الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأنبياء الصغار الثورة السورية في محافظة السويداء

فخر الدين فياض
كاتب وصحفي سوري

(Fayad Fakheraldeen)

2012 / 3 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


يختلف المشهد الثوري في سوريا من مدينة إلى مدينة أخرى، ومن طائفة إلى طائفة أخرى، وهناك بعض اختلاف بين العرب والكرد.. لكنه اختلاف في الدرجة ليس إلا.
حين يدخل المرء إلى أية مدينة أو قرية في حوران، يشعر بالتمرد والرفض من خلال الشعارات، المناهضة للنظام، على الجدران وأبواب المحلات، في أحاديث الناس البسطاء، وفي عيون الأطفال الذين ما زالوا يجدون متسعاً من الوقت للّعب على الأرصفة وفي الحارات الضيقة.. وربما هذا المتسع هو جزء من حالة الرفض والتمرد نفسها التي تعيشها البلاد.
أهل حوران واضحين في أهدافهم، وربما هو هدف وحيد، تتمحور عليه كافة تطلعاتهم نحو مستقبل حر كريم يتمثل في "إسقاط النظام بكامل رموزه وأركانه".. وكله سهل بعد إسقاطه!!
تبدو الحواجز الأمنية والعسكرية التي تقطّع أوصال المدن والقرى والحارات الصغيرة، لا تعنيهم.. ولا تمثل إلا لحظة العبور نحو سوريا الجديدة.
طيبة أهل حوران لا يجادل فيها أحد، رغم الدم والقتل والترويع والخراب الذي يملأ العديد من المدن والقرى، فإنهم ينظرون بعين وطنية ـ مدنية إلى التنوع الديني والطائفي والعرقي في سوريا.. لا مشكلة مع جيرانهم الدروز مثلاً، رغم "الموقف الضعيف" الذي تعيشه محافظة السويداء إزاء الثورة: "أهلنا وجيراننا.. نتمنى أن يهبّ الجبل لمساندة الثورة.. لكننا نجد لهم العذر، نعرف أن النظام يتشبث بالأقليات الآن، ويضع ثقله في مناطقهم حتى لا تفلت تلك المدن من يده.. يريد لكذبته الطائفية أن يصدقها أحد".
حوران مهد الثورة السورية تُعتبر ساحة ناضجة للثورة، ثمة تجذير وأصالة في الفعل الثوري: لا تراجع.. حتى إسقاط النظام.
على بعد كيلومترات قليلة منها تدخل إلى محافظة السويداء، تشعر للوهلة الأولى أنك انتقلت من دولة إلى دولة أخرى، لا يصادفك أي مظهر من مظاهر الثورة التي تملأ جنبات حوران وفضائها، ولولا الحواجز الأمنية التي تسألك بلطف وتهذيب ـ على غير عادتها ـ عن بطاقتك الشخصية، لاعتبرت أنها مناطق تعيش زمناً آخر، زمن ما قبل ربيع الثورات العربية، صور وتماثيل الرئيس وأبيه، الخوف من المخابرات ما زال حاضراً في الحياة اليومية، لكن أضيف إليه خوف من نوع جديد: الشبيحة، حيث تراهم ينتشرون في الساحات العامة، ليس من الصعب تمييزهم، فئة في أسفل السلم الاجتماعي، هامشية.. ظلت لوقت طويل غير مرئية، وجد فيها النظام ضالته التي يمكنه استخدامها، دون تحفّظ، للقيام بـ "المهمات القذرة" عبر إعطائها دوراً "قيادياً" في الشارع، مدعومة بالمال واللاقانون: "اقضوا على أي مظهر من مظاهر التظاهر.. ثم افعلوا ما شئتم، المدينة لكم"!! كما وصّف الحالة أحد المتظاهرين: وربما كان هؤلاء "خير تعبير عن النظام.. أو التعبير الكرتوني عن حقيقة علاقته بالبلاد".
الحواجز والشبيحة وقلق الناس من الأيام القادمة يُنبئك بأن ثمة فعل ثوري في السويداء.. لو لم يكن هناك ثورة لما وُجد هذا العدد من المخابرات والشبيحة والحواجز الأمنية!!
ولكن أين هي تلك المظاهر الثورية؟!
إذا كنت من المحظوظين يمكنك أن تصادف مظاهرة في محافظة السويداء.. ستجد عشرات من الشبان يهتفون للحرية ولوحدة الشعب السوري.. ومؤخراً لإسقاط النظام، في مواجهة مئات من الشبيحة المدعومين من مختلف الأجهزة الأمنية: أمن سياسي، عسكري، جوي، أمن دولة. وسترى آنذاك متظاهراً سلمياً مهذباً "على الأغلب طالب جامعة" في مواجهة "مجرّية من الضباع" على حد تعبير أحد الضباط المتقاعدين، تحمل مختلف أنواع الأسلحة، هروات وعصي كهربائية، خناجر، شنتيانات، مسدسات، ومن يحملها على الأغلب "خريج حبوس أو بياع يانصيب"!!.
يحاول الشبان إطالة وقت مظاهرتهم والثبات في وجه هؤلاء، قدر استطاعتهم. ربما خمس أو عشر دقائق.. وفي مرات نادرة استمرت ثلاثين دقيقة.. يهربون فرادى، يطاردهم الأمن والشبيحة، تفتيش المنازل والحارات المحيطة، حملة اعتقالات.. قد يكون عدد المتظاهرين مئة ويتم اعتقال ثلاثين منهم!!
هؤلاء هم "الأنبياء الصغار".
النبي الذي يضطهده أهله وذويه، يرمونه بالحجارة والعصي، يتهمونه بالكفر وعدم احترام "آلهتهم ورموزهم".. لكنه يصّر على "قولة الحق" ورفض الباطل، يرى الغد من خلال نبوءة حرية وكرامة إنسانية ولا سبيل لثنيه عن طريقه.
في السويداء لم تتشكل حاضنة اجتماعية للثورة لأسباب عديدة تحتاج إلى وقفة أخرى، أهمها "الخوف من القمع الهمجي الذي مارسه النظام، منذ جمعة الكرامة وحادثة الجامع العمري في درعا" حيث تم إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين والمعتصمين السلميين، أراد النظام بذلك إيصال رسالة إلى جميع فئات الشعب السوري "مصيركم القتل إن فكرتم بتقليد تونس ومصر!!" ويبدو أن الرسالة وصلت إلى أقليات المجتمع السوري، الدينية والمذهبية والعرقية، وحتى أقلياته الطبقية "تجار حلب ودمشق على سبيل المثال".. الدروز تلقوا الرسالة جيداً آنذاك، "تمسّكوا" بالنظام خوفاً من آلة قتل لا يردعها معيار إنساني أو وطني وربما أرادوا التغيير دون دفع الثمن.
موقف الحاضنة الشعبية غريب بعض الشيء، صامتة لا تبدو موالية، أما الذين تصدّروا المشهد "الموالي" في السويداء، فهم "المتنفذون الفاسدون" الذين لم يحوزوا على أي احترام شعبي، في أي وقت من الأوقات.. بعضهم مشايخ "أكلة مال الوقف، وربيبو الأجهزة الأمنية" على رأي بعض المعارضين، وآخرين أعضاء مجلس شعب ومدراء حاليين ومتعهدون متهمون بالفساد.
الكتلة الشعبية تبدو مترقبة، خائفة ومترددة.. كأنها لا تدرك ما يحصل، خصوصاً أن القسم الأكبر من شباب المحافظة يلتمسون أسباب الرزق في بلاد الغربة "60 ألف شاب من السويداء يعملون في دولة الإمارات وحدها"!! وهذا له دلالتين: حجم الفقر والتهميش الذي تعيشه المحافظة، مما دفع بشبابها إلى حالة تشبه الرحيل الجماعي. والدلالة الأخرى: تفريغ المحافظة من فئة الشباب أحد أسباب ضعف الحراك الثوري فيها، إذ أن الفئة المتبقية هي عبارة عن موظفين ومتطوعين في الجيش والأمن أو يؤدون الخدمة الإجبارية، وهذه فئة لا تشارك في المظاهرات بشكل عام في سوريا.
عدم تشكل حاضنة اجتماعية للثورة، أفرز أمراضاً من نوع آخر "حراك وجاهات" وربما حراك حسابات مرحلة ما بعد الثورة، أكثر من حراك حقيقي للثورة اليوم.. كثيرون من السياسيين القدامى والمثقفين اقتربوا من الثورة لـ"تسجيل أسمائهم"، مقتنعين أن الثورة ستنتصر ولن يكون مصير نظام بشار الأسد أفضل من مصير أنظمة بن علي أو مبارك أو القذافي وفي أحسن الأحوال علي عبد لله صالح. أرادوا إيجاد حراك يعبّر عن حضورهم فأنشئوا لجاناً ومبادرات وتجمعات.. أصدروا البيان تلو البيان، في تناغم غير مباشر، وربما غير مقصود، مع الأجهزة الأمنية التي "أعجبتها" هذه اللجان وبياناتها، إذ أن وجود هؤلاء يعطي السلطة "مصداقية في الإصلاح: إنها تقبل بالرأي الآخر"!! وبالمقابل استساغ هؤلاء هذه اللعبة: التعبير عن الرفض دون التعرض لأي أذى من اعتداء أو اعتقال حقيقي أو غير ذلك..
رأى هؤلاء، منذ البداية، أن لا ثورة في السويداء، وبالتالي لا بد من "التعب على العامل الذاتي" في سبيل إدخال السويداء ، حتى لو إعلامياً، على خارطة الثورة.. "لم يكن بالإمكان أفضل مما كان".. يرد عليهم البعض: لقد "سلّمتم في معركة الشارع.. قبل خوضها، الأصح لأنكم تعرفون أن الشارع لا يحترمكم في الأصل"!!
المشكلة أن هؤلاء حاولوا فرض إرادتهم على الشباب، الذين لا تعنيهم تلك الحسابات.. ويؤمنون حقاً بجدوى التظاهر، لأنهم جزء حقيقي من الثورة السورية، وتعتبر علاقتهم بشباب سوريا "حوران دمشق وريفها حمص حماة حلب، وحتى مع شباب إدلب والقامشلي" مباشرة وقوية من خلال الفيس بوك والجامعة أو العيش في مدينة دمشق بتنوعها الكبير.
سرعان ما تبين الفارق بين الفئتين: فئة الحسابات وفئة الثورات.. وسرعان ما رفض الشباب وصاية هؤلاء "بعثيو" سوريا القادمة، وصورة عن الوجاهات التي تهيئ نفسها للـ"مناصب والمناسف".. وكأن الثورة قامت لتقديم الهدايا والمكافآت لهم؟!!
يقف هؤلاء الشبان إزاء مفارقة غريبة: لقد بدأنا بإضاءة الشموع على أرواح شهداء حوران في 25 آذار.. واستمرينا بشكل يومي.. خرجنا في ثلاث مظاهرات في نيسان، يعني بدأنا بعد حوران مباشرة، قبل حمص وحماة والقامشلي.. لكننا وصلنا اليوم إلى مرحلة "الهروب من السويداء، سعياً وراء التظاهر".
الأنبياء الصغار الذين ثاروا على النظام وعلى المجتمع الموالي جهلاً وخوفاً، ثاروا على حراك الوجاهات المريض أيضاً.
يتأفف الكثيرون من التظاهر داخل السويداء اليوم، يريدون الاستمرار في الشام والجامعة "هناك نتظاهر في الأسبوع مرتين أو ثلاث.. أما هنا فيتقاسمنا أصحاب الخطابات والمشاريع السياسية.." كما عبّر أحدهم.
"هنا نخشى من حديث الثورة حتى أمام أهالينا.. هناك حديث الثورة هو حديث الشارع والسرفيس والحارة والجامعة.. لا حديث أحب منه على قلوب الناس" كما يقول آخر.
"هنا نتعرض للضرب والاعتقال والشماتة.. هناك نتعرض ليس للضرب والاعتقال فحسب وإنما للقتل أيضاً.. لكننا نجد أنفسنا، نشعر بسوريا الوطن الحر.. البلاد العظيمة".
حين ترى هؤلاء الشبان فإنك ترى فيهم شباب حمص وحماة وحوران وريف دمشق وباقي المناطق الثائرة.. لكنك تضيف هنا صفة الثقافة أيضاً.. فجميع شباب التظاهر في السويداء مثقفين، طلاب على الأغلب أو أصحاب شهادات عالية، أطباء مهندسون محامون كتاب فنانون.. قلة من متظاهري السويداء لا ينتمون إلى إحدى هذه الفئات الثقافية وربما كانت الميزة الأهم لهم: في السويداء يتظاهر "الأوادم" في حين يقمعهم "الزعران" على رأي البعض.
يرى الشبان اليوم أنه لن تتحرك الثورة شعبياً في السويداء، إلا من خلال حدث استثنائي، "نثق بالناس العاديين ووجدانهم، في التحرك، أكثر مما نثق بالحراكات المختلفة التي فقّست مثل الفطور على هوامش الثورة"!!
الأنبياء الصغار رحلوا مؤخراً إلى دمشق تاركين خلفهم حاضنة اجتماعية خائفة ومترددة، وحراك وجاهات وخطابات وبيانات وحسابات: "بعثيي" المرحلة القادمة.. اليوم يتظاهرون في المزة والميدان وبرزة وريف دمشق.. يقولون "هنا نعيش حقيقتنا..".
من النادر أن تجد أحداً من هؤلاء لم يعتقل.. إما في مظاهرات السويداء أو دمشق، ومن النادر أن تجد أحداً منهم كفّ عن التظاهر لهذا السبب، هؤلاء خير دليل على أن المشهد الثوري في سوريا على
اختلاف في الدرجة ليس إلا.. والأهم هؤلاء يمثلون الضامن الوطني العريض للوطنية السورية، وعدم انزلاقها إلى التشرذم والاقتتال الطائفي.
هؤلاء هم مستقبل السويداء وجزء من مستقبل البلاد عموماً: أنبياء حرية وكرامة سينتصروا، رغم "ظلم ذوي القربى" ورغم "كهنة المعارضة".. وحراك الحسابات.. والتحسبات!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نواب في الحزب الحاكم في بريطانيا يطالبون بتصنيف الحرس الثوري


.. التصعيد الإقليمي.. العلاقات الأميركية الإيرانية | #التاسعة




.. هل تكون الحرب المقبلة بين موسكو وواشنطن بيولوجية؟ | #التاسعة


.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة علما الشعب جنوبي لبنان




.. المتحدث باسم البنتاغون: لا نريد التصعيد ونبقي تركيزنا على حم