الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكشف عن -اللهو الخفي-

أيمن بكر

2012 / 2 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


قال أحد الحكماء إنه "كلما ازداد العمق، اتسعت مساحة السطح" والمقصود ببساطة أن العمق دائما غائم ومظلم وكلما استطاع الوعي الإنساني الدخول إلى مزيد من المساحات المجهولة المعتمة تمكن من إضاءتها وكشف غموضها بالفهم والتفسير، ما يحول هذه الأعماق إلى مناطق منيرة تماما كالسطح الواضح. هكذا كلما ازداد عمق المعرفة والوعي تتسع مساحة الواضح المضيء.
هناك أعماق داكنة في دائرة صنع القرار في مصر منذ إزاحة رأس النظام في فبراير 2011، كلما اقتربت من مركز صنع القرار تزداد الحجب، وعند نقطة محددة تصبح الرؤية متلاشية حيث يتكاثف الظلام، وتتضارب التأويلات، ويشعر الراغب في الفهم والتحليل أنه يخبط في عماء. عند هذه النقطة يبدو من يحرك الأمور ويوجه مسار الأحداث ويصدر القرارات ليس شخصا أو عدة شخصيات تمارس عملها بشفافية ووضوح، بل يبدو أن من يحرك الأمور هو "اللهو الخفي" الذي لا يستطيع كشفه ولا معرفة منطقه أحد.
كلمة "اللهو" في العامية المصرية لا علاقة لها بالهزل أو اللعب كما هو معناها في معجم الفصحى، وإنما تتصل مباشرة بمفهوم "اللهوة" التي تعني حرفيا "المصيبة الثقيلة"، ومنها اشتقت لفظة الندبة المصرية الشهيرة "يالهوي" أي يا مصيبتي. اللهو الخفي يبدو مشيرا بقوة نحو صانع المصائب الكارثية أو مصدرها، وهو مفهوم يضيف لفكرة المصيبة أبعادا مفزعة لأنه "خفي" لا تعرف من أين سيصيبك، ولا قوة الضربة التي ستأتيك من اتجاه مجهول.
في مصر يبدو صانع القرار حتى وقتنا هذا هو "اللهو الخفي"، تماما كما كان الأمر أيام مبارك. غير ان اللهو أيام مبارك كان مجسدا في شخصه هو نفسه؛ إذ كان موجودا كمصدر لا يريد أن يتوقف عن إنتاج المصائب وإلقائها على المصريين من حيث لا يحتسبون، أما الآن فيبدو "اللهو" الذي يلقي بالمصائب كما كان، لكنه أصبح على يد المجلس العسكري "خفيا". ولأنه لهو ولأنه خفي فهو يترك الناس في حالة تناحر لفهم ما يحدث دون أن يقدم تفسيرا، حتى يصل الأمر حد الاقتتال بين ثوار الأمة والشرطة الفاسدة التي تعمل بقوة القصور الذاتي طبقا لعقيدتها القديمة التي ترى في المواطن عبدا لا يستحق أي احترام. وصل اأفمر حدسفك دماء شباب مصر، ثم سحل جثث الشهداء في الشوارع والاعتداء على أعراض فتيات مصريات عبر كشوف العذرية والتعرية العلنية والدهس بالأقدام. والذنب الذي ارتكبته شريفات مصر من خيرة شاباتها ليس سوى الاشتراك في ثورة التحرير التي انطلقت في يناير 2011. ثم تنتهي الجرائم بالانتقام الدموي الذي وقع على شباب ألتراس النادي اأاهلي في بور سعيد، بكل ما أحدثه ذلك من وقيعة ساذجة بين أبناء البلد الواحد.
وحين ينفجر الوضع وتصل مستويات الجريمة التي يرتكبها النظام إلى حد إيقاظ الألم الذي تربى في أرواح المصريين على مدى أكثر من ثلاثين عاما، يتحرك "اللهو الخفي" بهدوء وثقل ليقدم بعض التنازلات الأقرب إلى المناورة دون أن يتخلى عن تعريفه الأساسي بوصفه لهوا ودون أن يتبدى شيء من خفائه.
الشعور السابق يجد مقاومة من أصحاب التفكير النقدي، وهم ليسوا النخبة فقط أو من يظهرون في وسائل الإعلام أكثر مما تظهر الإشارة الحمراء في شارع قصر النيل حين يكون مزدحما، بل إن صاحب التفكير النقدي هو كل إنسان يمرر ما يسمعه على عقله ليتساءل عن مدى معقوليته بالنسبة لمعايير يرتضيها هو شخصيا، ويتساءل أيضا عن مدى تجانس ما يسمع أو تناقضه، وهي عمليات عقلية تتم سريعا ودون وعي غالبا.
في برنامجه على إحدى الفضائيات يوم 25 نوفمبر 2011 استضاف مجدي الجلاد خمسة من مختلف طبقات مصر: سيدة مكافحة تعمل لتربي أولادها بعد أن فقدت زوجها منذ 19 عاما، وجزارا من حي الطالبية يداوم على التظاهر والاعتصام في التحرير، وطالبة ماجستير خريجة كلية الآداب من محافظة قنا، ومقاول ورجل أعمال. مثل الحضور تقريبا مختلف طبقات الشعب المصري، وما كان يجمعهم رغم اختلافهم في بعض النقاط هو القدرة على ممارسة التفكير النقدي، جميعهم لا يسلم عقله لمن يقدم له إجابات جاهزة دون أن يفكر فيما يسمع، وجميعهم يعاني من الوضع الحالي، لكنه لا يسخط على التحرير ولا يسب الثوار، ولا ينسى أنهم من استطاع إزاحة كابوس مبارك وعائلته من تاريخ مصر بل يشاركهم رغبتهم في تغيير البلد نحو الأفضل، مع الوعي العميق بأن هذا التغيير لا يتم بسهولة، ومع الوعي أيضا بأن هناك لهوا خفيا يدير البلاد.
ما لمسه ضيوف البرنامج السابق، هو ما يمكن أن يلمسه كل ذي عقل ناقد، وأعني أن اللهو الخفي يكمن في المساحة المشتركة بين المجلس العسكري الحاكم الآن ومبارك. بعبارة أخرى تكمن مساحة الغموض الأكثر سوادا لدى المجلس العسكري في أنه ينطلق في فهمه للأمور واتخاذه للقرارات من فوق الأرضية نفسها التي كان ينطلق منها مبارك ودائرته الأقرب: إيمان خفي بوجود طبقات للناس ينتج عنه إيمان ظاهر بجدارة الذات وتفوقها على غيرها/ يقين لا مبرر له بأن ما يتوصل إليه وعي الحاكم هو الحقيقة، أو هو بلا شك أفضل الاحتمالات/ تشابك عميق يصل حدالتوحد، غير مبرر بين ذات الحاكم والوطن/ الاعتياد على منطق واحد في التعامل مع مختلف مستويات صناعة القرار وهو المنطق العسكري؛ أي الأمر والطاعة، إضافة إلى ما يمكن أن نتخيله أو نفترضه من وقوع صانعي القرار اآتن في دائرة الفساد الواسعة التي لوثت معظم من دخلها.
لا يخفى على أحد أن كل أعضاء المجلس العسكري هم جزء من بنية السلطة في نظام مبارك. وما يجعل منطقهم هو منطق "اللهو الخفي" الذي لا يستطيع أن يكون ظاهرا كظهور منطق مبارك ورجال حكمه الأقربين، هو أنهم في لحظة استثنائية، إنهم يمارسون الحكم في حالة ثورة أدانت منطق مبارك في الحكم، ووضعته هو وأقرب معاونيه خلف القضبان، فلم يعد من الممكن المجاهرة بطريقة التفكير التي يمارسونها، ولا بآليات اتخاذ القرار، ولا بأهدافهم، ولا بالطريقة التي يرون بها الثورة والثوار لأنها أصبحت مجرّمة. الطبيعي في هذه الحالة أن يختفي المنطق وتظهر القرارات، يختفي المطبخ ويختفي مستشارو المجلس وتختفي كذلك توجهات صانع القرار، بينما يظهر تأثيرها جليا.
اللهو الخفي ليس شخص المشير أو أي من معاونيه، إنه ليس شخصا على العموم، بل هو منطق أي نظام ديكتاتوري لا يستطيع أن يكشف عن محركات صنع القرار. روح اللهو الخفي هي معادلات المصالح الشخصية التي لا تستهين بأرواح أبناء الوطن، ولاتنهب ثرواته فحسب، بل تسعى لتحويل الفساد واااستهانة بالبشر والنهب إلى مؤسسة منظمة يتم توريثها والدفاع عنها وإكسابها مشروعية تقترب بها من مستوى البداهة.
على أن اللهو الخفي الآن في أزمة حقيقية تنذر بنهايته؛ فلم يعد أحد يقبل بوجوده، بعد أن تم توجيه الإصبع السبابة لدى كل المصريين نحوه منذ يوم 25 يناير 2011، وأعاد الشعب بقوة توجيه إصبع الاتهام نفسه في 25 يناير 2012.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي