الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عام على انطلاقة الانتفاضة السورية

محمود جلبوط

2012 / 3 / 21
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


عبثا يروم النظام الأسدي في سوريا منذ انطلاق الانتفاضة السورية قبل عام وحتى اليوم عودة المارد السوري إلى قمقمه , فقد صعب عليه أن يصدق كيف استطاع أن ينتصر على خوفه ويتمرد على قيده توقا إلى حرية افتقدها وكرامة أهدرها . استكثر الحاكم السوري على "عبيده" و"مرابعي" مزرعته طموحهم أن يكونوا أناسا عاديين ككل الناس لا يكتمل ويستقيم وجودهم كناس دون العيش في فضاء من حرية الرأي والتعبير والمعتقد والترشيح والانتخاب والسفر إلى آخره من الحريات إلى جانب امتلاكه شعور الكرامة وعزة النفس والتمتع بأبسط أشكال العيش الكريم افتقر إليها منذ اعتلاء البعثيين كرسي الحكم .
يستهجن الحاكم السوري سلوك المواطنين السوريين اليوم في شوارع سوريا وأزقتها عندما يواجه آلة القتل التي يواجه بها حراكه السلمي بنشوته العارمة وهو الذي لم يعتد على نزولهم على الشوارع إلاّ للرقص والدبك في ذكرى " حركته التصحيحية " واعتلائه العرش وميلاد البعث وأعياد ميلاده .
لم ولن يفهم الحاكم السوري كيف ومتى اكتشف المواطن السوري سحر شعوره الجديد الذي اكتشفه في خضم تمرده فأدرك للتو كم كان ثقيلا شعور الهوان حين كان ينوء تحت نير عبوديته للنظام الحاكم الذي كان يسوقه إلى ذات الشارع سوقا كالبقر , من هنا ومن هنا فقط , مع احترامنا لكل العوامل الأخرى التي دفعت الناس للنزول إلى الشوارع منتفضة , يمكن فهم تصميم المواطن السوري واندفاعه مبتسما ومهرولا فاتحا ذراعيه لريحه الجديدة تملأ رئتيه المطبقتين وكأنهما يستنشقان الهواء الأول في ولادته الجديدة التي اكتشف سرها توا فراح يهتف لسقوط نظام أمضى 42 عاما في مديحه كم دعا له الله للإطالة في عمره . منذ عام فقط أحس المواطن السوري قيمة أن يمشي منتصب القامة , من هنا يمكن فهم إفراط الحاكم السوري في استعمال أدوات القتل المبالغ فيها . حين أدرك السوري روعة الانتصاب انطلق يتصدى ويتحدى بصدره العاري كل ما ادخر له الحاكم من هذه الآلات والأدوات , تراه يبذل ما يستطيع من قوة الفداء في سبيل ألاّ يعود إلى نير العبودية الذي يجهد الحاكم الفاشي لإعادته إلى رقبته لتعود إلى انحنائها الأول .
لا تصدق كتائب الحاكم الفاشية ما ترى عينيها فهي اطمأنت إلى ما رسخ في قناعتها مما كان يسرده عليها جنرالات الحاكم في الطوابير الصباحية اليومية بأنه لن تقوم للشعب "المطيع" قائمة من بعد ما اقترفت بحقه في جولة المجازر المروعة ثمانينات القرن الماضي .
إن المواطن السوري اليوم هو مواطن مختلف , وهو يراكم خبرته في كل يوم من خلال مشاركته أخيه السوري الآخر نشاطه الانتفاضي اليومي لأنه تعرف عليه في خضمه وعلى مدار العام المنصرم تعلموا سويا ما معنى أن يكون المرء حرا , لذا تجده يغتنم الفرص حثيثا وفرحا ليوسع من فسحتها ممارسة رياضة التضحية بجسده تصعّدا إلى السماء فتمتلئ الجموع المتكاثرة انتفاضا وانتشاءا للانضمام إلى مسيرة شهداء لا تنضب .
فبعد أن اكتشف المواطن كنه أن يكون حرا قرر أن يتعرّى نهائيا وإلى الأبد من جمهورية القهر والذل والأسد ولو عن طريق التجندل بدمه تمردا وصل حد أن بات كارها أن تبقى روحه حبيسة جسد قد تعفن في زواريب و"زنقات " جمهورية الأسد القذرة جعل فبات من المستحيل عليه مجرد التفكير في العودة إلى سوارها مما صعب من مهمة الأسديين حتى ولو وصلت سكاكينهم إلى أرحام الأمهات فأصاب الحاكم سعار فاق سعار أي حاكم آخر عرفته سوريا مذ تكونت "كيانا" سوريا كأحد مفرزات الاتفاقات المعروفة إياها .

لم يستوعب الحاكم الأسدي هذا السلوك الافتدائي الجماعي العام للحرية في مواجهة آلة موته التي عممها على المدن السورية . لم تكفه هذه المرة مدينة واحدة قربانا يذبحها لتصبح مثلا يرهب بها المدن الأخرى كما اتبع أباه في حماة , وقف الحاكم مذهولا لا يفهم , فهو بالتأكيد لا يفقه طقوس ما يمارس المواطن السوري الذي اكتشف كيف يمارس حالة تصعّد الروح إلى السماء لتنعم بحريتها . بات مريدي الحاكم الأسدي غير مصدق أعينهم ما ترى فجن الحاكم , فالحاكم لم ولن يدرك أن سر الأمر يكمن في أن المواطن السوري قد التقى حريته هنا , في الشارع حيث انتفض بعد أن انتصر على خوفه فحطم جدران مملكة الصمت , وأنه , ورغم شناعة القتل التي يتعرض لها , فهو مستغرق في "حضرته" الصوفية ولا يعير بالا سوى لنشوة قد اختبرها توا من خلال اكتشافه الجديد لمعنى أن يكون حرا , وأن حريته هذه هي التي ساهمت في استرداد شعور الكرامة والاحترام لشخصه لتكتمل إنسانيته وبالتالي فلا نتصور أن حاكما عربيا يمكن أن يفهم حالة كهذه بسبب أنه لا ينعم بها , فهو عبد لكرسي السلطة ولمنهوباته ولغلّه وحقده ولسيده الصهيوني .
ومن هنا فبعد أن أقلع المواطن السوري عن ممارسة الرقص في الشوارع احتفالا بيوم ميلاد الحاكم واستبدله بالنشاط الانتفاضي لإسقاطه رغم آلة الموت المعممة على مدنه راح يستنكر كيف أن الكثير من إخوته مازالوا يغرقون في ظل قيد قد مضى عام كامل على تحطيمه له , وما زاد استهجانه أنهم يستزيدونه ذلا بمبالغة سجودهم لصورة الحاكم بدلا من رب العالمين فيستغفر لهم ربه , ثم راح يستهجن ما يكتبون للتعبير عن عبوديتهم له : "الأسد للأبد أو نحرق البلد " بالرغم أنها دامت معلقة فوق رأسه في كل مطارح الوطن منذ ما يزيد عن أربعين عاما وحتى الأمس , ولكن العبيد الذين يستمرؤون عبوديتهم غالوا فيها آخر الأيام وراحوا يكتبوها على قمصانهم وأجسادهم وعلى وسائط نقلهم التي تنقلهم إلى الأحياء المتمردة لذبح وحرق النساء والأطفال مقابل ملاليم من الليرات السورية المنهوبة أصلا من عرقهم , تجده حائرا وجاهدا للعثور حتى ولو على مبرر واحد لسلوكهم الذي يتوسل به النظام إشعال حرب أهلية حقارتها أنها مذهبية طائفية لن تبق ولن تذر .
عام بطوله انقضى تغير فيه المواطن السوري تغيرا جذريا وجوهريا : فقد قطع علاقة الرعية للحاكم واستبدل ثوب الذل بثوب العزة الجديد , وشوارع سوريا بقيت شوارع , الفرق أن المواطن السوري قد تحول من راقص ودبيك فيها للحاكم إلى ثائر ضده .
من هنا يمكننا إدراك لماذا مارست كتائب النظام على مدار العام القتل بطريقة وكأنها تدعو هذا العالم الصامت إلى وليمة من اللحم البشري لتبادل النخب على أشلائه . كنت أشعر في بعض الأحيان أن بعض بقايا ذاك اللحم تتعربش على حيطان مخادع الأطفال لتستجدي عين دولية علها حين تشاهده تبذل جهدا متواضعا للحد منه دون جدوى لكن أقصى ما أضافته على سرمدية المجازر البشرية منذ أن دخلت هذه البشرية عصرها الرأسمالي هو إضفاء سريالية استثنائية إلى الصورة المنقولة حية للمتدثرين على أرائكهم في المدن العربية والعالمية عبر شاشات الفضائيات تجاوزت فيها آفاق ما تخيل الرسام الإسباني المشهور بيكاسو مما تبقى في قريحته عن الحرب الأهلية الإسبانية زمن "أسدها" فرانكو تزكي ألوان جداريته الشهيرة "غورنيكا" .
إن أكثر ما أجهدنا وأثار مخاوفنا في هذا العام المنقضي هو الدم السوري الذي سفك تارة ب "سيف علي " وتحت رايته وأخرى ب " سيف الله المسلول" وتحت راية عمر وأبي بكر (وإن قليلا : فالقتل هو القتل) إن أكثر ما آلمنا جميعا وعلى مدار 365 يوما , أن تحمل لنا وسائل الإعلام في كل يوم منها (ومازالت مستمرة) خبر مجزرة هنا أو مجزرة هناك تثير فينا ذاكرات مجازر قد ارتكبت تحت يافطة دين ومذهب من هنا أو طائفة من هناك , والحقيقة التي لا يرقى إليها أي شك أن جميع الحروب والمجازر والاحتلالات لم ولن تكن إلا تحت في خدمة دين واحد وحيد هو : رأس المال , إن في سوريا أو لبنان وفلسطين والعراق واليمن والسودان والصومال , هذا الشواء يذكرنا بشواء لحم عربي تعودناه مارسته مرارا آلة الموت الأمريكية والصهيونية , كنا نصبر أنفسنا ونواسيها أنه أسد عدو وطني قومي ديني ولكن الكثير منا يقف حائرا في حالة اللحم العربي المستباح على يد الأسود العربية , ألم يئن الأوان أن ندرك أن الأسد العربي(الكولونيال) هو صنو الصهيوني وكلاهما انوجد لخدمة مصالح الرأسمال الاحتكاري العالمي ؟

تجولت سكاكين عبيد الأسد (الكتائب الأسدية والشبيحة والمحبكجية) المدن السورية " حي حي , دار دار , بيت بيت , زنقة زنقة " لتستبيح لحم آلاف الشهداء من شركائهم في الوطن والدين باسم الدين : لقد ذبحوا على مدار العام مئات الأطفال بكل برودة العبد وكتبوا على جثثهم بالسكين شعارات تمجد الحاكم بطريقة لم يتسنى لقريحة الكيان الصهيوني اجتراحها , بل إن ضحايا هذا الكيان الصهيوني العنصري من اللحم السوري في جميع حروبه مع سورية لم تتجاوز نصف ما ذبح الأسد في عصريه , الأب والابن , على مذبح سلطته , مجازر يخجل المرء أمامها أن يورد إحصائية ما اقترف من عداها من جرائم كهتك للأعراض والاغتصاب والاعتقال والتهجير والسرقات وتخريب الممتلكات فكيف بالشتائم والضرب والإهانات .
عام انطوى من ثورة الشعب السوري لم ينل فيه من تضامن العالم بدوله ومنظماته الدولية سوى فقاعات من تصريحات متناقضة بحجج وذرائع مختلفة اعتمدها النظام الفاشي ضوءاَ أخضراَ ليمعن في قتل الناس , بل راحت هذه الأطراف الدولية والإقليمية تتصارع على الساحة السورية وعليها فوقع الشعب فريسة بين مخالب "أسده" ومخاطر اصطراع إقليمي دولي على أرضه وشبح حرب أهلية تتهدد كيانه وفوق الكوم أنياب حصار اقتصادي .

من أهم ما ميز العام المنصرم أيضا تكاثر متسلقي الثورة في ظل عجز المكونات السياسية السورية التقليدية منها والحديثة عن الترفع إلى مستوى تضحيات الشعب فتألق الموت في ساحات ثورته استحقاقا لاستثمار تضحياته في الوصول لتحقيق أهدافه, بل استغرقت بكل مسمياتها في خلافاتها , وقصرت جهودها لاستحصال اعتراف عربي دولي ب "واحدية التمثيل الشرعي" للشعب أو للحراك الانتفاضي من خلال توظيف بعض الحراك وبعض اللافتات لا أدري إن كان محاكاة لتجربة المثال الفلسطيني أو الليبي , واستغرق كل طرف في تفنيد رأي الطرف الآخر ليتحول الصراع بين صدق الرأي وكذبه إلى شكل من أشكال الصراع السياسي فكان الخاسر الأكبر في كل ما يجري من معمعة "المعارضة السورية" هو الشعب , فترك الحراك الثوري أعزل من خطاب فكري وسياسي في مواجهة نظام ذو باع طويل في الديماغوجيا والذرائعية والتضليل (ممانعة , مقاومة , سلفيين , إرهابيين , مؤامرة دولية......إلخ) بدل أن تترفع هذه القوى عن خلافاتها التقليدية في ظل الحراك العفوي المفاجئ وتسرع في إنشاء أطر فكرية وسياسية ضرورية لاستدراك افتقار الساحة السورية لحزب ثوري كان من المحتمل أن يتمكن من إنضاج عفوية الحراك وتجذيره وتهيأته لانضمام عامة الكتل المدنية الكبرى من عمال وتجار وحرفيين وصناعيين بدل أن يبقى مقتصرا على التجمعات ذات الطابع ألفلاحي , حزب أو تجمع موحد يقود الحراك الجماهيري إلى بر الأمان ويحميه من انزلاقات دفع النظام بكل ما أوتي من قوة وخداع أيديولجي لتوريط الثائرين فيها ومازال يستجديها لدفع البلد إليها منذ انطلاقة الانتفاضة فتعود بالضرر على لحمة الشعب ووحدة البلد مما سيعرقل إمكانيات الانتصار , ولكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن الثورة السورية , وكل ما استطاعته هذه المعارضة أن تتحول إلى ظاهرة صوتية في إطار تسابقها المهرجاني المحموم للظهور على برامج الفضائيات إياها التي مارست ومازالت دورا مشبوها بانتقائيتها للشخصيات والتيارات المرغوب في إظهارها إلى جانب تغطية انتقائية للمناطق المشاركة في الحراك فتضخم هنا وتغض الطرف هناك وهكذا دواليك لتحقيق أهداف مرسومة من قبل مموليها مما يساهم وبالتعاضد مع ما ينهجه النظام من تحريض ساهم كثيرا في تفتيت المعارضة وجهد في وضع حجر الأساس لصناعة حرب أهلية أطلت برأسها أكثر من مرة وفي أكثر من موقع فقط نكاية متبادلة بين النظام الأسدي والأنظمة الخليجية على حساب الدم واللحم السوري تماما كما جرى مع معمر القذافي الغير مؤسوف عليه , وهو بالتأكيد لا يخدم سوى أجندات قوى إقليمية ودولية إيرانية تركية صهيونية , روسية أمريكية فرنسية....إلخ .
إن أقصى ما خاضت به "المعارضات" السورية هناك على الشاشات تنابذ وهرطقات سياسية لم تلامس في معظمها حقيقة ما يجري على الساحة العربية والسورية بشكل خاص , بل راحت ترتجل الرأي ارتجالا لحظيا معتمدة على طلاقة لسان صحفية حاولت التركيز على ما يستجدي استرضاء أنظمة عربية لا تقل استبدادا عن النظام السوري لتحصيل ربما دعما ماليا , أو استرضاء الغرب المنافق علّه يجهز حملة عسكرية توصل البعض منه إلى كرسي الحكم , في بعضه كان مجرد ردح متبادل : نعم اختلفوا في كل ما بحثوا فيه وعندما اتفقوا انقلبوا على ما اتفقوا عليه , وتنازعوا بين معارض للتدخل الخارجي وشحاذ له و مؤيد لتسليح الجيش الحر ومعارض له , وتنقلوا كثيرا بين عواصم العالم لتسويق رؤى كل منهم للحل , المهم لم تستطع جهودهم أن ترد عن الشعب سكين النظام بل خدمت أحيانا بشكل غير مقصود بالتأكيد ما توسلت به السلطة الفاشية الأسدية خلال عقود حكمها من اتباع نهج التفتيت الاجتماعي وسيلة لحكم سوريا تنفيذا للشعار الاستعماري الشهير : فرّق تسد .

إن هناك الكثير والكثير في مشهد الموت اليومي الذي يرزح المواطن السوري تحت وطأته ما يستحق الوقوف عنده في جميع بقاع تواجده وعلى مدار العام المنصرم كان من الواجب ذكرها والمرور عليها ولكنا آثرنا ألا نستغرق بها حتى لا نساهم دون قصد منا في نشر اليأس والتسويق للإحباط كما يرغب النظام , بل نعترف أن كثافة الألم السوري لم تمكنا من نأي أنفسنا عما انتابنا في سياقه من مشاعر مختلطة : حزن وحنق وأحيانا حقد وغالبا عجز نؤنا تحت عبئه أمام آلة القتل الدموية واليومية اكتفينا من عجزنا هذا غالبا بلعب دور مشاهد أهبل مخبول متسمر أمام شاشة التلفاز , أو منهمك في متابعة مواقع النشاط الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية طول النهار والليل لمتابعة أخبار الثورة حتى كاد ذلك أن يخرب الوقت المخصص لتحصيل رزقنا اليومي .
من المسائل الغير مفهومة بالنسبة لي والتي سببها الحدث السوري هو امتناع معارفي من بعض القوى المحسوبة على التيار القومي واليساري والمقاومة عن تأييد الحراك الثوري السوري أسوة بسابقيه في مصر وتونس واليمن والبحرين ونسبيا ليبيا قبل أن ينكفئوا عنه بذريعة أن صناديق الاقتراع ما بعد سقوط رؤوس الأنظمة قد جلبت إلى الحكم قوى دينية ( قوى إخوان المسلمين ) مما أحدث بيننا جدلا , وينبغي هنا أن أعترف بأنني لم أكن أتصور ومن خلال النقاشات والتحليلات التي كنت شريكا في بعضها , والتي دارت فيما بيننا وتناولت دور الأنظمة العربية واستبدادها في الانحطاط العربي الراهن قبل حلول ما يحلو للغرب أن يطلق عليه " الربيع العربي ", لم اكن أتصور أنهم قد أضمروا أن النظام السوري كان "استثناء" للقاعدة مما أفسد لدي فرحة التعرف بهم , وأدى " كما اعتقد " إلى انكشاف هذه النخب والمفكرين والقوى المسماة "تقدمية" و"يسارية" و"قومية" أمام أوساط واسعة من الشباب وأمام قواعدهم في الأحزاب أولا , وثانيا أمام الشعب الذي أكلت رأسه بالجلد النظري والقومي واليساري قياما وقعودا , والفضل في ذلك يعود إلى صمود الشعب السوري أمام آلة الموت الأسدية اليومية وتضحياته العظيمة .
يتبقى نقطة أخيرة أجد من المهم التعريج عليها ولو قليلا وهي مسألة زج الجيش السوري الوطني الذي صرف عليه المواطن السوري من جيبه الخاص بدءا من بصطاره العسكري وحتى الرصاصة التي يطلقها اليوم إلى صدره ليرديه بها شهيدا . إن من أخطر سلوكيات النظام السوري القذرة ما قبل الثورة والتي اتبعها ليأمن من الشعب على سلطته في حكم سوريا ويدعم ديمومتها هي سياسة التفتيت الاجتماعي التي انتهجها وسيرها عن سابق إصرار على تخوم التقسيمات الطائفية والعرقية , وأقذر ما فعله أثناء الثورة هو إقحام الجيش في قمع الانتفاضة بالرغم من توفر فائض أجهزة قتل أخرى لديه : الأجهزة الأمنية وقوات نخبة من وحدات خاصة وحرس جمهوري وفرقة رابعة وميلشيا بعثية وشبيحة كانت لها اليد الطولى في القتل ضد عناصر الجيش وأبناء الشعب معا , وعندما احتاج تدعيم آلة القتل في كتائبه وجد ضالته في إيران والعراق ولبنان ولكنه تقصد إقحام الجيش لتلويث سمعته والإيقاع به ودق إسفين بينه وبين الشعب مستفيدا من تجربة الانتفاضة التونسية والمصرية لتفتيته مقدمة لتفتيت البلد وتركها عارية من أي قوة تدافع بها عن نفسها أمام أطماع الكيان الصهيوني إن اضطر للتنازل عن السلطة اختيارا أو غصبا وربما كان له مقاصد أخرى ربما تكشف الأحداث عنها في الأيام القادمة .
بعد خروج الصراع في سوريا من ساحته المحلية و تحولها إلى ملعب لصراع إقليمي دولي معا تعقدت صيرورة الصراع بين السلطة الأسدية من جهة والشعب السوري من الجهة الأخرى وراحت صورة الحل القادم ترتبط أكثر وأكثر بما ستسفر عنه لعبة شد الحبل بين الأطراف الدولية والإقليمية التي أقحمها النظام مبكرا ومنذ البداية ساهمت معه ولو بشكل غير مباشر أطراف من المعارضة , لتعود سوريا و بعد عام من انطلاق ثورتها ثانية إلى حالة استعصائها المزمنة أو ما يمكن اعتباره إن حق لنا أن نطلق عليها حالة"اللا حل " وذلك بعد أن استنفذ النظام كل وسائله في فل عزيمة المنتفضين وفشل مراهنته على تعب الناس أو مللهم من موتهم اليومي , حالة تدفعنا للسؤال ثانية : إلى أين تسير الأمور في سوريا؟ ولا أدعي إمكانية الإجابة عليه أو الإلمام بما يدور في أروقة القوى الدولية والإقليمية السرية حول مستقبل سوريا ولكن أبونا التاريخ قد علمنا أن إرادة الشعوب لا تقهر وأن الأمر سيبقى كما عبر عنه الشاعر العربي التونسي أبو القاسم الشابي من زمن بعيد في قصيدته لحن الحياة:

إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلي ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ
ومــن لــم يعانقْـه شـوْقُ الحيـاة تبخَّـــرَ فــي جوِّهــا واندثــرْ
فــويل لمــن لــم تَشُــقهُ الحيـا ة مــن صفْعــة العــدَم المنتصـرْ
كـــذلك قــالت لــيَ الكائنــاتُ وحـــدثني روحُهـــا المســـتترْ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في


.. ماذا تضم منظومات الدفاع الجوي الإيرانية؟




.. صواريخ إسرائيلية تضرب موقعًا في إيران.. هل بدأ الرد الإسرائي


.. ضربات إسرائيلية استهدفت موقعاً عسكرياً في جنوب سوريا




.. هل يستمر التعتيم دون تبني الضربات من الجانب الإسرائيلي؟