الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسرحة (رؤيا فوكاى) أوتشظى الذات قراءة نقدية فى مسرحية ((وطن أو وطن))

ميرغنى ابشر

2012 / 5 / 2
الادب والفن


تأليف الكويتي :احمد الصالح
دراماتوج :ربيع يوسف
تمثيل :ابوبكر فيصل عبيد - هاجر عبد المجيد - عوض بعباش
مساعد مخرج: إيمان كوزى
إخراج :ربيع يوسف

بدءا لا يمكننا اعتساف مسرحية "وطن أو وطن" بتسكينها فى واحدة من الأشكال الأرسطية للمسرح، فهي تتعدى المأساة والميلودراما لتتمدد فى كل توصيفات الفعل الدرامي، متخطيةً تجريبية المسرح المعتادة والمفجوعة بميلاد الميتادراما، لتصنع "وطن أو طن" ملامحُ مسرحٍ سيموتراغى، ناهضٍ على وعيٍ جمالي، ومنطوٍ على فكرٍ ودرايةٍ ثقافية، مستبطنٍ أصالة المسرح السحرية فى تقدميتها التي ابتدعها جروتفسكى، والتي منحنا العرض أهم مائزاته، فى بساطة الديكور والإتكاء على إيقاع الجسد.
يتولد العرض ببدعة لها خصوصيتها من ذاكرة جندي فى الخطوط الأمامية، من ميدان معركة ما. وهى ذاكرة مفكرة تمتلك آلة نقدية حادة تحاول جاهدة من خلال الحدث الماضي، والحدث الواقع ، والحدث المتخيل، إقامة حوارٍ جديٍّ، تتفتق عنه أسئلة الوجود الكبرى: الميلاد، الحياة، الموت والمآل؛ ممتطيا قرائن النفس الإنسانية: اللذة، الحب، الأنانية، الكراهية، الانتقام والانتهازية. هذه الذاكرة الحادة لا يمكنها ملامسة الإجابة فى محاولتها لرتق الذات المنقسمة، إلا من خلال شرط العرفان الصوفي، الذى بسطه بوريس موارفييف فى موسوعته (المعرفة الباطنية )، والمحدد فى التعرض للشدة والمغامرة، ليضع العرض بطله (سعد) أمام الموت، محققاً شرط الانتباهة الكبرى.
يتضمن العرض لفتاتٍ ميِّزة، محتجا على سلطة الإكراه والعنف الاجتماعي، التي تخطف الإنسان من الفكري والشعوري، لتدخله فى التفاصيلي عبر لهثه المقيت من أجل الضروريّ والحياتيّ، الشيء الذى جسده العرض عبر مفردات فول، زيت، بصل،...الخ بأدائية معبرة، فى مقابل ما يجب أن تكون عليه الحياة بانتظام هذا اليومي و التفاصيلى فى مصفوفة الكمال الإنسانيّ، لتأتى التوابل والبهار ضمن تشاركية مجتمعية يغيب فى كسبها العنت والمشقة واستهلاك الزمن. وفى مشاهد جريئة يتبوّل العرض على الأنانية والانتهازية، التي يجسد أحد مظاهرها سليم الهارب من الجبهة والساعي لكسب ود خطيبة صديقه (منى). التبول الذى يعطن التاريخي أيضا، والاجتماعي والسياسي، تلك الأنساق وليدة الإسلام الأموي فى نسخته المعاصرة، والتي أدت إلى انقسام الإنسان - الوطن على أسس جاهلة، ولن تؤدى أبدا إلى استقرار خط العرض العصابى. كما ويأخذك العرض وببساطة صعيبة إلى محنة الإنسان إزاء التاريخ، فهنالك التاريخ المدرسي جهير السيرة، والتاريخ الكامل غير المنقح، المدسوس عن عامة الناس، التاريخ المحجور عن قاعة الدرس والذي لا يمنح تفاصيله الداهشة إلا للذي ينقب بتعب ليقبض على الحقيقة الضائعة.
يمكن أن تكون هذه حدود العرض المشاهد بحوامله الرمزية الماتعة، ولكن قراءته تتعدى هذا المتبادر، فوطن أو وطن مغامرة، لأنها تتأسس على نصٍّ جيد، تم توليفه بتناسقية عالية، من مقاطع شعرية أعيد تركيب بعضها، من قصائد للشاعر العراقي مظفر النواب، الذى ينتمى لفضاء وتاريخ ثقافي يشاركه فيه مخرج ومؤلف العرض وجدانيا، وبمغادرتنا لطلاقية رولان بارت، التي تقول بموت مبدع النص، نكون قد أفشينا سرا، ساهم وبفاعلية فى مد العرض بحيوية الإيقاع واحتشاد العبارة بمداليل التثوير. ومغامرة العرض يشارك فيها المخرج والمؤدي على حدٍ سواء، فإما أن ينكص العرض عن النص الجيد، ويفقد بذلك مائزة الحضور ويمضى فى استفهامات النقد والجمهور، ليكون نسياً منسياً، أو يستطيع تحدي النص ويشكل حضورا جيد يستبقيه فى الذاكرة، أو أن يمضى بالنص إلى مضارب الإدهاش ويحمل النص لاحقا على محاولة اللحاق بمستوى الفرجة، ليخلد فى الناس ويترك ندبة فى العاقلة لا تمحى. وفقاً لهذه التراتبية أين يمكننا موضعة "وطن أو وطن"، بلا شك هي فى مقام الحيرة؟! والحيرة هنا بمعناها العرفانى، والتي تأتى بعد أن يظن السالك معرفته بكل أجوبة الأسئلة الكوزمولوجية الكبرى، ليفاجأ فى ومضة من الزمن، أن إجابته قد فرخت أودية من الاستفهامات العصية، فدائرة العرض الذى ينتهي بنا إلى نقطة البداية، البداية التي تنطلق بنا فى حضور الموت الذى يحكى هذه المرة ولا يصمت، من غير أن يخلف مأساة، يضعنا العرض فى عليا الحيرة، ممددا طاقة النص إلى أقصى حدود احتمالها، ليقول لنا لا شيء فوق إنسانية الإنسان.
تجسد مسرحية "وطن أو وطن" مبدأ القراءة النفسية، كأداة تحليلية لمشهد الحياة، بامتياز وانمياز. بامتياز لأنها استطاعت أن تستحضر كل الأبعاد النفسية لأشكال العصاب الاجتماعي الناتج عن تشظى الذات تحت وطأة طغيان العنف البشرى الأبوي المقيت، بكل تمظهراته: الحرب، الوصاية، السوق ...الخ، هذا العنف المفارق للعقلانية والغرض الإلهي من وجود الإنسان، الذى يجسده فى العرض محنة الإمامين الشهيدين علي والحسين، الأنموذج للعقل والغرض السماوي، اللذين اغتيلا غيلة وكيداً، لتنفلت النفس الإنسانية من عقال الإمامة أي العقل المتنور، وتتشظى فى كلّ كورٍ ودورٍ تاريخيّ، لينهض فى كلّ طورٍ طليعيون يصرخون بحاجة الذات للرتق حتى تعاد للبشرية إنسانيتها الممزقة، وهو الدور الذى نهضت به ببراعة فى العرض (هاجر عبد المجيد). وبانمياز لأن العرض تمكن من الاحتيال على نمطية حوار الذات، ليخرج من ورطة التقليد الذى ظللنا نشاهده فى كثير من العروض المسرحية المتأخرة، لتجنح بنا وطن أو وطن إلى منحى أنسنة النفس المتشظية وتجسيدها فى شخوص العرض وأدواته،كما استطاع العرض فى واحد من مشاهده المؤثرة، أن يقدم لنا تحليلاً نفسياً وفق مدرسة يونغ – لاكان لدور الذات اللاواعية فى مؤامرة تفتيت الأنا - والتي تقود إلى عذابات بطل جويس (بلوم) أو (سعد) وطن ، ليكتشف الجميع ورطتهم غير البيِّنة، فى المشاركة فى العنف الجمعي و تشظى النفس، كما ويجسد ذات المشهد نسبية الحقيقة، حين يكتشف الجميع وهم فى قمة مدافعتهم ضد رمز الطغيان البشرى (الرجل) أدوارهم المتفاوتة فى اغتيال الإمام /العقل.
لعب العرض وبذكاء محمود، على اطلاقية فلسفية قديمة ،حكانا عنها أبو حيان التوحيدي فى (الإمتاع والمؤانسة) وصلاح عبد الصبور فى ملهاته السوداء (مسافر الليل)، حينما راح العرض يدلل ومن طرفٍ خفي، على لولبية الحياة ومكررات التاريخ، مستحضرا ثورة الحسين وخروجه انموذجا لتجدد العهد التاريخي، ليحرك العرض أصالة المكان (كربلاء) الدلالة، إلى فضاء سوح الاعتراك البشرى، وينفس فى الحدث المأساة كونية القضية. لتستعيد مسرحية "وطن أو وطن" غرض المسرح الأساس فى كونه تشاركية أناسية تنهض على واقع الذات المأزومة. وقد أوغل العرض فى جوانية الفعل البشرى وابرز ببساطة عاقلة، عبثية الاختلاف أوتناقض الشعور الانسانى وصوريته، الاختلاف الذى فى تحقيقه لا يعدو أن يكون وجهين لعملة واحدة، وذلك عندما واجه البطل الموت بلامبالاة وهو يقضى حاجته، وأيضا عندما تساوى فى وعيه الضحك والبكاء. ويؤكد العرض على هذا البعد من خلال أسماء أبطاله والتي تتناقض بحدة مع واقعهم، ف(سعد) يرزح وباستدامة تحت وطأة الشقاء الانسانى، و(سليم) ينمذج أبشع صور الانكسار والجبن، و(منى) تظل دوما حبيسة تمنياتها التي لا تتحقق، ولا رجولة أبدا يظهرها لنا (الرجل)، ليقبض العرض على اسبينوزية جديدة تتجلى فيها وحدة الوجود بامتياز، قبالة وحدة الموجود الذى نمذجته محاولات التطبيع فى العرض، إذ أن فلسفة وحدة الموجود تقوم على الاندغام فى ثقافة الآخر السلطوي والانتهازي وتتجلى أبشع مظاهرها فى العولمة.
تكمن القيمة الجمالية للعرض فى إيقاعية الأداء والانسجام والتزامن بالنظر فى خطابي الجسد والصوت، إذ شكلت حركة الممثلين وانسحاباتهم على رقعة العرض تواقيع برلينية (راقصة الباليه) اقتربت كثيرا مما ينشده مبيرهولد فى أشكاله الحية (Bio-mechanics)، حينما راحوا يرسمون بأجسادهم دلالات الصوت، وتراجيع المدح والموسيقى.
وأخيرا أبقينا عن قصد الوقوف على مفتاح العمل الدرامي، أعنى عنونته (وطن أو وطن)، حتى يتوضح لنا مخاتلة العنوان والتفافيته وتحايله حتى على اللغة، ليفارق دلالته المتبادرة بعد مشاهدة العرض، ويرحل عن حقل السياسي المتبادر، ليسكن فى بيدر النفسي، فوطن تعنى الذات المنسجمة غير المتشظية بفعل الاكبتات والإكراه والعنف، وتندغم (لا) النافية فى (أو) تقية، لتجنب المباشرة، ليعبر العنوان عن مضمون العرض بذكاء يحترم ويقول لنا :إما وجود انسانى منسجم له غاياته الشريفة أو لا وجود يستحق المعاش.
بقى أن نقول تستدعى "وطن أو وطن" بدر شاكر السياب فى ماتعته (من رؤيا فوكاى)، فكأنما كان العرض مسرحة غير مقصودة للقصيدة التي تحكى عن تشظى النفس، تحت نير الطغيان اللامتناهي، ففوكاى كاتبٌ يسوعيّ شهد تمزق الإنسانية بفعلة الامبريالية فى هيروشيما :
أبوك رائد المحيط نام في القرار
من مقلتيه لؤلؤ يبيعه التجار
و حظك الدموع و المحار
و عاصف عات من الرصاص و الحديد
و ذلك المجلجل المرن من بعيد
فازحف على الأربع فالحضيض و العلاء
سيان جنكيز و كنغاي
هابيل قابيل و بابل كشنغهاي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-