الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفعل الثّقافي بين التّأسيس لقيم الحداثة وتهديدات ذهنيّة الإلغاء

خليفة المنصوري

2012 / 2 / 20
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


يقاس مدى تقدّم الشّعوب عادة بما تنتجه من الكتب وبعدد الذين يطالعون، وكم من الوقت يستغرقون في القراءة، باعتبار أهميّة هذا المحمل في إنتاج المعرفة والمعلومة، وما يؤسّس له من قيم ومعايير وسلوكات ووعي بقضايا المجتمع ورهاناته الحضاريّة. والكتاب في كلّ الحضارات، وعلى مرّ العصور، يعكس حالة فكريّة وثقافيّة من الانتاجات والتفاعلات الحضارية، ودرجة من الوعي والإدراك بضرورة التّجديد والتّطوير والتّأسيس للقيم الإنسانية المنشودة.
واليوم، رغم هيمنة وسائل الاتّصال الحديثة والمحامل الجديدة للمعرفة والفكر، وإنتاج المعلومة في عالم افتراضي معولم، تبقى للكتاب مكانته وأهميّته كنصّ يحمل شحناتِ ثقافةِ المجتمعِ وهواجسِها وتطلّعاتِها، بما ينتجه من أفكار ومفاهيم قد تغيّر ملامح الحياة، وتؤسّس للقيم الإنسانية المأمولة، فهو يجسّد الفعل الثّقافي الذي يعبّر عن بنية فكريّة متفاعلة وهويّة في إطار التشكّل.
ولعلّ التّعامل مع الكتاب أو التّعاطي معه قد يأخذ أشكالا مختلفة، من التّعامل التّلقائي الفردي، كرغبة ذاتيّة تعبّر عن سلوك يوميّ وثقافة مستبطنة في المجتمع، إلى اعتباره حالة إلزامية تقترن بالواجب الدّراسي أو القراءة النّفعيّة، إلى التّفاعل معه كتوجّه ثقافيّ يعبّر عن حالة من التّأسيس والفعل الثّقافي في مجتمع ما، وهي الحالة التي نودّ تناولها، لما للنّصّ المكتوب والكتاب عموما من تأثير على بنية المجتمع تطوّرا أو نكوصا.
أهمّيّة الكتاب في ترسيخ قيم الحداثة
تمثّل قيم الحداثة إرثا إنسانيّا مشتركا، ساهمت فيه كلّ الشّعوب والحضارات بمرجعيّاتها المختلفة، وناضلت من أجله الإنسانيّة لقرون من الزمن، بهدف تحرير الفكر من كلّ القيود، والتّصدّي لكافّة أشكال التعصّب ومظاهر الإقصاء التي قد تهدّد وجود "الآخر". وقد أصبحت هذه القيم كونيّة تعانق الإنسانيّة باعتبارها قد تخطّت الخصوصيّات والهويّات والثّقافات الصّغرى، لتشمل، بالتّالي، كلّ الحضارات والأمم دون استثناء أو تمييز، ولتتعامل مع الإنسان كـ"مواطن عالمي" تنصهر فيه "الأنا" والآخر"، وتتشكّل فيه "الذات" على التّواصل والتّفاعل مع "الآخر" المختلف والاعتراف بحقّه في التّعارض مع "الأنا". وهو المناخ الذي وقع التّأسيس له في الغرب الحديث كمدخل للمواطنة والدّيمقراطية والتّعدّدية، وكردّ على الاستبداد السّلطوي والتعصّب الفكري والدّيني على امتداد العصور المظلمة. لذلك يمكن القول أنّ قيم التّسامح والاعتراف بالآخر والدّعوة إلى التّعايش المشترك في إطار التعدّد والاختلاف قد تُطرح في مجتمعات تعرّضت في تاريخها إلى الصّراعات الدّينيّة أو الاثنيّة أو الطّائفيّة، وعاشت على وقع العنف والتّعصّب الفكري المؤسّس. كما تطرح أيضا كمدخل لتأسيس مجتمعات جديدة تقطع مع منظومات قديمة في الفكر والسّياسة بغاية إعلاء قيم المواطنة والتعايش المشترك كقيم كونيّة تسمو فوق كلّ التّناقضات والاختلافات والتّمايزات. وهذه القيم يؤسّس لها، عادة، المفكّرون لتنعكس في مستوى كتاباتهم كوعي يكرّس فعلا ثقافيّا تأسيسيّا لمجتمع جديد يستوعب الجميع. ويكون الكتاب الوعاء الأساسي لترسيخ هذا الفكر من خلال الدّور الذي يلعبه المثقّف، لوعيه بقضايا المجتمع ومسؤوليّته في التّطوير والتّجديد، بانتاجاته وإبداعاته، عندما يغلّب ثقافة التّسامح ومبادئ العيش المشترك والحوار والنّقد في إطار "عقد اجتماعي" يكرّس احترام الرّأي المخالف والاعتراف به كشريك مختلف.
والكتاب كحامل للمعرفة والقيم والهويّات، ومعبّر عن تفاعلات وهواجس المجتمع، تبدو أهميته في صنع الفكر والتّأسيس للقيم في سياق تكريس ثقافة ما. ومثلما يوجّه إلى عامّة النّاس ليصنع المعرفة والثّقافة والممارسة والسّلوك ويؤسّس للقيم المنشودة ويحوّلها إلى أخلاق اجتماعيّة، يستهدف أيضا النّاشئة للتّأكيد على جملة من المبادئ والسّلوكات، في إطار ثقافة المجتمع، بهدف صقل الشّخصيّة على أبعاد يراد تحقيقها في إطار الغائيّات الكبرى. وفي تأسيسه للفكر والمعرفة قد يتجاذب الكتاب مسلكان، إمّا وتحرّريّا جريئا، كما حدث في الغرب عندما أسّست كتابات فلاسفة الأنوار للعقلانيّة والجرأة والتّحرّر والإرادة والقدرة على النّقد وتجاوز الماضي والقطع معه، أو دوغمائيّا ارتداديّا إلى الخلف ومنغلقا على الذّات، عندما تمارس السّلطة نفوذها على الفكر لتقيم "سياجا" على النصوص بغاية لجم المفكرين وإسكاتهم أو توجيه مسارهم. وهذان المسلكان هما الذان يحدّدان مستوى تطوّر المجتمع ودرجة الاعتراف بالآخر والتّعايش معه في إطار الاختلاف، ومستوى القطع مع ثقافة الإقصاء والتّعصّب.
مبرّرات التّفاوت في تقبّل الآخر
رغم أهمّيّة قيم الحداثة وكونيّتها، لازال الفكر المعاصر في تناوله للقضايا الإنسانيّة يتأرجح بين توجّه ينتصر لمبادئ العيش المشترك ويستبطن احترام الآخر، وتوجّه نقيض ينتصر للخصوصيّات الثّقافيّة بمنطلقات فكريّة وحضاريّة كثيرا ما تتعارض مع المضامين الأساسيّة للمواطنة العالميّة. وقد يعود هذا التّأرجح إلى التجاذب في بنية المجتمعات بين قوّة الدّفع والتّفاعل الكوني التي تبنى على المثاقفة والإيمان بالقيم الإنسانية، وقوّة الانغلاق والجذب إلى الأصول.
وهذا التّجاذب قد يحيل إلى مستوى تطوّر المجتمع ودرجة استبطانه للقيم الإنسانية الكونية. فإذا كان الغرب قد أصّل لهذه القيم نظريّا وحوّل مبادئها ومُثُلَهَا إلى أخلاق اجتماعيّة وممارسة يوميّة تقطع مع كلّ الأشكال القديمة، فإنّ الفكر العربي، رغم محاولات "التّنويريين العرب"، بقي يعاني من إرهاصات تأصيل الأصول وتقديس الماضي في إطار الدّفاع عن هويّة تفضّل "الأنا" وتمجّدها وتعليها على "الآخر" فتعاديه، ومقولة الأصل هنا، "قد تنفي الحوار والتّواصل، بما أنّ الأصل يَفْضُلُ على غيره". (فيصل درّاج، "في معنى التّنوير"، المستقبل العربي، ماي 2005) ، لذلك تبدو العلاقة مع "الآخر" في بنيتنا الذّهنيّة رهينة مستويين متناغمين: هيمنة الاتّجاه الأصولي الذي يرفض الاختلاف ويعتبر "الآخر ضلالا"، و"آثاره لا تزال قائمة إلى اليوم"(هاشم صالح، جورج طرابيشي وتحرير الذّات العربيّة من الانغلاقات التّراثيّة، مرجع الكتروني)، واتجاه للاستبداد السّلطوي القائم على تخوين الاختلاف ومنع التّعدّديّة وتجريم الرّأي المخالف، ولعلّ هذا التّجانس والتّناغم بين المستويين لا يمكن أن ينتج إلا تحالفا بين التّطرّف السّلطوي والتّطرّف الفكري بما ينفي مبادئ التّعدّد والاختلاف والتّسامح كقيم أسّس لها الفكر الحديث.
فالتّاريخ الأروبي وإن عانى الويلات من التطرّف والانغلاق وعدم الاعتراف بالآخر المختلف، وأقام له محاكم التفتيش على أفكاره، فانه كان الأقدر على إحداث القطيعة نهائيّا مع بنية الإلغاء والإقصاء وكلّ أشكال التّعصّب الفكري والدّيني، بفضل الكتابات التحرّرية لعصر التّنوير وما أنتجته من مفاهيم جديدة للمواطنة والتّعايش مع الآخر والاعتراف به كشريك مختلف. وإذا كان هذا المناخ قد حدّده المثقّفون وساهم فيه المفكّرون بانتاجاتهم المعرفية وصياغتهم المفاهيم، التي أصبحت فيما بعد كونية تتعدّى كلّ الحدود وموجّهة للإنسانية قاطبة، فانّ محاولات "الاستنهاض العربي" لم تخرج عن مشروع التّحديث الشّكلاني الذي أملته سلطة الحكّام الأتراك.
دور المثقّف والكتاب في المسار الجديد لمجتمعات "الرّبيع العربي"
عندما تعيد مجتمعات "الرّبيع العربي" نفس أسئلة الحضارة مرّة أخرى، وبنفس العمق والتحدّيات على الفكر والمفكّرين، فذلك مؤشّر على أنّ الواقع يعيد إنتاج نفس التجاذبات الفكريّة التي طرحت إبان "النهضة" الفكرية العربية في القرن 19، بين ثقافة القيم الكونيّة التي تنشدها الإنسانية في كلّ عصر، وثقافة الإلغاء والتحريم التي تنمّ عن بنية ذهنيّة كثيرا ما اعتبرت الآخر "عدوّا ضليلا مضلا" (على حدّ قول جمال الدين الأفغاني)، وتروم الانغلاق على الذّات ورفض الآخر أو تكفيره.
وفي هذا السّياق، ورغم أنّ المجتمع التّونسي يعدّ الأكثر تفاعلا وتأثّرا بالقيم الكونيّة مقارنة بدول المشرق العربي منذ كتابات الطاهر بن عاشور في "التّحرير والتّنوير" و عبد العزيز الثّعالبي في " روح التّحرّر في القرآن"، والذي كان جريئا في دعوته إلى تحرير النّصّ من وهم الدّلالات المغلقة والنّهائيّة و"تخليص العقليّة من شوائب الجهل والتّخلّف والأوهام والتّعصّب..من أجل إنسان حرّ ومتعلّم ومتأثّر بكلّ ما له علاقة بالإنسانيّة والرّقيّ والحضارة"(عبد العزيز الثعالبي، روح التّحرّر في القرآن، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1985)، فإنّ ما يعيشه "المسار الانتقالي الدّيمقراطي"، الذي يأمل التونسيون في تدعيم أركانه بمبادئ العيش المشترك، من خطاب للكراهيّة والتّحريض على العنف وانقسام المجتمع على الهويّة، وعودة استخدام آيات الجهاد والتكفير والتخوين، والتّهديد بتطبيق حدّ الحرابة والبغي على المحتجّين، وحالة التّجييش الحزبي والتّحشيد والاستقطاب الثّقافي والإيديولوجي بين اليمين واليسار، وحالة التّعدّي الجسدي واللفظي على المربّين، وممارسة العنف في الفضاء العمومي، وحالة التّخوين بالعمالة، ليست إلا مؤشّرات على مدى خطورة سيادة ثقافة الإقصاء ورفض الآخر بعنف فكريّ وجسديّ، وهو ما يتناقض ومبادئ النّظام الدّيمقراطي وأسس العقد الاجتماعي التي تفترض احترام الآراء والحرّيات وضمان التّعبير الحرّ عن الأفكار والاختلاف.
إنّ المناخ الذي ينتعش فيه خطاب الكراهيّة والإهانة الموجّهة إلى الآخر المختلف فكريّا أو سياسيّا، ويجد من يبرّر له كفكر إقصائي، قد يبعث على "الصّدمة"، ويؤكّد أنّ مشاريع "التحديث العربي" لم تنجز مهمّاتها في بلورة ثقافة تحرّر الفكر من الوعي الممزّق بين زمنين، وأنّ الدّولة التسلّطيّة قد رسّخت لدينا ذهنيّة التّخوين ومعاداة التّعدّد واحترام الآخر في الاختلاف والتّمايز. وتبقى مهمّة الكتاب ومن ورائه المثقّف أساسيّة في تعميم قيم المواطنة ونشر ثقافة الاختلاف كثقافة مغايرة لثقافة العنف ورفض الآخر، وذلك لا يكون إلا في إطار "عقد اجتماعي" ديمقراطي ومدني، يفترض التّواصل مع الآخر والاعتراف به بما يضمن التعدّد ونسبيّة الأحكام، والتأسيس للحوار دون تكفير أو تخوين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس وزراء بريطانيا يعلن عن أكبر حزمة مساعدات عسكرية لأوكران


.. متظاهرون يحتشدون أمام جامعة نيويورك دعما لاعتصام طلابي يتضام




.. الجناح العسكري لحركة حماس يواصل التصعيد ضد الأردن


.. وزير الدفاع الروسي يتوعد بضرب إمدادات الأسلحة الغربية في أوك




.. انتشال جثث 35 شهيدا من المقبرة الجماعية بمستشفى ناصر في خان