الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاحتجاجات الشعبية العربية وآفاق تطورها الديمقراطي

فاخر جاسم

2012 / 2 / 23
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


خلاصة

اثارت الاحتجاجات الشعبية التي تجري في البلدان العربية، العديد من الإشكاليات السياسية والفكرية والتي أدت تباين آراء الباحثين، حول أسبابها وأهدافها والمسار الذي ستودي إليه، اضافة الموقف من التدخل الأقليمي والدولي.

على ضوء الاشكاليات التي أفرزتها الاحتجاجات الشعبية والنتائج المحتلمة لتنامي الصراعات الفكرية والسياسية في البلدان العربية التي تشهد الاحتجاجات، والمعطيات التي نتجت عن التجربة العراقية، بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 والتي كان للعامل الخارجي دوراً مؤثراً في تحديد ملامحها خاصة فيما يتعلق باعادة بناء الدولة على أساس المحاصصة الطائفية والقومية وتنامي حالة عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، على الرغم من تطبيق نموذج الديمقراطية الأمريكية. وفي هذا المجال، نشير إلى مدى استفادة الاحزاب والحركات السياسية في البلدان التي تجري فيها الاحتجاجات الشعبية من دورس هذه التجربة.
وبناء على كل ذلك تزداد الحاجة إلى دراسات تستند إلى تحليل البنية الاجتماعية والسياسية وطبيعة الصراعات التي يمكن أن تنتج عن اسقاط الأنظمة الاستبدادية بفعل الاحتجاجات الشعبية، وكيف يمكن ضبط هذه الصراعات بحيث لا تؤدي إلى تهديد الوحدة السياسية للبلدان العربية. كما ان استمرار تفاعلات الاحتجاجات، يتطلب التروي وعدم اطلاق تعميمات قاطعة عن آفاق تطور الاحتجاجات والابتعاد عن التحليل غير المتوازن، لدور العامل الخارجي، الذي يركز على تأثيره الايجابي فقط.

ومن أجل تقوم الدراسة بالقاء بالضوء على الأسباب التي تعرقل انجاز أهداف الاحتجاجات ومنها، تحليل البنية الاجتماعية والسياسية والفكرية للمجتمعات ودور هذه البنية في عرقلة تطور الانتفاضات نحو بناء مجتمعات ديمقراطية حقيقة.
كما تقوم الدراسة بتحليل دور العوامل الخارجية، الاقليمية والدولية، في اعاقة بناء ديمقراطية حقيقية تستجيب لطموحات الجماهير الشعبية في اقامة نظام يحقق قدرا معقولا من العدالة الاجتماعية.
وأخيراً، تحاول الدراسة اعطاء بعض التصورات عن الآفاق التي يمكن ان تتطور فيها العملية السياسية، بعد اسقاط النظم الاستبدادية.
بتكثيف شديد تهدف الدراسة إلى محاولة الإجابة على التساؤلات التالية:
1ـ هل تساعد البيئة السياسية في الدول التي يتناولها البحث على إقامة أنظمة ديمقراطية ؟
2ـ ما موقف المحيط الإقليمي من إقامة أنظمة ديمقراطية في الدول التي تشهد احتجاجات شعبية؟
3ـ هل يشكل العامل الدولي بالاستناد على تجربة العراق بعد الاحتلال الأمريكي 2003، عاملا مساعداً لاقامة نظام ديمقراطي؟
4ـ هل يكون التعويل على الديمقراطية للقضاء على مخلفات الأنظمة الأستبدادية في محله ؟
سيتم تناول الموضوعات السابقة في ثلاث مباحث:
الأول:ـ مقدمات تمهيديةّ، تتناول طبيعية العاملين الإقليمي والدولي وتأثيرهما السلبي والإيجابي على التطور الديمقراطي في البلدان العربية التي تخلصت من السلطات الاستبدادية، إضافة إلى معوقات الديمقراطية.
المبحث الثاني: تحليل طبيعة القوى الاجتماعية والسياسية المشاركة في النشاط السياسي في المرحلة الراهنة من نضال الشعوب العربية التي تسعى لتحقيق الأهداف والشعارات التي رفعت خلال الانتفاضات الشعبية.
المبحث الثالث: إعطاء بعض التصورات عن تطور الثورات الشعبية نحو إقامة الديمقراطية من خلال تحديد السيناريوهات التي يمكن أن تحدث خلال المرحلة الانتقالية.
وفي الختام نقدم مجموعة من الاستنتاجات والتوصيات.
المبحث الأول، مقدمات تمهيدية
لا بد من إيضاح بعض المقدمات التي أراها ضرورية لعلاقتها بالبيئة السياسية والاجتماعية التي تتفاعل فيها أحداث هذه الاحتجاجات في المرحلة الراهنة من تطورها وهي:
أولا، طبيعة المحيط الإقليمي؛
ثانيا، طبيعة المحيط الدولي؛
ثالثا، طبيعة المحيط الداخلي.
أولا، المحيط الإقليمي:
ينقسم المحيط الإقليمي إلى مجموعتين من الدول، الأولى تتكون من تركيا وإيران إسرائيل، والمجموعة الثانية، دول مجلس التعاون الخليجي. ونظراً لإمكانية أن تؤدي الاحتجاجات إلى اقامة انظمة ديمقراطية حقيقية، وأثر ذلك على اعادة التوازنات الإقليمية لصالح تعزيز الاستراتيجية الوطنية العربية المناهضة لمشروع الهيمنة الدولية وطموحات دول الجوار العربي، الهادفة لتوسيع مصالحهما في المنطقة العربية، نلاحظ نشاط متزايد، يتمثل بالتدخل المباشر في مجرى النشاط السياسي من قبل دول الإقليم خاصة تركيا وإيران اللتان تسعيان لتسويق نموذجهما في الحكم إلى البلدان العربية. فإيران تسعى لتصدير نموذج الدولة الدينية المستند إلى ولاية الفقيه وتركيا تسعى لترويج نموذج الدولة المدنية المختلط ـ الذي يمزج بين العلمانية والإسلام المعتدل. أي بمعنى آخر أن المحيط الإقليمي يضغط لصالح نموذج الدولة الإسلامية.
وبخصوص محور دول مجلس التعاون الخليجي، فعلى الرغم من وجود تنافس قوي بينها، خاصة بين السعودية الحليف التقليدي لحركات الإسلام السياسي السني، وقطر التي تعمل للعب دور إقليمي يعتمد بشكل خاص على تقديم الدعم المالي والإعلامي للتيارات الدينية في البلدان الإسلامية، فانها تشارك دول الجوار العربي بالخوف الذي يشكله اقامة انظمة ديمقراطية حقيقة في دول الاحتجاجات الشعبية، لذلك نرى أن نشاطها يسير بثلاث محاور، الاول تنسيق جهودها لمنع انتقال الاحتجاجات إلى دولها ( )، والثاني، زيادة تعاونها مع قوى الهيمنة الدولية التي تستغل مطالب الاحتجاجات لانهاء الاستبداد واقامة سلطات ديمقراطية، والمحور الثالث، التدخل المتعدد الأشكال في الشؤون الداخلية للدول التي تشهد الاحتجاجات، حيث قامت بتدخل مباشر في الأزمة الليبية، ومستتر في الازمتين السورية واليمنية.
ثانيا، المحيط الدولي
تتحكم بالمحيط الدولي جملة من المعطيات المؤثرة على تحرك أطرافه وطريقة تعاملها مع الأحداث الجارية في البلدان العربية، يمكن إجمالها بالنقاط التالية:
1ـ حيوية المنطقة من حيث تأثير موقعها اللوجستي على استراتيجيات الدول الكبرى الخارجية والأهمية الاقتصادية على الصعيد العالمي باعتبارها المصدر الرئيسي للطاقة ـ النفط والغاز ـ في العالم وكذلك وجود وفرة هائلة من الأموال مملوكة من قبل الدول والأفراد والمؤسسات المالية في المؤسسات الأجنبية .
2ـ تعارض مصالح الدول الأوربية، مع مصالح الولايات المتحدة، حيث تسعى هذه الدول إلى استعادة نفوذها وتأثيرها السياسي في المنطقة الذي فقدته خلال الحرب الباردة لصالح الولايات المتحدة، هذا من جهة ومن جهة أخرى، تسعى الدول الأوربية منفردة لتحقيق مصالحها الخاصة، لذلك نلاحظ الصراع بين الدول المستعمرة سابقاً، إيطاليا وبريطانيا وفرنسا، من جهة، وألمانيا التي تسعى إلى الاستفادة من قوتها الاقتصادية للحصول على مصالح في دول المنطقة. يضاف إلى ذلك الدور الروسي الذي يعمل على الاحتفاظ بالنفوذ السياسي والمصالح الاقتصادية الروسية التي بدأت تنتعش في الدول العربية خلال العقد الأخير.
3ـ انعكاس مظاهر الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة على السياسية الخارجية للدول الأوربية والولايات المتحدة وما ينتج عن ذلك من تباين مواقف هذه الدول بين داعم بقوة للاحتجاجات الشعبية وبين متردد.
4 ـ يوجد ترابط تحكمه المصالح المشتركة بين مواقف القوى الفاعلة في المحيط الاقليمي( دول الخليج وتركيا) والدولي ، يهدف إلى اعادة بناء التوازنات الاقليمية لصالح مشروع الهيمنة الدولية.
إن العوامل السابقة، تعزز ميول الدول الغربية للتدخل في الأحداث الجارية بهدف التأثير على مسار الأحداث وتوجيهها بالاتجاه الذي يخدم مصالحها الاستراتيجية.
ثالثاً، طبيعة المحيط الداخلي.
نتاول في هذه الموضوعة ثلاث قضايا، الأولى، مرتكزات الديمقراطية، ، الثانية، اطروحات التيارات السياسية عن الديمقراطية، والثالثة، معوقات الديمقراطية .
القضية الأولى، مرتكزات الديمقراطية:
الديمقراطية كظاهرة تاريخية

إن الديمقراطية، كظاهرة تاريخية، تحتاج إلى توفر جملة من المستلزمات الأساسية، من أهمها:
أولاً ، الثقافة والبنية السياسية للمجتمع.
ثانياً، تطور التجربة التاريخية والمورث الثقافي للمجتمع.

أولاً، الثقافة السياسية، والبنية السياسية للمجتمع
تحتل الثقافة السياسية، والبنية السياسية للمجتمع أهمية كبيرة في توفير بيئة مناسبة لتطور المجتمعات نحو الديمقراطية. فالثقافة السياسية تلعب دوراً هاماً في النشاط السياسي والاجتماعي للأفراد ومدى تأثير المواطنين في صياغة السياسة العامة وتحديد مصائرها لاحقاً عند التنفيذ.
ويعتبر علماء الاجتماع، الثقافة السياسية، أحد أهم وسائل التأثير في الفعل الاجتماعي والموقف السياسي التي يتخذه الأفراد تجاه القضايا العامة التي تشمل " القيم والمعتقدات والمواقف المتعلقة بما ينبغي أن تقوم به الحكومة وكيف تقوم به وطبيعة العلاقة بين المواطن والدولة" ( ).

إما البيئة السياسية، فإنها تعتبر أحد أهم مرتكزات إقامة ديمقراطية حقيقة في المراحل الانتقالية التي تمر بها المجتمعات. وتتكون البينة السياسية من مكونات عديدة، أهمها الأحزاب والحركات السياسية، لذلك فأن تحليل موقفها، أي الأحزاب والحركات السياسية، من الديمقراطية يساعد على تحديد الاتجاه الذي تسير عليه عملية البناء الديمقراطي في المجتمعات التي تنتقل من الاستبداد إلى الحرية.

ثانياً، تطور التجربة التاريخية والموروث الثقافي للمجتمع.
بما أن الديمقراطية ظاهرة تاريخية تنشأ وتتطور في مجتمع محدد، وفي مرحلة زمنية معينة، فانه لا يمكن النظر إليها بمعزل عن الظواهر الاجتماعية الأخرى كالمؤسسات الثقافية والعقائد الأيديولوجية وأساليب الإنتاج وعلاقاته. كما أن توفر نظام للعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ينظم العلاقات بين أفراد المجتمع وطبقاته، بين الدولة والمجتمع، بين مؤسسات الدولة نفسها ـ تنفيذية، تشريعية، قضائية، يسمح للديمقرطية كإطارسياسي، أن يعبر عن التعددية الاجتماعية ويحاول أن يستوعبها في إطار سلمي، بمعنى آخر فإن التجربة التاريخية للممارسة الديمقراطية للمجتمع توفر مستلزمات حماية الديمقراطية وإعادة إنتاجها.
كما أن الموروث الثقافي، يشكل أحد العوامل الأساسية على اشاعة قيم الديمقراطية في المجتمعات، حيث تشير تجارب الشعوب إلى أن انعدام أجواء الحرية، يؤدي إلى تقبل الاستبداد وقبول التعايش مع ممارساته، بحيث يصبح جزء من الثقافة السائدة، بينما يسرع توفر قيم الحرية في الموروث الثقافي، اشاعة وتقبل أفراد المجتمع لقيم الديمقراطية.
وبناءً على ما سبق، ينبغي التأكيد على أن سقوط السلطات الاستبدادية ليس كافيا لإزالة مخلفات الاستبداد، حيث تشير بعض التجارب المعاصرة، ومنها تجربة العراق، وعلى الرغم من مرور أكثر من ثمان سنوات على سقوط الديكتاتورية الاستبدادية، فأن تطور الأحداث أظهر قضايا جديدة ، زادت الأمور تعقيداً منها على سبيل المثال:
ــ زيادة حدة الاستقطاب القومي والطائفي والسياسي في البلاد .
ــ ارتفاع مستوى العنف في الحياة السياسية .
ــ تفاقم الفساد الإداري والمالي والاقتصادي في البنية السياسية والإدارية للدولة العراقية ( ).
ـ زيادة حدة التفاوت بين الطبقات الاجتماعية وارتفاع نسبة البطالة خاصة بين فئات الشباب؛
ــ تسييس الدين، من خلال، أولاً، الاستخدام المكثف للدين في العملية الانتخابية، الأمر الذي يجعل العملية الانتخابية تدخل ضمن المحرم والمقدس وليس ممارسة الفرد لحقوقه السياسية( )، وثانياً، إعطاء رجال الدين دوراً سياسياً متميزاً يسمح لهم بالتحكم بحياة المواطنين( ).
ــ فشل النخب السياسية في صياغة مشروع وطني عراقي لمواجهة المشاريع الخارجية، وخاصة الأمريكي؛
ــ تدخل إقليمي ودولي، متعدد الأشكال، في الشؤون الداخلية.

لقد أدت الظواهر السابقة إلى خلق حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي واستمرار حالة الإحتراب الحاد بين مكونات المجتمع، السياسية والفكرية والقومية والطائفية والمذهبية، على الرغم من إجراء ثلاث دورات انتخابية.

وعلى ضوء الملاحظات السابقة، نستنج أن التعويل على الديموقراطية وآلياتها، كعصا سحرية، لإزالة كل آثار الديكتاتورية والاستبداد، ليس في محله، وكما يقول الباحث برهان غليون" ليس هناك ديمقراطية بشكل تجريدي، إنما هناك صيغة ديمقراطية خاصة، تأخذ بنظر الاعتبار الظروف وميزان القوى والقوى الموجودة على الساحة"( )، لذلك تستدعي الحاجة في الظروف الإنتقالية الراهنة، اللجوء إلى مبدأ التوافق الذي يقوم على مشاركة كل مكونات المجتمع السياسية والمذهبية والقومية، والابتعاد عن سياسة الانفراد بالسلطة سواء عن طريق ضغط الشارع أو الشرعية الانتخابية( ).

القضية الثانية: اطروحات التيارات السياسية عن الديمقراطية

هناك أطروحات متعددة للديمقراطية يمكن تقسيمها إلى أربعة أنواع: الليبرالي، الماركسي والإسلامي والقومي.

1ـ الأطروحة الليبرالية:ـ

تقوم الأطروحة الليبرالية على أسس رئيسية ثلاث وهي: الحرية، المساواة " السياسية " والحرية الاقتصادية. وأهم الثغرات التي تتضمنها أطروحة الليبرالية حول الديمقراطية، تركيزها على المساواة الحقوقية المجردة ، وعلى الرغم من أهمية المساواة بين المواطنين قانونياُ، إلا أنه لا يمكن تطبيقها في الواقع الفعلي لعدم توفر الظروف الاجتماعية التي تساعد المواطن على ممارسة حقوقه السياسية( ). وللتغطية على هذا الخلل الأساسي، يجري تضخيم مفهوم الحرية الاقتصادية لدرجة يصبح فيها مرادفاً لمفهوم العدالة الاجتماعية.

إن تحديدنا لثغرات الديمقراطية الليبرالية ، يهدف إلى تنمية الوعي بضرورة خلق التوازن بين إرادة الفرد في ممارسة حقوقه السياسية ومقدرته الاقتصادية، لأن خرق هذا التوازن يؤدي إلى خلق فجوة بين حق التمتع بالحريات السياسية وبين ممارستها في الواقع، وهذا ما نلاحظه في أكثرية البلدان التي تطبق الديمقراطية الليبرالية، حيث خسرت هذه الديمقراطية قناعة الأغلبية عبر السماح بإعادة إنتاج ما اصبح يعرف بديمقراطية النخبة وبالتالي فقدان الفرص التي تسمح بظهور أشكال جديدة للديمقراطية الليبرالية.

2ـ الأطروحة الماركسية:ـ
إن تحليل الأطروحة الماركسية حول الديمقراطية، يشير إلى عدم وجود تناقض، من حيث المبدأ، بين المنظومة الفلسفية للماركسية والديمقراطية، حيث عالج الفكر الماركسي، الخلل التطبيقي للديمقراطية الليبرالية، من خلال ربطه بين بعدي الديمقراطية، السياسي والاجتماعي. ورغم تحقيق الأنظمة الاشتراكية التي أقيمت في الاتحاد السوفيتي وبلدان أوربا الشرقية، إنجازات هامة في المجال الاجتماعي إلا أن إهمال البعد السياسي" الحقوق السياسية " أدى إلى فشل هذه الأنظمة في إقامة ديمقراطية بديلة تعبر عن الجوهر الإنساني للفكر الماركسي.

3ـ الأطروحة الإسلامية: ـ

إن قراءة ما تطرحه الأحزاب والحركات التي تعتمد على الدين الإسلامي كأيديولوجية، حول للديمقراطية، يشير إلى وجود خلط بين مفهومي، الشورى والديمقراطية، وهما مفهومان مختلفان. كما نلاحظ عدم تحديد ملامح عامة متفق عليها بين السياسيين والمفكرين الإسلاميين لمفردات المفهوم الإسلامي للديمقراطية، نظراً لحداثة دخول هذه المفردة في البنية الفكرية والسياسية لأطراف التيار الإسلامي.

4 ـ الأطروحة القومية:ـ

تشير دراسة التجربة التاريخية للتيار القومي، بقسميه الحاكم والمعارض، إلى ضعف حيز الديمقراطية، فكراً وممارسة، لأسباب تعود إلى مصادره الفكرية ـ السياسية التي تركز على تقديم الأهداف القومية، الوحدة القومية للبلدان العربية، على الحريات السياسية.

ماذا نستنتج من الاستعراض السابق؟

أ ـ ليس هناك مفهوم للديمقرطية متفق علية بين التيارات السياسية.

ب ـ إن التحول الملاحظ في خطاب التيارات السابقة عن الديمقراطية خلال العقد الأخير وتصاعد نبرة تبني هذه التيارات للديمقراطية خلال الربيع العربي الثوري، يقابل بشكوك مشروعة من قبل أغلبية الفئات الاجتماعية التي تشترك في الحراك الجماهيري الراهن. إن سبب ذلك يرجع، إن كل الأطروحات السابقة حول الديمقراطية، تعوزها الممارسة التاريخية لإثبات مصداقيتها، خاصة أن الأحزاب والحركات التي تتبناها استندت على الأيديولوجيات الشمولية خلال عقود من تاريخها السياسي، وهي جديدة العهد على تبني المفهوم المعاصر للديمقراطية الذي يتضمن الانتخابات والتداول السلمي للسلطة واحترام التعددية الفكرية والسياسية.

القضية الثالثة، معوقات الديمقراطية

كما أشرنا سابقاً، تقوم الديمقراطية على مرتكزات أساسية، من أهمها البينة الفكرية ـ السياسية للمجتمع واستناداً إلى تحليل هذه البنية في المجتمعات العربية التي تشهد احتجاجات شعبية، يمكن رصد العديد من المعوقات الأساسية التي تخلق صعوبات جدية إمام محاولات التحول من السلطات الاستبدادية إلى الديمقراطية، ومن أهمها:

ـ انحسار الفكر الليبرالي الديمقراطي في البلدان العربية، خاصة تلك البلدان التي حكمتها ما سمي بأنظمة الشرعية الثورية، في مصر وسوريا والعراق وليبيا والجزائر واليمن، الأمر الذي أدى إلى توقف نشاط الأحزاب الليبرالية في هذه البلدان منذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي. وكان من أهم نتائج انحسار الفكر الليبرالي، تصارع التيارات الأيديولوجية الشمولية ـ القومي والماركسي والديني/ الإسلامي ـ الأمر الذي أدى إلى تكامل أنظمة شمولية استبدادية حكت باسم القومية العربية.

ــ ضعف الوعي السياسي في المجتمعات العربية، يزيد من صعوبة فهم لغة الخطاب السياسي، المتداول في الظروف الراهنة الذي تسود فيه الشعارات الكبرى والأهداف الاستراتيجية، مثل الديمقراطية، حقوق الإنسان، الفيدرالية، دولة القانون، الانتخابات، دولة مدنية، دولة علمانية، دولة إسلامية وغيرها من المفاهيم المعقدة، التي لا تفهم من المواطن العادي، بسبب سيادة الأمية السياسية والتعليمية، لدى الأغلبية من المواطنين، الأمر الذي خلق نوعاً من الاغتراب بين المتلقي/ المواطن، ومفردات الخطاب السياسي اليومي لأغلب الأحزاب العربية.

ــ أسلوب التفكير الشمولي لدى أطراف البنية السياسية العربية وهذا يتمثل بـ :

ــ الأحزاب القديمة مازالت تفكر بأنها الأكثر تأهيلاً للقيادة بسبب خبرتها التاريخية والتضحيات التي قدمتها، إضافة إلى صحة أيديولوجيتها وسياستها. وبهذا المجال أشير إلى قضية ما زالت غائبة عن تفكير قيادة الأحزاب العربية، مع استثناءآت محدودة تتمثل بدراسة تجربتها التاريخية ونقدها.

ــ الأحزاب الجديدة ، تتأسس على فكرة البديل، وهي عقدة تاريخية في العمل الحزبي العربي. وتقوم هذه الفكرة على ادعاءات تزعم فشل الأحزاب القديمة، أيديولوجيا وسياسياً وتنظيماً.

ــ اللاابالية لدى المواطنين تجاه النشاط الاجتماعي/ السياسي، بسبب فقدان المصداقية بالعملية الديمقراطية الذي يرجع إلى العديد من العوامل من أهمها:
• تجربة الدكتاتوريات الاستبدادية في تشويه الممارسة الديمقراطية.
• مظاهر الصراع بين أطراف الحركة السياسية العربية التي اشتركت في الاحتجاجات، بعد انتهاء أنظمة الاستبداد، حول سبل التطور.
• تفكير نخبوي لدى قيادة الأحزاب والحركات السياسية، أدى إلى ابتعاد هذ النخب عن هموم المواطنين اليومية وعدم الاستماع إلى آرائهم.

ــ ظهور المنظمات المسلحة
يرجع ظهور المليشيات المسلحة إلى ثلاث عوامل رئيسية، الأول، تنوع الأشكال التي اتخذها الاحتجاجات والانتفاضات العربية، بين السلمية، كما في تونس ومصر والعنفية كما في ليبيا واليمن ( )، والعامل الثاني، التدخل الخارجي الذي تطالب به بعض الأحزاب والحركات المشاركة في الاحتجاجات( )، العامل الثالث، يرجع إلى ضعف سعة حركة الاحتجاجات، مقابل تماسك المؤسسة العسكرية واستمرار ولائها للحزب الحاكم، أدى إلى انشقاق بعض أطراف المؤسسة العسكرية( ). إن وجود المنظمات المسلحة يؤدي إلى استقواء الأطراف التي تمتلكها، لفرض إرادتها على المواطنين لدى مشاركتها باللعبة الديمقراطية. وقد بينت التجربة العراقية بهذا المجال إلى أن وجود المليشيات التي تمتلكها الأحزاب( )، أثر سلبا على مسار العملية الديمقراطية بعد الاحتلال من ناحيتين، الأولي استخدام المليشيات للتأثير على الناخبين، الأمر الذي يؤثر على نزاهة العملية الانتخابية، والثانية، التأثير على ممارسة المنتخبين/ النواب لمسؤولياتهم بحرية، أي يكونوا غير قادرين على ممارسة حقوقهم الدستورية.

ــ التدخل الخارجي: من المستلزمات التي تجعل الديمقراطية ممكنة وتستجيب لطموحات أغلبية المواطنين، وجوب استقلال الأحزاب والحركات السياسية ومنظمات المجتمع المدني عن التأثيرات الخارجية، وقد تمت الإشارة إلى تكثيف مساعي التدخل الخارجي الإقليمي، في الأحداث الراهنة في البلدان العربية والتي اتخذت أشكالا متعددة، ضغوط سياسية، تضليل إعلامي هائل، ودعم مالي. وهنا يجدر التنويه إلى الدور الحاسم للمال السياسي والإعلام في التأثير على نتائج الانتخابات في البلدان ذات البنية السياسية الهشة كالبلدان العربية( ).
وتؤكد العديد من التجارب في العالم على ان التدخل الغربي، والأمريكي، بشكل خاص، يعرقل بناء الديمقراطية في المجتمعات النامية( )، فتاريخياً، لم تثبت الوقائع أن التدخل الغربي ساعد على بناء أنظمة حكم ديمقراطية، سواء فترة الحرب الباردة 1945 ـ 1990، عندما ساعدت الولايات المتحدة القادة العسكريين للقيام بالانقلابات العسكرية ضد العديد من الحكومات الوطنية في أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، أو بعد نظام القطبية الواحدة الذي تشكل عام 1990، بعد انهيار تجربة بناء الاشتراكية في المعسكر الشرقي. فتاريخ السلطات العسكرية، المدعومة أمريكياً، ابتداءً من انقلاب الجنرال سوهارتو في إندونيسيا 1965، وبينوشية في شيلي 1973، وضياء الحق في باكستان 1977، ، وكل الانقلابات العسكرية في البرازيل والأرجنتين وغيرها من بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، لم تؤد إلى إشاعة الديمقراطية، بل أدت إلى قيام أنظمة حكم بوليسية تحكم بالتوافق بين شرائح اجتماعية داخلية ترتبط بوشائج سياسية واقتصادية مع الشركات الأمريكية، مما أدى إلى إفقار فئات اجتماعية واسعة في هذه البلدان، نتيجة لنهب ثرواتها من قبل قوى الهيمنة الداخلية والخارجية. وعن التأثير السلبي لتدخل الولايات المتحدة على مسار الديمقراطية، يقول الباحث الأمريكي، نعوم شومسكي:" فحيثما كان تأثير الولايات المتحدة أقل، كان التقدم على صعيد الديمقراطية أكبر"( ).

وتشكل التجربة العراقية، بعد الاحتلال الأمريكي، مثالاً جلياً للتأثير السلبي للتدخل الغربي على بناء ديمقراطية حقيقة في البلدان العربية، فإعادة بناء الدولة العراقية التي تمت تحت إشراف مباشر من " سلطة الإئتلاف" بقيادة السفير الأمريكي" بول بريمر" أدت إلى بناء سلطة تقوم على أسس طائفية وعرقية( ).
وقد قامت السلطة العراقية التي تكونت على أساس الشرعية الانتخابية، عام 2005 بتكريس مبادئ بريمر السابقة، عندما قامت ببناء الدولة ومؤسساتها القانونية والسياسية والاجتماعية والأمنية على أساس المحاصصة الطائفية والقومية( ).

المبحث الثاني، طبيعة القوى الاجتماعية المشتركة في الحراك السياسي الراهن.
نتناول في هذا المحور، ثلاث موضوعات، الأولى طبيعة المرحلة التي سبقت الاحتجاجات، والثانية، القوى الاجتماعية المشاركة فيها، والثالثة، المخاطر التي تواجه تطور الاحتجاجات الشعبية.

الموضوعة الأولى: سمات المرحلة وطبيعة النزاعات السياسية

طبيعة المرحلة يشير إلى وجود أزمة شاملة تعاني منها المجتمعات العربية في ظل حكم الدولة الوطنية، كنتيجة طبيعة للسياسة التي طبقتها السلطات الوطنية خلال مرحلة الاستقلال السياسي في بداية النصف الثاني من القرن الماضي. ويمكن أن نشير إلى ثلاث سمات مشتركة ميزت السلطات التي تولت الحكم. السمة الأولى، سلطات استبدادية، والسمة الثانية، تحكم قلة بالثروة والسلطة، أدت سياساتها على الصعيد الاجتماعي إلى انقسام المجتمع إلى أقلية غنية جداً وأغلبية تعاني الفقر والتهميش الاجتماعي والسياسي، والسمة الثالثة، تلاشي الهوية الوطنية لصالح هويات عصبية فرعية، عشائرية ، طائفية ـ مذهبية، قومية ـ عنصرية وإقليمية. إن السمات السابقة هي توصيف واقعي لأغلب المجتمعات العربية في المرحلة الراهنة، وما يظهر من وحدة سياسية أو وحدة هوية هو مظهر فقط ليس له وجود في وعي أغلبية المكونات الاجتماعية للدول العربية، في حين بقى الوعي الوطني محصورا بين قلة من النخبة المثقفة ذات التأثير المحدود على البيئة الاجتماعية ـ السياسية.
الموضوعة الثانية: طبيعة القوى الاجتماعية الفاعلة في التحرك الشعبي.
في البداية لا بد من التنويه إلى وجود علاقة بين طبيعة المرحلة والقوى الاجتماعية المشاركة في النشاط السياسي الراهن، حيث أدت السياسة الاقتصادية للدولة الوطنية إلى تأثيرات عميقة على البنية الاجتماعية، أصبحت تتميز بالعديد من السمات المشتركة من أهمها:
1ـ أغلبية من الفئات الكادحة والفقيرة تتكون من العاطلين والمهمشين اجتماعيا.
2ـ أغلبية شبابية، تمتاز بالحماس الثوري والفعالية الجماهيرية والقدرة على الاستفادة من وسائل الاتصالات الحديثة، التي توفرها شبكة الإنترنت، كأدوات للتنظيم والتواصل وإيصال أفكارها إلى أعداد كبيرة من فئات المجتمع.
3ـ سيطرة الوعي الديني على أغلبية الفئات المشتركة في الحراك الاجتماعي.
4 ـ شعبية الحركات السياسية التي تتخذ من الدين أيديولوجية، نتيجة للبيئة الاجتماعية التي يسيطر عليها الوعي الديني.
5ـ ضعف فعالية الأحزاب، القومية والليبرالية واليسارية بسبب القمع والاضطهاد الذي تعرضت له خلال الفترة السابقة، إضافة إلى استمرارها بالخطاب السياسي الأيديولوجي والشعارات التقليدية إضافة إلى عدم تطور بنيتها التنظيمية لتكون أكثر ديمقراطية بحيث تكون قادرة على الانفتاح على الفئات الاجتماعية الجديدة، والشبيبة بشكل خاص( ) .
6 ـ تزايد دور المؤسسة العسكرية في ضبط الحراك الاجتماعي وإدارة السلطات الانتقالية، كما حدث في تونس ومصر، بعد استغلال المؤسسة العسكرية التبدل السريع في السلطة، أو كما يحدث في ليبيا واليمن، نتيجة الفراغ الذي نتج عن تفكك سطوة السلطات الاستبدادية، وتحول الاحتجاجات إلى نزاع مسلح.
الموضوعة الثالثة: المخاطر التي تواجه تطور الاحتجاجات الشعبية:
1ـ الفوضى الشاملة التي يمكن أن تحدث في حالة استمرار الصراع بين أطراف الحركة الوطنية، الليبرالية الديمقراطية وأحزاب الإسلام السياسي. ويمكن أن تتحول المخاوف من حدوث فوضى شاملة إلى واقع، إذا فشلت القوى الوطنية في الاتفاق على برنامج وطني مشترك متوافق عليه بين أغلبية القوى السياسية والاجتماعية المشاركة في الحراك الاجتماعي الراهن، خاصة وأن الدول الغربية والولايات المتحدة بشكل خاص، يمكن أن تؤجج الخلافات بين القوى الوطنية وتشجع الأصوليات الدينية، مما يؤدي إلى حالة الفوضى الشاملة، وهو نهج جربته الولايات المتحدة في العراق والسودان وأفغانستان، الأمر الذي يوفر الظروف المناسبة للقوى الدولية للاستفادة من مظاهر الأزمة التي تنتج عن الفوضى الشاملة، لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها بما يتلائم مع خلق ركائز سياسية واجتماعية داخلية تقوم بتنفيذ مصالح الولايات المتحدة الخاصة في البلدان العربية.
2ـ إجراء الانتخابات في ظروف غير مناسبة:

إن الاستعجال في إجراء الانتخابات، فبالإضافة إلى استغلاله من قبل بقايا الأنظمة الاستبدادية والقوى التي تملك المال السياسي والدعم الدولي والإقليمي، يؤدي إلى عرقلة مبدأ التوافق الوطني الذي يقوم على القواسم المشتركة، بين القوى السياسية ومكونات الشعب القومية والطائفية والمذهبية، على أساس برنامج الحد الأدنى، المرتكز الأساس لعبور الفترة الانتقالية التي تمر بها الشعوب العربية، بعد اسقاط الأنظمة الاستبدادية.
وبما أن آليات الديمقراطية يمكن أن توفر الأجواء المناسبة للحوار بين مكونات المجتمع المختلفة لإيجاد الحاجات المشتركة وحل الخلافات عن طريق الحوار والإقناع وليس فرض الأمر الواقع على الأطراف المتنافسة، فإن محاولات القوى التي تحصل على نتائج جيدة في الانتخابات فتقوم باستغلال الشرعية الانتخابية لإقصاء الآخرين والانفراد بالسلطة، يتعارض مع جوهر الديمقراطية.

3ـ تحول الاختلافات الفكرية والسياسية حول سبل تحقيق أهداف الاحتجاجات، إلى صراعات حادة يمكن أن تشتت القوى التي تشارك في الحراك الثوري، بعدما أدى إنهاء السلطات الاستبدادية إلى انتقال الصراع بين الأحزاب والحركات السياسية إلى العلن نتيجة انتهاء دور السلطة كضابط لهذه الصراعات بواسطة القمع والإرهاب. إن هذا التطور فتح المجال إمام محاولات التيارات الشمولية لفرض مشاريعها السياسية وأيديولوجياتها على المجتمع، الأمر الذي أدى إلى إثارة مخاوف فئات اجتماعية واسعة لم تكن لها خبرة سابقة في العمل السياسي. وبهذا الصدد يمكن رصد مجموعة من العناوين التي يتمحور حولها الصراع بين مختلف التيارات السياسية والفئات الاجتماعية التي كان لها المبادرة في التحرك الشعبي ضد الأنظمة الاستبدادية، من أهمها:
ـ دولة مدنية أو إسلامية.
ـ دولة علمانية أو دولة دينية.
ـ حكم الأقلية أو حكم الأغلبية
ـ حقوق الأقليات الدينية والقومية.
ـ الحكم يقوم على الشورى أو الديمقراطية.
ـ الفيدرالية أو الحكم اللامركزي.
ـ سبل إعادة توزيع عادل للثروة الاجتماعية ومفهوم العدالة الاجتماعية.
المبحث الثالث: السيناريوهات المحتلمة:

على ضوء متابعة الحراك الاجتماعي وتداخل المشاريع المطروحة من القوى الوطنية مع التأثيرات الإقليمية والخارجية أرى ان تطور النزاع الاجتماعي يمكن ان يؤدي إلى أربع سيناريوهات وهي:

السيناريو الأول

بقاء السلطة الانتقالية لأطول فترة ممكنة، يقودها تحالف من قادة المؤسسة العسكرية وبعض النخب من الأنظمة السابقة وبعض أطراف التيار الديني( ). وهناك بعض المظاهر التي تدل على تحقق هذا السيناريو، متمثلة بتعاون بعض الأطراف الدينية وأقسام من النخب المحسوبة على الأنظمة السابقة وقادة المؤسسة العسكرية. وقد اقترن هذا التحرك بإبعاد الفئات الشبابية من الاشتراك بالمباشر بسلطة اتخاذ القرار خلال الفترة الانتقالية. وتدلل القرارات التي صدرت من المجلس العسكري الحاكم في مصر، على سبيل المثال، بخصوص تعديل الدستور والانتخابات، والتي تنسجم مع أهداف قوى الإسلام السياسي وبقايا النظام السابق، على إمكانية أن تسير الأحداث باتجاه تحقيق هذا السيناريو( ).

السيناريو الثاني

يقوم هذا السيناريو، على إجراء انتخابات مستعجلة، وفق قوانين انتخابية تخدم تيار الإسلام السياسي وبقايا الأنظمة السابقة، ينتج عنها برلمان فيه أغلبية لصالح تيار الإسلام السياسي ونخب من النظام السابق، تقوم هذه الأغلبية بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها وفق رؤيتها الخاصة، باسم الشرعية الانتخابية( ). ويشكل النموذج التركي، دعما لهذا السيناريو، نظرا للدور الذي تلعبه تركيا في دعم الاحتجاجات، وكذلك دعم الدول الإقليمية العربية والدول الغربية بشكل عام. كما ان المناخ الشعبي العام الذي يوجهه الوعي الديني، يشكل دعامة هامة في ترجيح كفة الإسلام السياسي المعتدل، الذي يمكن أن تتبلور معالمه من مخاض التحولات السياسية ـ الفكرية التي تجري داخله وبدأت تفرز أحزاب دينية تتبنى نموذج حزب العدالة والتنمية التركي( ).
السيناريو الثالث

ظهور تحالف ديمقراطي ـ ليبرالي، يتآلف مع القوى الشبابية، يتفق على برنامج ديمقراطي للمرحلة القادمة، يؤكد على الديمقراطية السياسية وقدر معقول من العدالة الاجتماعية. إن تحقيق هذا السيناريو يعتمد على قدرة القوى المكونة له على توعية المواطنين بأهمية استمرار الضغط الشعبي لتحقيق أهداف الثورة.

السيناريو الرابع:

يقوم هذا السيناريو على التدخل الخارجي المباشر، سواء بطلب مباشر من بعض الأطراف السياسية التي تشترك في الاحتجاجات الشعبية، أو تحت ذريعة حماية حقوق الأقليات الدينية والعرقية، مما يفسح المجال لخلق فوضى شاملة، تكون من نتائجها نشوب الصراعات السياسية والمذهبية والعرقية في المجتمعات العربية. إن خطورة هذا السيناريو تكمن في تشكيل حكومات تقوم بإدارة الأزمة المجتمعية بدلاً من حلها وهذا ما يتوافق مع مصالح الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة( ).

إن فرص تحقيق أي من السيناريوهات السابقة، تشير إلى إن الأول والثاني أكثر احتمالاً من السيناريوهات، بناءً الظروف الخارجية وتناسب القوى على الصعيد الوطني في البلدان التي تحدث فيها الاحتجاجات.

الاستنتاجات والتوصيات

أولاً: الاستنتاجات

1 ـ مما لا شكل فيه أن مستقبل الاحتجاجات العربية، يعتمد بشكل أساسي على قدرة القوى المحركة لهذه الاحتجاجات في الثبات على المطالبة بتحقيق الأهداف الاجتماعية والسياسية التي كانت الدافع الرئيسي لاندلاعها، والاستفادة من المحيط الإقليمي والدولي بما يحقق هذه الأهداف.

2ـ أكدت التجربة العراقية، بعد الاحتلال، عدم قدرة القوى والأحزاب التي عارضت النظام السابق، وسيطرت على السلطة بالتعاون مع قوى الاحتلال في البداية وبالاستناد على الشرعية الانتخابية في الفترة اللاحقة، على قيادة المرحلة الانتقالية بأفق ديمقراطي، بسبب ضياع هذه القوى بين الولاءات الإقليمية والدولية وصراعاتها الداخلية على النفوذ من أجل السيطرة على سلطة الدولة، ليس لتحقيق برامجها السياسية والاجتماعية، بل لتقاسم السيطرة على الثروة والسلطة.

3ـ إن الدول الإقليمية، والدول الغربية، لا يمكن أن تشكل سنداً لاقامة أنظمة ديمقراطية، فبالنسبة لدول الإقليم يتناقض ذلك مع طبيعتها باعتبارها أنظمة تقوم على حكم الفرد أو العائلة أو القبيلة. أما الدول الغربية، فإنها لا يمكن أن تشجع على إقامة ديمقراطية حقيقة، لأن مصالح الشركات متعددة الجنسية الغربية تسعى للحصول على أكبر قدر ممكن من الأرباح خلال تعاملها مع البلدان الأخرى، وليس توسيع الديمقراطية في البلدان المتخلفة. وبناءً على ذلك تفضل الدول الغربية ودول الإقليم، التي ترتبط بعلاقات متشعبة بالدول الغربية، التعامل مع القوى الدينية، خلال الظروف الراهنة على الأقل، لإدارة المرحلة، لأنها لا تملك رؤية واضحة للتطور السياسي والاجتماعي، بدلا من الأحزاب الليبرالية والقومية والديمقراطية التي تمتلك برامج سياسية واجتماعية.
إن هذا الاستنتاج تؤكده التجربة العراقية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، حيث فشل تطبيق النموذج الأمريكي للديمقراطية في إعادة بناء الدولة العراقية على أسس ديمقراطية حقيقية، حيث يلاحظ الباحث إن النظام السياسي في العراق الذي تشكل بمشورة قوى الاحتلال، أدى إلى بناء أسس دولة تقوم على المحاصصة الطائفية والقومية( ).

وبتقدير الباحث، فأن المحيط الإقليمي والدولي، يدعم التوجهات التي تتبنى إقامة دولة إسلامية" مستترة" في المرحلة الأولى من إعادة بناء الدولة في البلدان التي استطاعت التخلص من الأنظمة الاستبدادية، حيث يمكن ان تشكل هذه الأنظمة مقدمات لتوسيع النموذج التركي في البلدان العربية، في فترة لاحقة.
4 ـ إن محاولات القوى ذات الأيديولوجية الشمولية الممثلة بقوى الإسلام السياسي وأنصار الليبرالية الجديدة( ) استغلال الظروف الراهنة لتطبيق أيديولوجيتها، وكأنها هي التي نظمت وحركت وقادت الجماهير الثائرة، تؤدي إلى حدوث إنشقاقات خطيرة في صفوف قوى الثورة، الأمر يحد من إمكانية إزالة تركة الاستبداد والانتقال إلى سلطة ديمقراطية حقيقة.
5 ـ تواجه القوى الليبرالية والديمقراطية مهمة المحافظة على الوحدة السياسية للدول العربية، نظرا لما يمكن أن تتركه سياسة الجناح المتطرف من التيار الديني، من تهديد لهذه الوحدة بسبب سياسة التعصب ضد الأديان والمذاهب الأخرى وحقوق القوميات غير العربية، الأمر الذي يستغل من قبل القوى الغربية، فتقوم بدفع الأقليات الدينية والقومية لتقديم مطالب متطرفة لا تنسجم مع الظروف الموضوعية الراهنة، مما يؤدي إلى خلق حالة من التوتر الاجتماعي، ينتج عنه توفير فرص مناسبة للدول الغربية لزيادة تدخلها في الشؤون الداخلية للدول عربية تحت ذريعة حماية حقوق الأقليات الدينية والقومية.

ثانياً: التوصيات

1ـ إن تحكم العقلية الاقصائية لدى قادة النخب السياسية العربية، يتطلب وضع مبادئ دستورية ملزمة، للتداول السلمي للسلطة. إن تحقيق هذا المطلب يمنع محاولات بعض الأحزاب السياسة، والدينية منها بشكل خاص، من عرقلة التداول السلمي للسلطة تحت ذريعة نتائج الشرعية الانتخابية التي يمكن أن تحصل عليها بعد إجراء الانتخابات في الظروف الراهنة. إن هذا الاستنتاج تؤكده تجربة إيران والسودان والعراق.
2 ـ إن احتدام الصراع الفكري والسياسي حول مفاهيم جديدة مثل: التداول السلمي للسلطة، الفيدرالية، الديمقراطية، الانتخابات، التعددية الحزبية، وكذلك الإشكاليات الناتجة عن التقدم الحاصل في مجال الحقوق السياسية والعقبات الاجتماعية والاقتصادية التي تحول دون التمتع بتلك الحقوق يتطلب من التيار الديمقراطي:
أ ـ الابتعاد عن الانغماس بالصراع الأيديولوجي وطرح أهداف اجتماعية واقعية، وكذلك توضيح المفاهيم الجديدة بلغة قريبة من المواطن العادي الذي يقع فريسة للخطاب التضليلي لقوى التعصب والتطرف، الأمر الذي يساهم في استمرار الزخم الشعبي لتحقيق الأهداف الاجتماعية والسياسية للاحتجاجات الشعبية.
ب ـ توسيع التحالف الوطني بضم القوى المعتدلة من تيار الإسلام السياسي والقوى الشبابية الجديدة.
ج ـ استيعاب قوى تيار الإسلام السياسي في البينة السياسية للمجتمع، باعتباره أحد الأسس الرئيسية للاستقرار الاجتماعي وخلق بنية سياسية ديمقراطية.
3ـ ينبغي الابتعاد عن استغلال مظاهر التدين المنتشرة في المجتمعات العربية وتجييرها لصالح تيار سياسي معين لأن ذلك يؤدي إلى تنمية العصبيات، المذهبية، الطائفية، العرقية ـ القومية، العشائرية والأقليمية، واستغلال هذه العصبيات لإعادة بناء الدولة على أسس فدراليات، طائفية ـ مذهبية أو عرقيةـ قومية.

الخاتمة:
على ضوء تحليل البنية السياسية والاجتماعية والفكرية للمجتمعات العربية في المرحلة الراهنة، وتجربة الأنظمة الاستبدادية في تشويه الديمقراطية، وبناء على نتائج تطبيق النموذج الأمريكي للديمقراطية في العراق بعد الاحتلال، أرى أنه لا يمكن تطبيق النموذج الغربي للديمقراطية، نظراً للاختلاف الكبير بين البيئتين، السياسية والاجتماعية، والوعي والممارسة التاريخية للديمقراطية.
وبناء على الرؤى السابقة، أرى أن نموذج الديمقراطية الذي يناسب المجتمعات العربية التي تجري فيها الاحتجاجات الشعبية، هو ديمقرطية الشراكة الوطنية التي تقوم على مبدأ التوافق الوطني الذي يوفر الفرصة لكل المكونات السياسية والفكرية المشاركة الحقيقة في صنع القرار، الأمر الذي يضعف حاجة القوى الوطنية للاستقواء بالعامل الخارجي ضد بعضها البعض، كما يقلل من فرص بعض تيارات الحركة السياسية للانفراد بالسلطة سواء بالاستناد على الشرعية الانتخابية أو إلى العنف. إن تحقيق ذلك يساهم في توفير الظروف المناسبة للاستقرار السياسي والاجتماعي خلال الفترة الإنتقالية. وأهم مبادئ ديمقراطية الشراكة هي:

1ـ توفير الحريات الأساسية للمواطن، كحرية تشكيل الأحزاب والمنظمات الاجتماعية والمهنية، وحرية التعبير والتجمع والتظاهر.
2ـ قبول التعددية الفكرية والسياسية.
3ـ التداول السلمي للسلطة.
4 ـ انتخابات حرة ونزيهة.
5 ـ بنية قانونية للانتخابات، كقانون الأحزاب، وقانون انتخابات يوفر الحرية الكاملة وتكافأ الفرص للترشيح والانتخاب.
6 ـ توفير حد معقول من العدالة الاجتماعية.
7ـ اعتماد مبدأ التوافق الوطني، في اعداد الدستور وقانون الانتخابات والمشاركة في السلطة الانتقالية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مشيئة الله
محمد عبيد ( 2012 / 2 / 23 - 19:33 )
السلام عليكم ابو سلام المحترم هذا المقال هو كلام اكاديمي ولا يمت الى الواقع بأي صله والسبب وما تشاءون الا ان تشاء امريكا والاستعمار وقول الفصل للمال وبس


2 - اجتهاد ولكنه خارج الساحة الحقيقة
سامي بن بلعيد ( 2012 / 2 / 24 - 04:16 )
معذرة اخي الكريم
انا لم استطع ان اجمع بين مفارقاتك التي تاهت في التفاصيل واضاعت الاصل
اخي نحن في عصر ثورات وليس انتفاضات
ثورات خرجت لها الملايين من العرب وهدفها التغيير من واقع العنف والصراع والتآكُل الداخلي والاستبداد الى واقع السلمية والعقل والمدنية
والمطلوب هو اصلاح الخلل الحضاري السائد في كينونة الامه _ذهنيتها ودائرة قيمها الادبية والاخلاقية _ وذلك الخلل موجود في كل افراد الامة حاكماً ومحكوم ونُخب ... الخ ونحن جربنا حكم كل الاصناف ولم ينجح واحداً منهم وذلك ليس لانه غير قادر ولا مؤهل لوحده بل
ان المحكومين كانوا غير مؤهلين للتعاطي فالخلل عام وهدف الثورة هو بناء الانسان الذي يعتبر الخلية الاولى في المجتمع وبالتالي فمهمة الثورة هي التغيير في كينونة المجتمع واعادت بناء حلقات الوعي العام للامة من اجل بناء العقل الجمعي الذي يحمل المفاهيم العامة والاهداف الشاملة لبناء وطن وعلى قاعدةٌ انسانية ٌ رحبه
ن

اخر الافلام

.. وزير الخارجية التركي: يجب على العالم أن يتحرك لمنح الفلسطيني


.. غارات إسرائيلية تستهدف بلدتي عيتا الشعب وكفر كلا جنوبي لبنان




.. بلومبيرغ: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائف


.. التفجير الذي استهدف قاعدة -كالسو- التابعة للحشد تسبب في تدمي




.. رجل يضرم النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترمب في نيويورك