كانت آلامه عنيفة وكم كنت قاسية لكني لا اقدر أن أكفر عن قسوتي ولا أن أغير قدري.
- هل أنا امرأة من يقترب منها يتشظى.. أنثى العشق الملعونة التي تحمل الموت بين شفتيها.. عشتار التي تقتل تموز رغم أنها بدونه لا تقدر أن تستمر. La femme fatale الأنثى الشبقة التي لا ترتوي والتي تدفع بطلها إلى الجنون؟
جمعت أوراقي وحاولت أن ارسم وجها.. وجها جميلا لذكرى فرحة تنشر الأمل.. وجها سعيدا لشابين رايتهما يوما في القطار.. عصفوري حب حالمين يتناجيان وبنت صغيرة تنام في حضن الأم تغمرهما بسحر غريب. تتحدان حد الذوبان البنت. تتماهيان في لحن واحد وتتفرعان في نغمات منفردة لتنثرا في الفضاء المحيط بهما المتعلق بأدق حركاتهما زهرا لطيفا عذب الأريج. مددت يدي ومسحت على رأس البنت الوديعة النائمة في أمان وسكينة. نظرت لي الأم باسمة فقلت:
- ربنا يحميها.
ردت باسمة:
- يا رب.
طوقتها ذراع حانية فالتقت العيون وتعانقت الأرواح ورأيت فصلا رائعا من قصة حب يتضاءل أمامه عشقي حتى الذوبان.
تعددت الكلمات وانسابت على الصفحات البيضاء تلطخها. فجأة توقفت عن الكتابة. طردت الصور البديعة، التي تتراءى لي، بعنف. ألقيت القلم ومزقت الأوراق ورميتها في سلة المهملات.
عجزت عن رسم ما يعتمل بداخلي. سأتأمل الليل لأنه يجعلني أقرب إلي أنيس روحي. اقتربت من النافذة وضعت يدي على حافتها وأسندت راسي إلى كفي لكني لم اقدر أن أغازل النجوم التي تعانقها عيونه في مثل هذه الساعة من الليل.
بدون أي دافع صرت أهرول بين النافذة والسرير والطاولة. لا استقر في أي مكان. أفيض بأنيس وبوطن على كف عفريت.. بألمي وأحلامي المجهضة وبوطن تسري فيه الحركات التكفيرية الإقصائية كالسرطان الذي يصارع الزمن ليتمكن من أكبر حيز ممكن للفعل. حركات قسمت البلاد في خطابها السياسي لأنصار مباركين ومفسدين أعداء لله وللوطن.
- وهل ُوجد يوما في الخطابات السياسية الدينية المالكة للسلطة أدنى مجال للحريات الفردية والأخر المختلف وكلمة "لأ"؟
مرارة قاسية تخنقني. ترى ما كل هذا القلق الذي يعتريني؟
ربما الغيرة من الشابين تملكتني وفضحت حقيقة عشقيَّ الوهم.
ربما لأن الأحلام مهما كانت عذوبتها تُسرق يوما فيكون التشضي قاسيا مؤلما.
ربما لأني مذنبة تركت ساحات الصراع الفعلية لأبحث عن بعض أمان في هذا الركن المنسي عند ساحل المتوسط ككل جبان يسلم القيادة لأول من يعد بحمايته وبتوفير حقه في الكرامة.
ربما لأننا شعوب سكنها قهرها عميقا فلم تعد ترى في السعادة موضوعا مهما للحديث: نحب أن نسمع حكايا الألم واجترار الأحزان.. نطرب لأغاني حب تردد ألام الفراق والخداع.. نستعذب التذلل بين يدي الحبيب المتجبر المتعالي الذي يرانا كائنات تستحق الشفقة.. أن نكون تابعين لا ندا في الكرامة والقرار. حبيبنا يرسم قدرنا وساستنا يقودوننا بحمد الله فلماذا الشقاء والإصرار على اتخاذ القرارات ما دمنا لا نقدر أن نكون سوى تابعين فاقدي الإرادة؟

بعد تردد مؤلم، عدت إلى أوراقي الممزقة أجمعها. كرسام تلاعبَ بالألوان حينا ثم وقف يتأمل الخطوط ابتعدتُ قليلا وتأملتُ الصفحات.
هالتني النظرة الكسيرة التي وجدتها بعيون "بهية"، في وحدتها مثلي، تنتظر برجاء حلما لن يتحقق.. كم استرقت النظر إليها من وراء ستار غرفتي. كانت دوما تقف على عتبة الباب المشرع تنتظر حزينة عودة الابن الوحيد. امرأة بائسة في الستين، تقطن في بيت صغير عند أطراف حي فقير منسي في مدينة أسوان. عجوز أنهكها الزمن والألم ولكنها لم تمل الانتظار.
وما الذي يمتلكه البؤساء سوى انتظار فرج يعلمون مسبقا انه لن يأتي وحتى "إن رحم الله" فأوانه قد فات؟
في بداية سنة 2011 بعد أحداث ماسبيرو أرسل لي بعض الأصدقاء دعوة مفتوحة لزيارتهم فحزمت حقائبي وسافرت.
هناك عرفتها ووجدت فيها بعضا مني.
كانت امرأة تحمل في وجهها المجعد ركاما من ذكريات. ذكريات تاهت أغلب تفاصيلها ولكنها ظلت الزاد الوحيد المتبقي القادر على منح قطرات ندى تعيد بعضا من حياة لنستمر في واقع قاس وبين مسافرين كثر رُسمت على ملامحهم الحاجة.. قدرهم التيه في بعض المحطات التي تمر سريعا ولا تنتظر.

تنهدتْ بحرقة. التفتتْ إلى الباب الموصد. خُيل لها أنها سمعت طرقا خفيفا. ربما عاطف قد عاد. قفز قلب الأم الثكلى طربا.
- أتراه يعود؟
انتظرتْ وبصرها شاخص. ارتفع وقع أقدام تسير مهرولة أمام باب الدار. لمعت عيونها.. تنهدت بعمق وزفرت:
- أتراه عاد؟
قال يوم رحل انه لن يبتعد كثيرا وأنه سيبقى أبدا يطوف بهذا البيت الصغير يملئه دفئا وأمانا. ارتسمت على الوجه الشاحب المثقل أثار ابتسامة.. في بلد فقد فيه البسطاء شكل البسمات.. في وطن اغتصب فيه الساسة وأذنابهم الفرح والأمل والأمان. ضاعت سبل الحياة في مجتمع يمتهن الموت.
وقفت تلك السيدة تنتظر ككل النساء.. تنتظر أن يزهر الربيع وتعود الطيور وترتفع الألحان. بصوتها الحنون رددت بخشوع مضطربة شاردة حيرى صلاتها التي لا تنتهي :
- متى تعود حبيبي وتصلح هذا البلور المكسور. غزت الرمال حقولا كانت خضراء وعششت في البيوت المتداعية والقلوب الظمأى للأمان. إني أرض عطشى في بلاد لا تعرف قطرات المطر. بلاد كانت روضا وصارت مقبرة للقلوب الرقيقة للبشر.
تسرب هواء ليل أواخر جانفي البارد. لفح وجهها. سرت رعشة بأوصالها. ابتسمت لذكرى. مر طيف باسم من سني الشباب بخيالها المثقل بالفراق المتكرر. طيف غير كل الأطياف. طيف لوجه مشرق يتحدى في إصرار زمنا أدمن الألوان الواحدة والأشجان. زمن غير كل الأزمان. زمن استوت فيه كل القيم والمسميات في وطن فقد الذاكرة. ككل شباب السبعينات من القرن الماضي حمل هموم وطن وأحلام شعب وأملا ورديا في سلام وأمان سرعان ما خنقته السياسة والحكام والتعصب الأعمى للمعتقد.
تناهى إليها في سكون الليل الحالك صدى صوت قادم من الماضي.
- بحبك يا بت. يا وطنا وحلما. قومي من تحت الردم ولنبني مستقبلا ولنحلق مع الطير الشادي.
رددت كرجع الصدى :" بحبك، بحبك... "
كم كان وقع الكلمات رائعا في خلوات كانت تسرق من الرقباء. كما تتفتح الزهور الربيعية في الحقول الخضراء كبر الحب.
سالت دمعة. رسمت على الخد آهة وأيقظت بالقلب جراحا. رفعت يدا مرتجفة. وضعتها على فمها لتكتم صرخة تأبى البقاء في صدرها. ستوقظ تلك الفتاة النائمة فوق الأريكة المهترئة.
هل نسيتها في زخم ماض يلح على الحضور؟
التفت إليها. دنت منها. مسحت على كتفها، فوق الغطاء، بكل رقة الأم وحنانها. مدت يدا مضطربة لقارورة دواء. لم تتبقى سوى حبة واحدة. همست بأسى:
- فرجينيا انجديني. "أمل" تموت.
لكن فرجينيا لن تسمعها. لن مسح دمعها مشاكسا. لن تطرق بابها في عتمة الليل في بداية كل شهر لتقدم بعض المال.. لن تعالج المحتضرة في هذا الركن المنسي ولن تمنحها ما تحتاجه من دواء. رحلت مع من رحلوا في تفجيرات رأس السنة. حملت طفلها الصغير بين ذراعيها.. طوقته لتحميه من الشظايا المتناثرة لكنها لم تقدر أن تنقذه.
نظرت إلى السقف. تنهدت بمرارة وناجت وحيدها:
- هذا كل ما تبقى من طفولة سعيدة يا عاطف. هل ستحتمل النظر في وجهها لما تعود؟ هل ستعيد لطفلتي وجها كان آية من جمال؟ هل سيعود شعر حريري ألتهمته نيران العذاب والقهر في بلاد تخنق صباياها وتقتل الأطفال؟
عاد القرع الخفيف على الباب ليملئ كيانها. انتبهت من هذا الشرود الذي ألفته. انه قد عاد أخيرا. سيصلح البلور المكسور وتورق شجرة التفاح وتزهر. منذ زمن لم تخضّر أغصان هذه الشجرة التي غرسها مع والده لما كان طفلا. سقف البيت أيضا صار يقطر والمزاريب كُسرت. ارتجفت يدها لما وضعتها على القفل. همست:
- "عاطف ولدي" ...
تراءى لها الوجهان معا في اتحاد غريب. متناقضين حد التنافر متحدين حد التداخل. وجهان لوطن. وطن سحقت ذاكرته السياسة والتعصب والأديان. أيهما قد عاد، الحبيب أو الابن الذين حرمها منهما الدين..
- غفرانك اللهم ولا مرد لقضائك.. أنت شئت وقدرت فالحمد لك.
- لماذا تكابرين أيتها العجوز؟ أهو الخوف من الموت ومن لقاء الثعبان الأقرع أم إيمان عجزة يكون فيه حتى مجرد الاعتراف بأن الدين هو من سرقهما خطيئة؟
رددت دوما أن حياتها كانت سلسلة من الاختبارات الربانية ثبت إيمانها فيها رغم قسوتها.
لكنها نسيت أن تعترف أن التعصب الديني هو الذي أخذهما بعيدا وتركها في ركنها المنسي مع شبه إنسان ملقى في إهمال، متعفن ورائحته قذرة تملئ البيت برائحة اللحم المحترق؟
فتحت الباب فلم تجد أحدا. ربما بعض الأطفال المشاكسين أو قطرات مطر مجنون أراد أن يعبث بمشاعرها التي عبرت كل أزمات الحياة وبقيت متيقظة حالمة.
وقفت كعادتها عند الباب تراقب المطر المنهمر. ستنظف أرضية الغرفة المبللة لما تكف الأمطار.. الأواني التي تجمع فيها الماء المتقاطر من السقف امتلأت وعليها أن تفرغها قبل أن يصل الماء إلى باقي الفراش فتبتل "أمل" وربما تتعكر صحتها أكثر. شرعت بهمة في إفراغ الأواني وإعادتها إلى مواضعها لتحمي البنت النائمة..
أمل التي حمتها بدمها من البيع في أسواق النخاسة لبعض أمراء الخليج القادمين من الصحراء بحثا عن صيد لذيذ طري أنهكه الفقر والفاقة فعرضه أولياء أمره على قارعة الطرقات.
أمل بنت الستة عشرة ربيعا التي تزوجت مرغمة رغم حداثتها وعادت إلى البيت قبل أن تنهي سنة واحدة في بيت الزوجية شبه إنسان التهمت النيران اغلب جسدها الغض.
من يقدر في بلد سحقته الحاجة والتجهيل المنظم على منح الأمل. من يقدر أن يمد يدا لإنقاذ أمل من وجعها. البلاد ورثها تجار برعوا في عرض كل القضايا التي لا تمس أساسيات الحياة فيها. تلك القضايا التي رحل بسبب إهمالها عاطف الحبيب والتي اختطفت عاطف الابن والتي مسخت بنتا كانت تحمل بقلبها ربيعا من الأمل والحب والبسمات.
نسيت الباب مفتوحا. دخل البرد وجاب أركان الغرفة بقسوة وسفور. أنت الطفلة النائمة وتململت. انتبهت.. عانقت فتاتها بنظرة حانية وأغلقت الباب. اقتربت منها.. مررت أصابعها برفق على بقايا الشعر الحريري ففتحت أمل عينيها المثقلتين ورسمت بألم شبه ابتسامة على وجهها الصغير وهمهمت بكلام مبهم. ابتسمت. قبلتها وشرعت تغني بصوت اقرب للهمس
"هينا مقص وهينا مقص
هبنا عرايس بتترص
فيهم واحدة شامية
شعرها ضانى ضانى
لفيته على حصانى
وحصانى فى الخزانة"
هدأت البنت وأغمضت عيونها وعادت لنومها المضطرب.
لما سيعود عاطف ستخبره كم عانت أخته في بيت زوجها الشيخ الجليل. شيخ ربع القامة كث اللحية بيده سبحة وعلى جبينه سمات التقوى والتجهد والصلاة. كم أحبه وكم حدثها عن صلاحه وكم فرح لما طلب الشيخ يد أخته للزواج.
لكنه لم يكن أبدا زوجا صالحا. كان شاذا عنيفا مزاجيا محبا للنساء والطيب. هربت من بيته وكان عاطف يعيدها كل مرة. لم يكن أمامها للتخلص من عذابها إلا الانتحار لكنهم أنقذوا الجسد قبل الاحتراق الكلي.
- فهل هي مذنبة في أعرافكم أيها البشر؟
هل يُصلح الندم أخطاء الماضي وهل تملك بهية لو منحت فرصة إعادة بناء حياتها أن تمنع هذا الزواج الغير متكافئ إن لم تقدر أن تنقذ أرواحا أهدرت مجانا؟
والد عاطف رجل بسيط وطيب حد السذاجة. بهره علم الشيخ العائد من بلاد الحجاز.. بلاد أسمي العلوم الإنسانية على وجه الإطلاق.. العلم الذي يجعل البشر في مستوى الأنبياء في الجنة. العلم الذي وعد أن يمنحه للطفل النبيه لكي ينشر اسم الله ويحارب أعداء الله حتى لا تنتشر في الأرض إلا راية لا إله إلا الله..
علمه صغيرا أصول الدين وجعل منه لما شبّ قنبلة موقوتة. بارك الوالد ذاك الحب في الله ولم تعارضه لكنها بقلب الأم كانت تخشى خلوات الشيخ بذاك الجمع من مريديه الأطفال.
كيف لها أن تمنح ثقة في مجتمع ينتهك الأطفال. مجتمع منافق لا يحترم الإنسان. لا زالت تذكر مقتل عاطف جرجس الشاب الخجول الذي كانت تراه كل صباح ذاهبا إلى مدرسته لما تخرج إلى السوق لبيع الملابس النسائية مع والدتها..
سكنت أسرته في ذاك الزمن الجميل، زمن الطفولة البديع، الشقة المقابلة لبيت والديها. فرجينيا أخته الوحيدة الرقيقة كالنسيم كانت اقرب البنات وأوفى الأصدقاء دوما. في كل مساء تلتقيان في ساحة الحي. لعبتا دوما معا ولم تفهما يوما أن بين النصوص ما يحرم وحدة روحيهما البريئتين. كانتا تلتقيان يوميا وككل الأطفال كانتا تتخاصمان وتلعبان وتضحكان وتتقاسمان قطع الحلوى. ظلت رغم كل الأحداث روحها التوأم. معا كبرتا. جمعتهما أخوة نقية وطفولة عذبة وذكريات مشتركة وحب عاطف.

لا تعلم متى بدأ الحب ينمو في قلبها لكنها تذكر أنها ذات مساء باحت لأمها بحبهما وبحلمهما بالزواج فضُربت بالنعال حتى سال الدم من جسدها ثم عُقد قرانها على صبي أبيها الأعرج الذي يقف طوال اليوم وسط المحل يستقبل الزبائن أو يطرد الذباب.
والدها صاحب محل بيع الفلافل كان قويا وضخم الجثة.. لم يكن يزورهما كثيرا بسبب زوجات الأصغر من أمها واللاتي يتقن سبل الحفاظ عليه لكنها رغم غيابه كانت تخشاه.
بكت وعاطف حلمهما الذي يُزهق. شاركتهما فرجينيا مرارة الألم.. بحثوا ثلاثتهم عن قلب مترفق رحيم ينقذهما.. لم يكن من مجال أيسر من الهرب.
قبل الفرح بأسبوع فرا لكن الأب استعادها بسرعة وبعد تلك المحاولة الفاشلة بأيام أشيع خبر قتل القبطي الشاب مع آخرين من قومه كانوا يتجولون في بعض الحقول من طرف أشخاص مجهولي الهوية لم يقدر احد على كشفهم وتقديمهم للعدالة كما لم يكترث لمصرعهما المحافظ لحماية كرسي دفع في سبيل الحصول عليه الكثير من العطايا.
قيل أنهم قتلوا لأنه أهانوا نبي الإسلام والمسلمين وقيل أنهم أعلنوا إسلامه فقتلهم أهلهم انتقاما وخلقوا بموتهم فتنة لكنها تعلم من قتلهم وما هي أسبابه. منذ ذاك اليوم الحزين تجنبت اللقاء بوالدها وعصابته لأن يديه كانت معفرة بالدم.
عاطف كان مسالما محبا للكل وكان وطنيا لكن البلد برع في امتهان الإنسان ومحاكمة الخارجين عن القطيع.. بلد يدوس بنعال قذرة حقوق الأقليات و لا يقبل إلا الصوت الواحد والولي الواحد والحقيقة الثابتة أن "لا إلها إلا الله".
بلد بفضل الساسة والمصالح البرجوازية القميئة صار وطنا للأحقاد والطائفية والصراعات الدينية يُقتل فيه الأبرياء والمنبوذين والاحرار لتنمو طبقة السادة وكهنة السلطان الذين يحمون سطوتها بسمات الورع والتبتل في الله في حين يجوع عموم الشعب ويغرق في دماء الفرقة والصراع.

قتل عاطف لم يئد علاقتها بفرجينيا ولم يقتل طيبة طبيعية في الأخت المكلومة. كانت الوحيدة التي حمتها من غوائل الزمن.. الوحيدة التي ساندتها في كل اختبارات حياتها وفي علاج "أمل". فهل تنسى فضلها؟ هل ستقدر أن تنظر في عينيها لما تلتقي بها في الجنة؟ لم تقدر أبدا أن تعترف لها أن أباها هو قاتل عاطف فهل ستقدر أن تخبرها أن ابنها هو من أزهق روحها مع ذلك الطفل البريء بين ذراعيها عند خروجهم من الكنيسة؟ وهل ستسامحها فرجينيا حينها على دماء سالت بدون وجه حق فقط لأنها مختلفة؟
رحيل عاطف جرجس وفرجينيا والطفل الصغير وكثيرون غيرهم لم يُغير شيئا من واقع مترد ينحدر إلى الهاوية بالتدريج ودون توقف.
هل حياتها مع زوج لم تختره ولم تحبه رحل بدوره وتركها وحيدة تصارع دنيا قاسية يرسم فيها الفقر كل ألوان المعاناة تكفير عن خطيئة؟
هل رحيل ابنها ملوث اليدين بدماء أبناء الوطن بدون أي ذنب سوى وراثة معتقد صار هوية لأنه رمز لطفولة سعيدة في حضن الماما والبابا صك غفران لها من طرف رب رحيم؟
هل هذه الميتة رغم بقايا نبض، "أمل" المقعدة والعاجزة والتي كل ذنبها أنها لم تحتمل وتصبر على قسوة زوج غبي جاهل ليست اختبار لأيمان؟
كم تشتاق إلي كل من رحلوا وما أشد حضورهم رغم السنين والبعاد والفراق.
رحيل عاطف الحبيب وعاطف الابن في أحداث دموية عدوانية ليس سوى حلقات صغيرة في نهر النزيف المستمر إلى اليوم، بعد ثورة ما يسمى بالربيع العربي.
إنها بعض من تجليات وطن متشرذم يُحرك فيه حواة حاذقون باسم السياسة والدين المواطن البسيط كعروس ورقية على مسرح هزلي كبير.

لم تتغير يوما كراسي الحكومات رغم كل الانتهاكات لقلوب كل همها مستوى وجداني راق من المحبة والتوافق والاحترام لإنسانية الإنسان يمنحها السعادة والقدرة على التحليق في عالم وردي متصالح مع ذاته، بعيدا عن كل فرقة وتمايز غبي.
سألت الأستاذ سليم لما التقيت به:
- ما نصيبنا في تونس من هذه المجازر أستاذي؟
- التصريح داخل المجلس التأسيسي، دون إنكار رسمي واعتذار علني من طرف العضو المنتخب لكتابة الدستور، الذي قال أن المعتصمين والمخالفين للحكومة التي تدعي امتلاك الشرعية أعداء لله والوطن ثم مطالب بإقامة الحد عليهم هو بداية النزيف. التكفير وإعلان العداوات طال تونس وستَفتح مصانع تفريخ القنابل الموقوتة أبوابها تحميها شبكات مشبوهة كانت تحمي الأنظمة الشمولية السابقة دون اكتراث لمن سيتساقط من قتلى مظلومين سيرحلون بين مطرقتها والسندان تماما كبقية الضحايا المغيبين من أمثال الابن الذي انتهكه شيخه طفلا وشابا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الأستاذة رويدة سالم المحترمة
ليندا كبرييل ( 2012 / 2 / 1 - 06:15 )
أبدعتِ عزيزتي .. عرفتُ رويدة المفكرة وإذ بي - وقد تعرفتُ إليها من قبل بالتأكيد - أندهش اليوم أمام النص ، بأبطاله ، بأحداثه ، حتى باختيار الأسماء والأماكن
لا تتصوري كم وجد صداه في نفسي، لا سيما في المقطع الأول ولا أدري أين تقف حدوده
كلما أوغلت في القراءة كلما اكتشفت أشياء تردد صداها في نفسي بقوة فأعطيتها أبعاداً من نفسي ما أعطيتُ
قيمة المقالة أي مقالة من العيون القارئة والمشاعر التي يضفيها كل منا فتزداد الأحداث ثراء وعمقاً
التقيت اليوم بمقالة فنية بددت بعض الغيوم في سمائي ويا لسعادتي أن تكون رويدة بذاتها مَنْ تكتبها
أتمنى أن تزيدينا من اللمحات الفنية الرائعة التي تناثرت بين جنبات هذا النسيج الأدبي
شكراً تونس الخضراء الندية .. ظنناهم سيأتون لنا من الشرق فطلع الأدباء والمفكرون علينا من الغرب ، فالتفتنا إليكم بكل الإعجاب
شكراً عزيزتي رويدة .. لك حبي وامتناني ،


2 - انتى ترسمين المشاهد بشحنة رائعة من الألوان
سامى لبيب ( 2012 / 2 / 1 - 11:34 )
أبدعت عزيزتى رويدة كعادتك
هل تعرفى الفن التشكيلى التأثيرى يا رويدة .. إنه الرسم بشحنة هائلة من الألوان فتتحسى اللون وتجدى عند كل جزئية من اللوحة معزوفة لونية ثرية .. التأثيرية هى ذلك الثراء والتناغم والصراع اللونى مما يحقق متعة رائعة للعين
أنتى تكتبين القصة والمشاهد مثل هذا الفن التشكيلى التأثيرى لتبتعدى عن معظم القصاصين الذىن يسردون مشاهدهم كالفن التشكيلى الكلاسيكى .
ثراء هائل فى كل مشهد كتبيته فى القصة ليمتلئ بالمشاعر والأحاسيس المتدفقة الساخنة فلا تكتفين بمشهد واحد بل تدفعى مشاهد كثيرة وثرية بمحتواها لتقدمى وجبة دسمة تداعب الخيال والعمق الإنسانى
كما أن الفن التشكيلى التأثيرى يمكن مشاهدته مرات عديدة لنجد فى كل مرة مواطن ومساحات لونية جديدة ورائعة لم ندقق فيها بالمرة الأولى كذلك مشاهدك من الخطأ قرائتها مرة واحدة ففى كل مرة سنجد صور عميقة ذات ابعاد والوان
تخطى خطا جديدا غير معتاد فى كتابة القصة فالأمور بالنسبة لك جدلية وممتزجة ببعضها وهذه هى الحقيقة فلا تمارسى التعاطى مع المشهد كما يكتب القصاصين ولكن يجد له إمتزاج سلس وعميق مع المجتمع والوطن والثقافة والدين
رائعة انتى عزيزتى رويدة


3 - لوحه فنيه مليئه بالمشاعر الانسانيه
فؤاده العراقيه ( 2012 / 2 / 1 - 19:12 )
عزيزتي رويــــدا
كلمات تبدو صادقه ونابعه من قلب نازف اوصلتي بها لوعه مريره من جرح ترك آثاره العميقه , مناجات انسانيه تحاكي النفس بعمق المحبين وبلهيب من اكتوى بنار المحيط القريب والبعيد وتخاطبين وجدان العقل بنعومه وبلاغه , وأضفت بها الوان عديده ودمجتيها بهذه اللوحه فضربت عدة عصافير بحجاره واحده , واصفه بها حاله نفسيه بائسه مع همه عاليه تقاوم هذا البؤس الحاله مممم بها نقد لعاداتنا الباليه ومنها نقد لسلبيات وتأثيرالديانات علينا ومنها نقد لثقافة مجتمع سكن على افكار لم تعطيه سوى البؤس والحرمان وهو سكران في خرافات موروثه
آهات مليئه بهموم العاشقين
اول دخولي للحوار لفت انتباهي اسم رويدا وليندا وسامي لبيب ,وزاد اعجابي بكم اليوم ويستمر بالتزايد بهذا الوعي الفريد , فتحياتي لكم وانتم تجتمعون هنا
احييك اجمل تحيه ولا يسعني سوى ان اسجل اعجابي بأسلوبك في الكتابه بل هي ليست كتابه ولكن رسم لوحه يغلبها وعزف على اوتار الروح


4 - الاساتذة ليندا وسامي وفؤاده الف تحية
رويدة سالم ( 2012 / 2 / 2 - 20:05 )
عزيزتي ليندا الغالية
ممنونة لكل ما قلتيه بحقي
أجد ان كتاباتك الادبية رائعة وتعالج العمق الانساني بحرفية
أتمنى ان اقدر ان اقدم معاناة بعض البشر كما أراها في عالم لا يحترم كرامة الانسان وانسانيته

استاذي العزيز سامي
لك الفضل الكبير استاذي في دفعي للكتابة منذ البدء ثم تشجيعي وتوجيهي المتواصل. ممنونة لكل ما تقوم به ولأنك تشد عزمي كلما غزاني الكسل.
ارجوا ان يكون كل ما أقدمه بمستوى توقعاتك
خالص احترامي وممنونة لك كثيرا

عزيزتي الفاضلة فؤاده
لك جزيل الشكر على التقريض والذي اتمنى ان اكون بمستواه
على المرء ان يحاول ان يكون ذا تأثير على واقع قاسي يمتهن الانسان واعتقد ان مجرد فضح بعض السلوكات هو محاولة لتقويمها
لك خالص المودة والاحترام


5 - ...الشيء من ماتاه لا يستغرب
محمد حمدي ( 2012 / 2 / 11 - 00:01 )
حقيقة لا أعرف، هل أهنأك أو أشكرك... على هذا الحس المرهف، على هذا كل هدا الاخلاص في المشاعر،. قرائتي الثانية لهذه الرواية استدرجتني لكي اتعرفف على ما كتبته سابقا. اختيار رائع جداااااااااا للأسماء و الامكنة والأغفكار المسترسلة التي تنمّ على هذا الحس المرهف الذي تحملينه، دمت وفيّة لمشاعرك على أمل أن أقرألك المزيد من الأعمال.
كلي ثقة فيك


6 - العزيز محمد حمدي
رويدة سالم ( 2012 / 2 / 11 - 11:10 )
شكرا لمرورك صديقيوشكرا لكل ما قلته بحقي
اعتقد ان على المرأ ان يلج في العمق الانساني ليبين مدى الظلم الذي يتعرض له المستضعفون والمهمشون
هو حجر بسيط في برك الماء الاسن الذي يخنق الامل والفرح والحياة في كل مظاهرها

دمت بخير سيدي الفاضل

اخر الافلام

.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح


.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال




.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص


.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..




.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما