الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأدب هو الاشجع في كشف المستور وطرح الاسئلة

مهند عبد الحميد

2012 / 3 / 1
الادب والفن


الأدب هو الاشجع في كشف المستور وطرح الاسئلة
رواية "على ضفاف بابل"
الكاتب : خالد قشطيني
الناشر : دار رياض الريس / بيروت
الحجم : 230 صفحة
: By the rivers of babylon
الرواية صدرت باللغة الانجليزية بالعنوان المبين أعلاه عن دار النشر البريطانية (كوارتيت) وقامت دار رياض الريس بترجمتها ونشرها بالعربية. عنوان الرواية باللغة الانجليزية هو العنوان ذاته لأغنية (فريق البوني ام) "على ضفاف أنهار بابل" كلمات الاغنية مغايرة لمضمون وأفكار الرواية. الاغنية هي نص المزمور 137 "نشيد المنفى" ومن كلماتها : على أنهار بابل هناك جلسنا، فبكينا عندما تذكرنا صهيون/ كيف ننشد نشيد الرب في ارض غريبة / فإن نسيتك يا أورشليم فلتنسني يميني... "
لكن الروائي يقول على لسان معلم مدرسة عراقي في سياق السرد : الديانة الاسلامية نشأت في الجزيرة العربية وانتشرت في العراق وغيرها، أما ديانتكم اليهودية فهي عراقية صميمة نشأت في العراق لا في فلسطين، ويضيف المعلم " كل كتب التوراة والتلمود كتبت هنا على ارض بابل، كل انبيائكم مدفونون هنا في العراق".
باب إيلو، التي تعني بوابة الإله، اي بابل هي مدينة عراقية تاريخية، تقع جنوب بغداد على بعد 85 كيلو مترا على نهر الفرات، اشتهرت بحضارتها التي ازدهر فيها الفلك والفنون والعلوم والتجارة والقانون وبخاصة شريعة حمورابي، كانت عاصمة البابليين منذ عام 1750 قبل الميلاد. وقام الملك البابلي نبوخذ نصر بسبي اليهود من مملكة يهودا الى بابل وسميت العملية بالسبي البابلي وبلغ عدد المسبيين آنذاك 140 الفا. لكن قورش الفارسي الذي انتصر على الامبراطورية البابلية عام 539 ق.م سمح لهم بالعودة فعاد 40 الفا فقط وبقيت الاكثرية في بابل.
اختيار الاديب قشطيني لعنوان الرواية لم يكن بلا مغزى، هل قصد به حدوث سبي مضاد للسبي البابلي، ام انه يقدم بابل كنموذج لنجاح حضارة الرافدين في بناء التعايش والاندماج بين المكونات العرقية والاثنية والدينية خلافا للنموذج الاسرائيلي. واختيار اسم عبد السلام بطلا للرواية، هل المقصود به اندماج اليهود في الثقافة العربية بما في ذلك استخدام الاسم الذي يبدأ ب "عبد..."وهو غير مستخدم بتاتا لدى اليهود. ام ان ذلك كان هفوة عابرة؟
احتل اليهودي او الاسرائيلي او الصهيوني حيزا في الادب العربي، وكان يأتي في سياق دحض الفكر الصهيوني وفي الوقت عينه تقبل الديانة اليهودية واليهود، كما تقول دراسة د. عادل الاسطة "صورة اليهودي في الادب العربي".تلك الدراسة النقدية التي عرضت الحيز الذي احتله اليهود في روايات عبد الرحمن منيف وممدوح عدوان وزياد قاسم والياس خوري وأمين معلوف وغسان كنفاني ورياض بيدس.
الادب العربي كما الادب الاسرائيلي يدور حول نقطتين : صورة سلبية ناشئة عن عوامل تاريخية نفسية دينية سياسية وابرز تجسيد لها هو الكراهية والعداء. وصورة ايجابية ، تتحرى اقصى درجات الموضوعية اثناء معالجة القضايا المشتركة وكان اهم نموذج عربي لها مسرحية " الاغتصاب" للمسرحي السوري سعد الله ونوس، الذي لم يقدم الاسرائيلي كعدو مكروه، ورفض الخطابة والحماسة للفلسطيني ايضا، وانطلق من فكرة أن الكراهية المطلقة تُسَّوِغ فعل كل شيء، ولا يوجد انسان يتبنى الكراهية المطلقة ولا يتداعى. كما يقول سعيد علوش في دراسة منهجية حول مسرحية الاغتصاب. وجاءت رواية "سيدة من تل ابيب" لربعي المدهون ورواية " العقرب الذي يتصبب عرقا" لاكرم مسلم في سياق هذا الطراز من المعالجة والرؤية الموضوعية للاخر.
امين معلوف في " سلالم الشرق "والياس خوري في "مملكة الغرباء" و"باب الشمس" عززا فكرة سعد الله ونوس في مسرحية " الاغتصاب". ثم جاءت رواية " على ضفاف بابل " لتطرح الاشكالية برمتها من خلال حكاية الطبيب العراقي اليهودي.
"على ضفاف بابل" أول رواية تقدم المسكوت عنه، وهي تعطي البطولة لشخصية يهودية مرموقة اجتماعيا ومهنيا. عمل ادبي يتوقف بسرده الشيق عند مكانة اليهود العراقيين في مجتمعهم الطبيعي، ويكشف بصراحة ادبية العوامل الداخلية التي تضافرت مع العوامل الخارجية في استئصال جزء حيوي من نسيج المجتمع العراقي وفي دفعه الى الخارج."على ضفاف بابل" دراما اجتماعية وسياسية مثيره، تعتمد الواقعية والسخرية والتوحد الجمالي مع المكان.
تتمحور الرواية حول قصة نجاح عبد السلام ساسون العراقي اليهودي، كمواطن وطبيب مندمج في المجتمع العراقي، وكعنصر حيوي في النخبة المثقفة والمزدهرة. ذلك النجاح الذي تعصف به التحولات السياسية الدولية -الحرب العالمية الثانية وإقامة دولة إسرائيل-. وتهزمه قيم المجتمع الذكوري الذي لا يرحم المرأة.
"سميرة" فتاة مراهقة تقع في غرام الشاب " حسون"، وسرعان ما تستسلم لجاذبيته ودعابته، فتشاركه العشق في لقاءات سرية بعيدا عن انظار اسرة "الحاج نوفل" الميسورة التي تنتمي لها سميرة. ولم يمض طويل وقت حتى تحول فرح العشيقين الى مصيبة، وذلك عندما اكتشفت الاسرة تكور بطن سميرة، اكتشاف الحمل وضع كل ذكور الاسرة امام تحدي مصيري. فيبادر شقيقا سميرة المسلحان بسوق شقيقتهما المتهمة الى عيادة أشهر طبيب نسائي في بغداد هو الدكتور عبد السلام ساسون. تبدت سميرة في كتلة بشرية متدثرة بالعباءة السوداء، ترتعد فرائصها خوفا من المصير الآتي. الشقيقان المتجهمان يجلسان في صدر العربة التي تم استئجارها، وتجلس سميرة تحت اقدامهما في المقعد السفلي. منظر يلفه الصمت والغموض تشبه لحظة ما قبل العاصفة. ترجل الشقيقان ومعهما "المتهمة" ودخلا غرفة الطبيب ساسون ليقول قولته. الطبيب يعترف تحت تهديد السلاح بأن سميرة حامل، ويتعهد لهما بأنه سيخلصهما منها في إشارة ضمنية الى قتلها كما يرغب الشقيقان.
تختفي "سميرة" ولا احد يعرف مصيرها بعد الصفقة المشينة التي أبرمت تحت تهديد السلاح بين الطبيب وأسرتها. ويتشرد الشاب"حسون" فيعمل حفارا للقبور ويسكن بين الاموات وينتقل متخفيا من مكان لاخر، خشية من انتقام عائلة سميرة، والانتقام في هذه الحالة يكون بالقتل. اما الدكتور ساسون فيصاب بمرض نفسي يسلبه القدرة على مزاولة مهنة الطب، فيخسر جميع مريضاته من نساء الطبقة العليا البغدادية. ويعيش حالة من "التثبيت" على تلك اللحظة المريضة التي اضطرته لاتخاذ "موقف" يتناقض مع قناعاته. ظل الطبيب المريض يردد على مسامع الناس : لا، لم اقتلها!!!. ويتحول من معالج متألق لامراض صفوة القوم، الى شخص مريض يبحث عن أطباء لعلاجه، وتتنقل به زوجته "تفاحة" من طبيب لاخر دون ان يفلح احد في علاجه، واخيرا تستجيب زوجته لقرار اصدقائه من الاطباء بتحويله الى مستشفى الامراض العقلية.
مأساة "سميرة وحسون" ومصيبة ساسون تلقي الضوء على الحياة الاجتماعية وتناقضاتها في عراق الأربعينات من القرن العشرين. ينتقل السرد الادبي في هذا المجال من المعلن الى المخفي. المعلن يوحي بوجود مجتمع مدني متحضر يملك مقومات التطور. ويمكن التعرف عليه هنا من وصف شارع السعدون الذي توجد فيه عيادة د. ساسون اشهر طبيب في بغداد. "الشارع يغص بالمطاعم والمحلات التجارية والمكتبات والسينما والكبريهات والمقاهي ومعاهد الموسيقى. وفي مكان آخر عندما يتحدث عن كلية بغداد الراقية، التي ينتسب لها ابناء الطبقات الراقية. يمكن الاشارة الى وجود تقليد لم تأت الرواية على ذكره هو انتخاب ملكة جمال بغداد والذي فازت به زوجة اليهودي العراقي نعيم رنكور عام 1946 وهو بليونير يهودي عراقي يقيم الان في لندن. والاشارة ايضا الى وجود 7 آلاف طالبة في مدرسة البنات اليهودية. كل ذلك يعزز وجود طبقة ميسورة منفتحة على الحضارة والمدنية وتنتمي لقيم الحداثة.
مقابل ذلك، يلاحظ من خلال السرد فئات أخرى من الشعب العراقي تعيش في شروط قاسية، "هناك وقفت نساء قويات طرز الوشم وجوههن يمسكن بقضبان خشبية طويلة لنكش الوقود والسيطرة على النار، وراء طبقة من الدخان الازرق المتصاعد من التنانير، والمختلط مع رائحة الخبز،وهناك جماعات من الفلاحين يحملون فؤوسهم...
يتحدث الروائي عن التعدد الذي يضم العرب والاكراد والتركمان وطوائف يهود وصابئة ومسيحيين ومسلمين المتعايشين، الذي يتضمن تعددا في القيم والثقافات كان الغلبة فيه لقيم العشيرة والبداوة والتعصب في مرحلة تشكل الدولة العراقية في إطار سيطرة الاستعمار البريطاني.
انتصرت قيم المجتمع الذكوري البدوية العشائرية عندما أحيل مصير الفتاة المراهقة سميرة والشاب حسون الى المجهول، وعندما قرر الشقيقان شطب حياة شقيقتهما من الوجود، من خلال تدبير جريمة ما يسمى "شرف العائلة"التي تجسد الظلم الاجتماعي في ابشع صوره. وهزمت في الوقت نفسه قيم الحداثة وحاملها الطبيب المثقف الذي ينتمي للحزب الشيوعي العراقي. صحيح ان العراق شهد تعددا ثقافيا، بوجود نخبة من الاكاديميين الدارسين في الغرب وكبار الموظفين وبوجود حزب شيوعي يطرح القضايا الاجتماعية بمفهوم تقدمي غير تعصبي، وبوجود نخب ثقافية وفنية في حقول السينما والمسرح والأدب. لكن تقافة الحداثة وقيمها كانت الاضعف لانها لم تتغلغل في الاوساط الشعبية وبقيت معزولة وسط تلك النخب، ولم يكن من الصعب هزيمة قيم الحداثة بالضربة القاضية في عقر دارها الرمزي، اي داخل عيادة ساسون التي تحدثت نساء الطبقة الراقية فيها عن اسرارهن وحياتهن الجنسية بحرية.
هزيمة قيم الحداثة لم تتوقف عند هذه الحدود، بل تواصلت مع رحلة "تفاحة" زوجة الطبيب ساسون بين أضرحة الاولياء. ذهبت به الى" محلة الفضل" مرقد الامام الفضل الذي يُزار كل ليلة جمعة وتوقد حوله الشموع، ويعتقد ان أداء هذا النوع من الطقوس يشفي المرضى. وانتقلت تفاحة بصحبة زوجها العليل الى ضريح النبي ذو الكفل طمعا في العلاج الروحي، ولم تنس سؤال المشعوذين في اكثر من مكان، لكنها حصدت الفشل تلو الفشل، معمقة بذلك هزيمة الحداثة والعلمانية وقيمهما عندما وضعت الطب والعلم جانبا واعتمدت الخزعبلات وادعاءات المشعوذين.
الوجه الاخر لرحلة العلاج الروحي كان تحريك ابطال الرواية في الازقة الجميلة والمباني التاريخية والبحث عن الأسرار والمعتقدات المتضاربة، من خلال قص شعبي آسر. الوصف ينقل القاريء من الكرخ الى الرصافة وبابل ثم الى البصرة وشط العرب، ويمتعه بجمال الاسواق والمباني والملابس والطقوس والطعام والعلاقات الاجتماعية والغناء.
نموذج التعايش الديني
" تنطلق اصوات الاذان، وعلى مسافة قريبة من الجامع الاسلامي تدوي اجراس الكنيسة ولم يزج النبي موسى نفسه في هذا الصراع فآثر الكنيس اليهودي الصمت". هذا التنوع يعكس التعدد والتعايش السلمي بين الديانات والطوائف والمذاهب والملل المتواصل منذ قرون في العراق. تعايش ينأى به اصحابه عن التعصب والتمييز والاضطهاد. البعض يعزو التعايش بين اليهود والمسلمين لوجود اب مشترك لليهود والمسلمين هو ابراهيم الذي ولد في العراق.
جاء في رواية على ضفاف بابل " جرى تحرير القسم الاكبر من العهد القديم على أرض بابل، لا في فلسطين ولا في مصر، هنا وضعت أسس الديانة اليهودية والايمان بالتوحيد وهو ما يفسر اعتقاد البعض بأن نحو 300 نبي وكاهن من انبياء العهد القديم وكهنته قد دفنوا في بلاد ما بين النهرين. نهر الفرات تبارك بضريح النبي ذي الكفل وحزقيال، ونهر دجلة اعتز باحتضان عظام ولِّي آخر "عزرا" المدفون على الجانب الشرقي من النهر" . في العراق توجد كل قبور انبيائنا وأوليائنا وكتابنا المباركين".
لكن الحاخام موشي الذي يرعى الكنيس اليهودي في طهران له كلام آخر. فقد قال للطبيب ساسون وزوجته بعد هروبهما الى ايران : ان هذا كلام فارغ ويصف العرب بالكذابين والفظيعين ويقول: كل انبيائنا المذكورين في التوراة مدفونون هنا في ايران بلاد الملك قورش، ويضيف هنا مدفون دانيال وإستر وحزقيال مدفون في اصفهان والخروج الصحيح كان من ايران.
كانت الجالية اليهودية في العراق هي الاكثر ثراء، وقد احتلت مراكز حيوية في العديد من المهن وكانت الاكثر تعليما. كما كان لها حضورا في الفن وبشكل خاص الموسيقى، فاوركسترا الكوبانجي معظمها من اليهود،والفنانة (سليمة مراد) التي رفضت مغادرة العراق لها حضورا مميزا كذلك الفنانة (سلطانة) والفنانة (ناظمة ابراهيم) وكلهن ينتمين للديانة اليهودية. وشارك مثقفون يهود في الحزب الشيوعي العراقي في المواقع القيادية وفي الصحافة والعمل النقابي. فكان اول شهيد للحزب الشيوعي يسقط عام 1946 في مظاهرة مناوئة للاستعمار البريطاني والحكومة الرجعية هو "شاؤول طويق" اليهودي الشيوعي الذي علقت صورته في مقرات الحزب كنموذج للمناضلين الشجعان. ويقال ان القيادي "يهودا صديق" أعدم مع زعيم الحزب الرفيق فهد في العام 1949 ولكن جرى التستر عليه لتفادي ربط الحزب باليهود وتحصيل حاصل بالمشروع الصهيوني، واعتقل مئات من الشيوعيين بينهم يهود كثر. الرواية "على ضفاف بابل" لم تدخل الى هذه المنطقة (تجربة الحزب الشيوعي).
بيد ان الدليل العملي الاقوى على التعايش وتقبل الاخر الذي تقدمه الرواية هو : فوز الطبيب اليهودي ساسون بثقة المواطنين على اختلاف انتماءاتهم في مجال حساس جدا هو الطب النسائي. والثقة هنا تجسد التعايش في ارقى مستوياته.
لكن التعايش السلمي التاريخي انقطع بفعل "مشروع إسرائيل" الذي تدحرج من فكرة في مؤتمر بال، الى مشروع عبر وعد بلفور، الى تطبيق بإقامة الدولة. الرواية تتحدث عن قرارات سحب الجنسية التي اتخذتها الحكومة العراقية، المترافقة مع دعاية معادية دمجت اليهود العراقيين بدولة إسرائيل وبالمشروع الصهيوني المعادي للعرب وللعراق خلافا للسياسة التي اتبعها فهد زعيم الحزب الشيوعي الذي شكل هيئة مكافحة الصهيونية وفصل بين اليهود والصهيونية ومشروعها، وخلافا لمواقف اليهود الذين رفضوا المشروع ورفضوا الهجرة الى إسرائيل. غير ان مواقف الحكومة العراقية تقاطعت مع اهداف الحركة الصهيونية في تهجير اليهود، عندما تعاملت الحكومة مع مواطنيها اليهود العراقيين كشريك في المشروع الصهيوني وناصبتهم العداء، وعبأت الشعب العراقي بروح العداء لليهود.
ولعبت السياسة الاستعمارية البريطانية دورا في خلق فجوة بين اليهود وبقية الشعب عندما قامت بتفضيل اليهود على بقية ابناء جلدتهم ومنحتهم افضلية في المناصب الحكومية والتجارة مقابل قمع القطاعات الواسعة من الشعب العراقي. والمانيا النازية حرضت بدورها العراقيين ضد يهودهم فدعمت حركة رشيد عالي الكيلاني ويونس السبعاوي المعروفان بعلاقاتهما المشبوهة مع النازية. وووضعت الحركة الصهيونية من جهة أخرى في مركز اهتمامها هدف نقل اليهود العراقيين الى إسرائيل بأي ثمن.
الرواية ركزت على السنوات القليلة التي سبقت إعلان دولة إسرائيل، ف
لم تتحدث عن مجزرة "الفرهود" التي تعرض لها اليهود العراقيين عام 41 وسقط فيها بين 100- 400 قتيل وأضعاف هذا العدد من الجرحى إضافة لأعمال سلب ونهب على يد مجموعات الشباب العراقية المتعصبة. غير ان الكثير من العراقيين فتحوا بيوتهم لحماية اليهود، وتم التصدي للناهبين والمعتدين من قبل شباب عراقيين، في حين لم تحرك القوات البريطانية ساكنا لحماية اليهود.
ينظر نزلاء مستشفى الامراض العقلية لزميلهم الطبيب ساسون بريبة ويتعرض لاضطهاد على ايديهم، اعتقادا منهم انه يتجسس لمصلحة إسرائيل. ويجري فصل المعتقلين اليهود عن المعتقلين الاخرين الذي ينتمون للحزب الشيوعي في السجون العراقية على خلفية العداء والاختلاف وانعدام الثقة بين رفاق الحزب الواحد، الحزب المؤهل للتعاطي مع هذا التحول بطريقة أخرى، لكنه شارك في المشكلة بعض الاعضاء اليهود في الحزب ميزوا بين السياسة التي اتبعها فهد وسياسة قيادة الحزب بعده التي تورطت في التمييز بين اليهود وغيرهم داخل صفوف الحزب. حادثتان تكثفان النقلة النوعية في الانتقال من حالة التعايش والاحترام المتبادل بين اليهود وغيرهم ، الى حالة الكراهية والعداء. يقول صديق ساسون : البلد كله انجن، جنون في كل مكان، لكن شعبنا راح يندم على ما فعله باليهود انها خسارة للعراق. وفي الجانب الاخر ينفجر ساسون في نوبة من النحيب ويردد : ضياع بلدك اتعس وأصعب من أن تضيع اعز حبيبة عندك. رغم كل ما حدث فإن هذه النقلة لم تكن بفعل ايديولوجية عنصرية لكنها كانت بفعل المشروع الكولونيالي الصهيوني وتداعياته التي تركت بصماتها على تحولات تاريخية في العراق والمنطقة.
أخيرا وفي معمعان التحولات اختارت " تفاحة" زوجة ساسون الفرار من العراق الى ايران محطة التجمع للذهاب إلى اسرائيل. كان في انتظار الاكثرية الساحقة من يهود العراق الفارين، عملية بساط الريح التي نقلتهم من طهران الى إسرائيل. صدم اليهود عندما صعدوا في طائرات خالية من المقاعد، اي انها ليست للنقل الآدمي. وصدموا اكثر بإجراءات الاستقبال والرش بال د.د.ت ووضعهم في معسكرات بانتظار الاستيعاب في مساكن جديدة. ولاحظوا سياسة التمييز بين اليهود الشرقيين والاشكناز الغربيين. الشريحة اليهودية المترفة قلبت حياتها رأسا على عقب في كل الجوانب، واعضاء وكوادر الحزب الشيوعي العراقي التحق بعضهم في الحزب الشيوعي الاسرائيلي، واعداد من النخبة المثقفة واصلوا نضالهم بالاحتجاج على العنصرية والاستعمار.
د. عبد السلام ساسون انتقل الى مستوى جديد من المعاناة في إسرائيل، وبدا انه تشافى من مرضه دون ان تقول الرواية لماذا؟ المفاجأة انه عُين طبيبا للاسرى العرب في حرب 48 بما لا ينسجم بتاتا مع تخصصه في الامراض النسائية، وبما يتعارض مع خبرته كأشهر طبيب في بغداد متخرج من جامعة اكسفورد في بريطانيا. واستغرب ساسون ايضا عندما حول الى بيت كانت تشغله أسرة فلسطينية هجرت من وطنها ومن بيتها. لقد احس المهاجر المطرود من العراق بالفلسطينيين وحرص على التواصل والتعاون معهم، كان يستقبلهم ويستمع لمعاناتهم ويحاول التعاون معهم. وبلغبه الامر حد تسليم المنزل الذي منحته له الوكالة اليهودية الى صاحبه الفعلي "عبد الغفور" الذي عاد من اميركا في زيارة لفلسطين.
اثناء أدائه لمهمته في معسكر الاعتقال فوجيء الطبيب ساسون بالجندي العراقي الاسير "حسون" عشيق سميرة ، الذي التحق بالجيش العراقي وكان ضمن القوات العراقية التي أرسلت الى فلسطين في حرب 48 ووقع في الاسر. كان اللقاء بين حسون وساسون وديا وحميميا. وذات يوم كشف الطبيب عن السر الدفين الذي ظل يعذبه، اعترف امام حسون بأن سميرة حية ترزق، وبأنها وضعت في مكان آمن في العراق، خلافا للوعد الذي قطعه ساسون لشقيقي سميرة والقاضي بالتخلص منها ، التخلص بمفهوم الشقيقان كان يعني قتلها وغسل عارها، والتخلص منها بمفهوم الطبيب المثقف ساسون الذي يحمل رسالة انسانية كان يعني الحفاظ على حياتها وتأمينها من كل تهديد . ساسون كان أمينا على رسالته، عندما وضع الشابة الحامل من علاقة غرامية، عند صديقه الطبيب جورج مالك الاخصائي في الامراض الباطنية ومدير مستشفى في البصرة. انقذ ساسون سميرة من موت محقق دون ان تعلم أسرتها وعشيرتها وعشيقها ايضا.
إن الكشف عن هذا السر حول الهزيمة الاجتماعية للطبيب المثقف الى نصف هزيمة. ولا يكتفي ساسون بالكشف عن السر، بل يحاول تصويب مسار علاقة الحب بين حسون وسميرة عندما ساعد حسون على الهرب من الأسر والعودة الى العراق بحثا عن حبيبته سميرة. قدم ساسون المال للاسير العراقي حسون ، ويَسَّرَ له عملية الهرب من السجن.وينجح حسون فعلا في الهرب ويتغلب على كل الصعوبات في الطريق الى سميرة . كانت مفاجأة حسون الصادمة عندما اكتشف ان حبيبته سميرة تحولت الى "مومس" في بيت الشناشيل الازرق الشهير في مدينة البصرة. اللقاء بين عشيقة مستلبة القلب والعقل وعشيق مشرد ومكسور اجتماعيا ووطنيا، كان بالمعنى الواقعي بلا مضمون انساني، كان فاشلا ومحبطا بالمعنى الافتراضي. ولم يشكل حلا واقعيا للعاشقين المنكوبين كما اعتقد حسون الذي غامر بحياته في رحلة العودة. ان حالة التخلف الاجتماعي وسلطة المجتمع الذكوري المعادية لحقوق المرأة من جهة، وإخفاق التحرر الوطني وعلاقات التبعية الذي رعته قوى اجتماعية عراقية رجعية من جهة أخرى. هذه الشروط ظلت قادرة على انتاج المشاكل الشبيهة بمشكلة سميرة وحسون، وعلى منظومة القيم الرجعية. رغم ذلك يذهب الكاتب الى نهاية مغايرة عندما يقوم حسون بتحرير سميرة من بيت الدعارة ،وينطلقا إلى المطار، في رحلة "نحو أيّ أرض في العالم لا يذبح فيه النّاس من تستجيب لنداء الحب أو يغتصبون جسمها وروحها ويستبيحون حياتها وكيانها". الرواية تقدم حل هروبي سلبي لان المجتمع لا يملك الحل.
تماما كما هو الحال مع الطبيب ساسون الذي لم يجد الحل لمأساته في اسرائيل.فالمقتلع من بيئته وثقافته العراقية لا يجد حلا بمقايضة اقتلاع بآخر والحلول مكانه، لم يستوعب عبد السلام حل اضطهاد الفردي والجمعي كيهود بخلق اضطهاد للشعب الفلسطيني كاضطهاد مضاد. ولم يستوعب ايضا ان الكولونيالية تملك حلا انسانيا للمنكوبين.
بقي القول ان ميزة العمل الادبي تتجلى في كشف المسكوت عنه وتفكيكه، والادب هو الاشجع في طرح الاسئلة وهذا ما فعلته رواية "على ضفاف" بابل.
ملاحظة : القراءة لهذا العمل لا تنتمي للنقد الادبي، كانت فكرة التقديم والعرض والنقد مرتبطة بالعرض والنقد السياسي والاجتماعي. علما ان الرواية أُخضعت لنقد ادبي تراوح بين الإشادة بالرواية، وبين دمغها بالتقريرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن