الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل تمكن العلم من ان يسبق السلحفاة ؟ - الجزء الأول

نضال فاضل كاني

2012 / 5 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في افلام الرسوم المتحركة، كنا نرى السباق بين الارنب والسلحفاة، ونرى كيف استهان الارنب بقدرة السلحفاة وامكاناتها، ولكن النتيجة كانت ان السلحفاة تفوز. وكأن الغاية من هذه القصة ان ينعكس في وعي المشاهد او لا وعيه، مضامين تربوية مفادها ان الغرور يودي بصاحبة الى الخسارة، بينما المثابرة ومهما كانت الامكانات بسيطة أو بطيئة فهي توصل الى الفوز والنجاح.
غير ان حضور السلحفاة في السباقات لها بعد فلسفي يضرب اطنابه في تاريخ اليونان القديم، وتحديدا في القرن الخامس قبل الميلاد، حينما اقترح الفيلسوف اليوناني "زينون" مفارقته العجيبة والتي افترض فيها سباقا بين "اخيل" - وهو من اسرع ابطال اليونان الاسطوريين- وبين السلحفاة، وفيها حاول ان يثبت ان السباق اذا ابتدأ وكان السلحفاة تتقدم "أخيل" بمتر واحد مثلا، فان السلحفاة لا محالة ستفوز من الناحية المنطقية، وذلك أن "زينون" افترض أنه لكي يصل "اخيل" السلحفاة ويتجاوزها يجب عليه أن يبلغ أولاً منتصف المسافة بينه وبينها، طبعاً.. وأيضاً كي يبلغ العداء هذا المنتصف يجب عليه أن يبلغ منتصف المنتصف أي ربع المسافة الكلية، وأيضاً ليقطع ربع المسافة الكلية عليه أن يقطع ثمنها، وهكذا.. ولما كان هناك عدد لا نهائي من أنصاف المسافات بينه وبين السلحفاة.. فقد استنتج أن "اخيل" لن يستطيع تجاوز سلحفاة بدأت قبله بالتقدم ابدا، فتفوز هي. ولاشك ان هذه المفارقة قد وصفت بالمغالطة او السفسطة او الجدلية العقيمة، او غير الواقعية.. لان الواقع يقول انه وببساطة وخلال خطوة واحدة او اثنتين فان "اخيل" سيتجاوز السلحفاة ويخلّفها وراءه. لكن الامر لم يكن بهذا المنظور عند زينون، فالمقارنة لم تكون تقوم عنده على ظروف واقعية، ليقال انها خطوة واحد ويسبق العداء، بل كانت بين بعدين مختلفين تماما، بين بُعد التفكير بمنطق الرياضيات المجردة، وبُعد الواقع الملموس، هنا المفارقة، اذ القراءة الرياضية المجردة تعطي نتيجة تختلف تماما عن النتيجة التي يعطيها الواقع الملموس.. والسؤال لماذا هذا الاختلاف؟
بطريقة ما، واجه الفيزيائيون مثل هذه الاشكالية او المفارقة حين اصطدموا بالفرق بين لا حتمية العالم في المستوى الذري وما دون الذري، والذي يفترض انه يعطي العالم صور كثيرة لا صورة واحدة وهي التي نراها ونتعايش معها، وبين حتمية الواقع الملموس في عالمي الاحجام المتوسطة والكبيرة. بنفس الطريقة تساءل العلماء: لماذا هذا لاختلاف؟.
صحيح ان السلحفاة في مفارقة زينون تسبق اخيل، وصحيح ان هذه المفارقة ذات مغزى يختلف جذريا عن المغزى في افلام الرسوم المتحركة، الا انه من الغريب ان الحضور لشخصية السلحفاة وتفوقها، كان حاضرا في ابسط المحافل واعقدها، حتى ان عالما مشهورا في الفيزياء النظرية بل لعله الاشهر بعد نيوتن واينشتاين وهو "ستيفن هوكنغ" اضطر لمواجهتها حين استهل كتابه الشهير "موجز تاريخ الزمن" بذكره لحادثة وقعت مع عالم مشهور يقول البعض أنه "برتراند راسل" وذلك حين كان ذلك العالم يلقي محاضرة عن عالم الفلك ووصف كيف تدور الارض حول الشمس، وكيف تدور الشمس بدورها حول مركز لمجموعة هائلة من النجوم تسمى مجرتنا. وفي نهاية المحاضرة، نهضت سيدة عجوز ضئيلة في آخر القاعة وقالت: "ان ما تقوله لنا هراء، فالعالم في الحقيقة صفحة مسطحة مستقرة على ظهر سلحفاة ماردة". وابتسم العالم في تعال قبل ان يجيب: "وما الذي تقف عليه السلحفاة؟" فقالت السيدة العجوز: "انك لبارع جدا أيها الشاب، بارع جدا. ان الامر كله سلاحف بطول الطريق لأسفل"
ثم ان "هوكنغ" علق على هذه الواقعة قائلا: "سيجد معظم الناس ان صورة كوننا كبرج لا نهائي من السلاحف لهي مضحكة نوعا ما، ولكن لماذا نعتقد أن ما نعرفه هو أفضل؟ ما الذي نعرفه عن الكون، وكيف نعرفه؟ من اين اتى الكون، والى اين يذهب؟ هل للكون بداية، واذا كان له، فما الذي حدث قبل ذلك؟. ولعل الاجابات في يوم ما ستبدو واضحة لنا وضوح دوران الارض حول الشمس او ربما ستبدو مضحكة مثل برج السلاحف!"
ان حديثنا هنا، ليس عن السلحفاة ككائن حي بحد ذاته، بل عن تغلغل المفهوم المجرد لهذا الكائن والذي نسج خيوطه في الثقافات والافكار ولامس حدود العلم حتى اعتبر كرمز تضرب به الامثال ليتبين من خلاله المدى الذي يمكن للعلم ان يصله في تفسير كل شيء،
ان قصة السلحفاة وكما يقول "باول ديفيز": "رمزا للمسألة الاساسية التي تواجه كل الذين يبحثون عن اجوبة نهائية لسر الوجود الفيزيائي" فالعلماء يحبون ان يفسروا العالم بشيء اكثر اساسية، وربما كان مجموعة من الاسباب التي تعتمد بدورها على بعض القوانين والمبادئ الفيزيائية، ولكنهم سيبحثون بعدها عن تفسير لهذا المستوى الاكثر اساسية ايضا وهكذا، أين يمكن لمثل هذه السلسلة من التفكير ان تنتهي؟ من الصعب الاقتناع بتدرج لا متناه، وقد عبر "جون ويلر" عن ذلك بقوله: "لا يوجد برج من السلاحف.. حتى اللانهاية او حتى السواد الذي لا قاع له".
ما البديل؟ هل هناك "سلحفاة اضخم من العالم كله" تقف في قاعدة البرج وهي تحمل ذاتها بذاتها؟ هذا الخيار له تاريخ طويل حاجج به "سبينوزا" الذي اطلق على تلك السلحفاة التي تحمل العالم وتحمل نفسها مصطلح "اللزوم المنطقي المحض". وهو تفسير يذهب اليه جميع القائلين بجواز العالم، اذ عندهم ان وجود العالم يفسره وجود الإله وان الإله لازم منطقيا. واشكالية هذا اللزوم المنطقي انه يتعارض مع منطق التفسير الكامل لكل شيء، اذ وفق هذا المنظور هناك ما لا يمكن تفسيره، وهو ما لا يمكن القبول به.
فاذا كان كل من احتمالي برج السلاحف اللانهائي والسلحفاة النهائية العظيمة غير مجديين، فما البديل اذا؟ ظهر احتمال ثالث، وهو احتمال "الدارة المغلقة" أي دائرة حلقية من السلاحف تحمل السلاحف فيها بعضها بعضا بشكل متبادل، ويضرب "جون ويلر" مقترح هذا النموذج لذلك مثالا وهو: "تؤدي الفيزياء الى مشاركة الفيزيائي، وتؤدي مشاركة الفيزيائي الى نشوء المعلومات، وتؤدي المعلومات الى نشوء الفيزياء" وهذا الافتراض هو ما نسميه "دورة العناصر في الطبيعة" أي ان الاسباب محمولة من مسبباتها وحاملة لها في الوقت نفسه. وهذا الافتراض لم يحل المعضلة عند العلماء لأنهم عادوا وتساءلوا: اذا كان الامر حلقة من السلاحف يحمل بعضها بعضا، فلماذا السلاحف اصلا؟ أي من اين جاءت؟ هل هي جاءت بنفسها؟ اذا كان كذلك فهذا يعدينا الى فرضية اللزوم المنطقي المحض، أو هل هناك من اوجدها؟ وهذا يعيدنا الى افتراض البرج اللانهائي.
اذا، ما انتهى له العلم هو التوقف أمام ثلاث نماذج لا نهائية: اما ان يكون هناك برج لا منتهي من السلاحف، بمعنى ان الكون ليس له بداية محددة وكذلك جميع الاسئلة العلمية. واما ان يكون هناك حلقة من السلاحف، يفسر بعضها بعضا، أي ان الاسئلة العلمية ليست لها اجوبة نهائية. واما ان يكون هناك سلحفاة عظيمة قائمة بذاتها تحمل برج السلاحف على ظهرها، فهي تفسر الاسئلة العلمية ولا يفسرها شيء. وقد توقف العلماء في قبول هذه النماذج الثلاثة، لأنها لا توصل الى الحتمية التي قام عليها العلم عليها او وضع لأجلها.
واستمر الحال على ما هو عليه، حتى تجرأ عالم الفيزياء "باول ديفيز" على القول بأن حدود الامكانية العلمية لا يمكن اطلاقا ان تتجاوز معضلة السلحفاة هذه، فأينما نولي وجوهنا نجدها ماثلة أمامنا، ولا مناص للعلماء اذا ما ارادوا كسر هذا الطوق من البحث عن مصدر معرفي آخر، غير المصدر التجريبي الذي يعتمد على العقل، والذي تم الاعتماد عليه لحد الآن، اذ تبين ان كلا من التجربة والعقل قاصرين عن تجاوز معضلة السلحفاة والتغلب عليها في هذا المضمار.
هنالك اقترح "ديفيز" اخذ المصدر المعرفي الصوفي بنظر الاعتبار، اذ وعلى حد قوله: "لا وجود في النهاية لتفسير عقلاني للعالم بمفهوم النظام التام والمغلق للحقائق المنطقية, لأنه من شبه المؤكد امر مستحيل. فنحن امام حواجز تمنعنا من المعرفة والتفسير النهائي في اقصى درجاتهما.. واذا اردنا ان نتقدم الى ما هو ابعد من ذلك فعلينا ان نعتنق مفهوما للـ"الفهم" مختلفا عن مفهوم "التفسير العقلاني" وربما كان الطريق الصوفي هو الطريق لمثل هذا الفهم.. وربما كانت التجارب الروحية هي الطريق الوحيد الى ما وراء الحدود التي يمكن ان يأخذنا اليها العلم والفلسفة. وهي الطريق الممكن الوحيد الى الفهم الاقصى».
ولكن، اذا ركن العلم بالفعل الى مصدر معرفي آخر غير المصدر الذي قام عليه منذ نشأته، افلا يدل ذلك على الهزيمة وبامتياز امام السلحفاة؟ افلا يعيدنا ذلك الى مفارقة "زينون" ويحمل على اعادة النظر في الاستهزاء بها كونها أكدت فوز السلحفاة على "اخيل"؟ وكذلك افلا يعطي انطباعا واقعيا عن امكانية فوز السلحفاة على الارنب في افلام الرسوم المتحركة وليس مجرد مشهد خيالي لتحفيز الجانب الاخلاقي فينا!.
ان هذه الاستغرابات يمكن اعادة صياغتها بالشكل: هل استسلم العلم امام الغيب، وقرر ان يسلم بوجود الخالق، وهل اذعن للقول بان لقوانين الفيزياء حدودا لا يمكن تجاوزها؟ أي هل استسلم العلم ليقرّ اخيرا بأن القوانين الطبيعية قادرة على تفسير بعض الظواهر الكونية، او حتى الكون كله، ولكن بشرط ان تقبل بوجود الخالق بحيث تدخله في معادلاتها؟ وهل بات من الضروري التوقف عن محاولة تفسير الخالق تفسيرا فيزيائيا؟! هل وصل العلم الى مفترق الطرق هذا بالفعل؟
في عام 2010م، فاجئ "ستيفن هوكنغ" العالم بكتابه "التصميم العظيم" والذي خرج به أمام الملاء على كرسيه المدولب، وشاشة الحاسوب الناطقة عن لسانه، ليعلن ان العلم لم يقل كلمته النهائية بعد. وانه تمكن من التوصل الى الاجوبة التي تمكنه من تفسير الكون كل الكون بدون افتراض وجود الخالق. وهذا يعني أنه اعلن فوزه على السلحفاة، وتجاوز اشكالياتها الثلاث التي كانت تقف عقبة في طريق العلم كله. فهل فعل ذلك بالفعل؟ واذا كان الامر كما قال، فكيف فعله؟ أي ما هي النظرية التي تستطيع ان تفسر وجود الكون بدون الحاجة لوجود الخالق؟.. اذا صح ذلك لربما نكون ملزمين بأن نقول ان السلحفاة لا يمكن ان تفوز على الارنب ولو كارتونيا، ولا بد لأخيل ان يسبق السلحفاة ولو فكريا، وكذلك لابد ان نقول: ان العلم تمكن من ان يسبق السلحفاة.
نهاية الجزء الأول

(في الجزء الثاني سنتطرق لنظرية "هوكنغ" في "التصميم العظيم" لنرى هل سبق العلم السلحفاة ام ان السلحفاة لا تزال في المقدمة كما افترض زينون)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ساعدت كوريا الشمالية إيران بهجومها الأخير على إسرائيل؟ |


.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في




.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا


.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا




.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء