الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أدونيس .. الشاعر الجائع

عادل بشير الصاري

2012 / 2 / 7
الادب والفن


عادة ما تخدع ألفاظ القصيدة الحديثة القارئ المتعجل ، فيأخذها بدلالتها الظاهرة ولا ينتبه إلى ما تخفيه من دلالات أخر ، فعندما يقرأ هذا القارئ قصيدة ( حديث جائع ) مثلا ، وهي من القصائد القديمة لأدونيس ، يذهب تفكيره على الفور إلى أن الشاعر أراد تصوير فقره وبؤسه ، وقد يساعده على هذا ما يعرفه عن الحياة البائسة التي عاشها الشاعر، فينصرف بذلك عن البحث وراء الألفاظ مكتفيا بالظاهر منها :
قال أدونيس في ( حديث جائع ) : ( 1 )
جوعانُ أرهقني المسيرُ
وانفتَّ قلبي
يا جوعُ ، سُدَّ عليَّ دربي
حتى يقرَّ بيَ المصيرُ
***
متفسخُ القدمين ، مسلولُ الطريقِ
متيبسُ الأعماقِ والدمِ والعروقِ
أمشي كمن يتقهقرُ
وبحالهِ يتعثرُ
***
مالي أسيرُ ولا أسيرُ
ويُشار لي : هذا فقيرُ
جمد الزمانُ على يديْ
جمدتْ يديْ
وتهدّلت عيني وجرّحها السؤالُ
وإذا تشرّبني عذابي
وانهدَّ في صدري شبابي
جمّعتُ حالي وانطويتُ
وعلى تهدميَ ارتميتُ
***
جوعانُ ... يأكلني النزيفُ
ويعيشُ في دميَ الخريفُ
ويكاد ينكرني الغدُ
والموسم المتجددُ
ويكاد ينكرني الرغيفُ
في هـذه القصيدة مجموعـة مـن الألفاظ التي يمكن أن تضلل القارئ المتعجل عن الوصول إلى ما يتخفّى وراءها من إيحاءات ، ولكن المتلقي الفطن عادةً ما يتجاوز الدلالات المباشرة للألفاظ ، ويقوم باستنطاق طاقاتها الإيحائية.
إن قاري الشعر الحديث لا ينبغي له أن ينتظر من الشاعر أن يكشف له عن قصده ومضمون كل قصيدة يكتبها ، فالشاعر عندما يفرغ قصيدته على الورق تصبح القصيدة ملكا مشاعا للقراء يؤولونها كما شاءوا على حسب قدراتهم وملكاتهم النقدية والذوقية ، لذلك فإن القصيدة الواحدة قد تتعدد تأويلاتها بتعدد قرائها ، فهي لا توحي بمعنى واحد يمكن الاتفاق عليه بين القراء.
وقد نبّه الشاعر الفرنسي بول فاليري إلى أن (( من الخطأ المضاد لطبيعة الشعر ، بل القاتل له ، أن نتطلب من كل قصيدة أن يكون لها معنى واقعي وحيد هو صورة طبق الأصل من فكرة ما لدى الشاعر )) ( 2 ).
ومن هنا يمكن لقارئ قصيدة أدونيس أن يستبعد المعنى السطحي المباشر للجوع حتى لو صحّ أن الشاعر أراد هذا المعنى ، لأن الجوع ليس مقصورا على جوع البطن فقط ، فهناك أنواع أخر للجوع يمكن الالتفات إليها والاستفادة منها لتذوق القصيدة والتفاعل معها .
ولماذا لا نرى في جوع الشاعر جوعاً معرفياً فلسفياً ، أي تطلع الذات إلى معرفة كنه هذا الوجود وأسراره . أليس هذا الوجود لغزا ؟ ثم أليس أدونيس من بين الشعراء الذين ينظرون إلى الحياة نظرة تأملية ماورائية ؟.
إن أدونيس جاهل بحقيقة نفسه كإنسان وحقيقة ما حوله ، وقد أرهقه البحث عنها ، حتى انفتَّ قلبه ، وتفسخت قدماه ، وتهدلت عيناه ، وتيبست أعماقه وعروقه وانهد شبابه حتى صار لا يقوى على المشي إلا متقهقراً ، وحتى كاد ينكر حاله الجميع .
وإذا ارتضينا أن المقصود بالجوع هنا هو جوع معرفي ، جوع وتلهف الصوفي للاتحاد مع الذات العليا لأجل اكتشاف كنهها ومعرفة خفاياها وتجلياتها في الكون فإن ألفاظاً مثل : ( دربي ـ الطريق ـ الغد ـ الموسم المتجدد ـ الرغيف ) ، يصبح لها دلالة الأمل الذي يرجوه الشاعر وهو الوصول إلى الحقيقة الكبرى والسر الدفين .
وكذلك تصبح كلمات أخر مثل : ( متفسخ القدمين ـ متيبس العروق ـ عذابي ـ تهدمي ـ النزيف ـ الخريف ) ، لها دلالة على المعوقات التي تعوق وصول الشاعر إلى مبتغاه .
لقد استطاع أدونيس في هذه القصيدة أن يصور بلغة شفافة وإيقاع ساحر لحظة من لحظات وَجْده الصوفي وتوقه الأبدي إلى اكتشاف المخفي وإلى قول ما لم يقل من قبل .
ـــــــــــــــــــ
1 - الآثار الكاملة ، أدونيس ، دار العودة ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1971م، المجلد 1 ، ص 18.
2 - عن بناء القصيدة العربية الحديثة ، علي عشري زايد ، وكالة المطبوعات ، الكويت ، ص 36 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تهويمات
احمد جبار الحلي ( 2012 / 2 / 7 - 20:06 )
عنوانك صادم وكانك ارتضيت ان تخادع المتلقي بصرف انتباهه الى واحة جدباء ونفيه عن مفازة مترعه تلك بالفعل ثيمة القصيده المعاصره جحافل من التيه الضارب من التناقضات الى اسوار من المتضادات0 حيث التجذيف في اصقاع موحشه يغلفها السكون ويردح بين ادغالها الوهن ليكون البوح فيما بعد انفاس تجوس بثنايا الغبش المتلالئ 0وهذا مايجنح بالكثير للركون الى التهويمات والانفلات من ربقة التموضع الراكد للمعنى المنحوت بالذهن والناي بعيدا عن اشراقات النفس المتوثبه للانطلاق نحو الاثير 0ربما كان المتصوفه والفلاسفه من اكثر الراغبين في الغوص في دهاليز الرؤيا والبحث في مخابئ المجهول 0 قديكون المعنى متشيئا حد الذوبان والانتظار بحضرة الشهود يغيبه الهذيان0 وتلك المتاهه جذبت الكثير ممن يبتغون الوصول نحو المراسي دون اطمانان او تلقي البشاره ساعة الخلاص لاجدوى كل السهول يلفها وحش الافول 0ادونيس اوالسياب وكثير ممن رانت بهم خدود القصيده العربيه كانت لهم فنارات تتلالاء باطراف الوعي فلايمكن ان نتشظى بكلماتهم دون ان يكون لها بروق متنوعه توقد الانبهار والترقب بعيدا عن المدارك القريبه من مضارب النفس ولحظة النشوه 0

اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير