الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل تمكن العلم من ان يسبق السلحفاة؟ - الجزء الثالث

نضال فاضل كاني

2012 / 5 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


استند "هوكنغ" فيما ذهب اليه من تمكن العلم من ان يتجاوز السلحفاة، على حجة أخرى غير الحجة الكمية التي تحدثنا عنها في الجزء السابق، حيث اعتمد على ما تقدمه "نظرية أم" من افتراضات.
يرى "هوكنغ" ان "نظرية أم" ليست نظرية بالمفهوم المعتاد، بل هي عائلة كاملة من نظريات مختلفة، كل منها تعطي شرحا جيدا للأحداث الفيزيائية يختلف عن الاخر، ومعنى الشرح الجيد هو انه مقبول علميا. ويؤكد "هوكنغ" انه على الرغم مما يبدو من ان افراد هذه النظرية - أي النظريات المكونة للنظرية الام- مختلفين تماما عن بعضهم البعض، الا انه من الممكن اعتبارهم نسخ متعددة من النظرية الاصلية. فما هي هذه النظرية التي ينضوي ضمنها عدد من النظريات؟ وماذا تفترض؟
تفترض هذه النظرية ان المكونات الاساسية التي يتكون منها كل شيء، عبارة عن اوتار صغيرة تشبه السلك الرفيع، وميزتها انها ذات بُعد واحد، أي انها بلا عرض او عمق، ورغم انها ذات بعد واحد الا انها وفي علاقتها مع بعضها تستلزم وجود احد عشر بُعدا، تختلف عن الابعاد التي نألفها وهي: الطول والعراض والعمق وايضا بعُد الزمان. وفي الأبعاد الإضافية من الممكن للأوتار أن تتخذ هندسات مختلفة تربط الأوتار فيما بينها. ولما كانت قوانين الطبيعة تختلف باختلاف هندسات الطبيعة كما هو مثبت عند العلماء. فذلك يعني إمكانية وجود قوانين طبيعية مختلفة تحكم أكواناً ممكنة متنوعة في تلك الأبعاد الإضافية. وهكذا توصلنا "نظرية ام" –أيضاً- إلى نتيجة أنه توجد أكوان ممكنة عدة إن لم تكن لا متناهية في العدد. والسؤال الآن هو: من أين أتت تلك الأوتار؟
بحسب هذه النظرية أن الأوتار ولأنها تتكون من بعد واحد، ولقدرتها على التحرك بين الابعاد الاحد عشر، فهي فائقة، أي غير تقليدية، وفائقيتها تتمثل في حركتها المتواصلة بين الوجود والعدم، او بين الشيء واللاشيء او بين المادة والحالة الطاقوية الصرفة التي تسمى العدم.
واذا كان الامر بهذه الصورة، فان كوننا ليس الكون الوحيد، وانما تتوقع "نظرية أم" ان يكون هناك الكثير من الاكوان التي خلقت من لا شيء. وهو خلق كما يؤكد "هوكنغ" لا يحتاج الى تدخل أي قوة ميتافيزيقة أو إله. بل الاصح فيما يرى ان الاكوان المتعددة تنمو طبيعيا من خلال القوانين الفيزيائية.
النقطة الابرز في هذا الطرح ان "هوكنغ" يرى بأن كل كون له عدة تواريخ محتملة. والواقع ان رؤيته هذه تنسجم مع ما تفترضه "نظرية ام"، وهنا نلاحظ التشابه بين ما تقول به "نظرية ام" وبين ما قالته النظرية الكمية. يقول "هوكنغ": "نحن نفترض ان العالم لا يوجد له وجود واحد او تاريخ احادي، بل هو عدة تواريخ محتملة، تتواجد كلها بصورة متزامنة مع بعضها البعض.. وما حدانا بعمل هذا الافتراض هو كون الجزيء أو الجسيم لا يوجد في مكان واحد وحسب، بل يمكن ان يتواجد بالصورة الذرية في اماكن أو مواقع عده بنفس الوقت" ولذا فقد اطلق على المواقع التي يتناوب الجسيم في التواجد بها تسمية الموقع الذري الخارق (الكمي أو الفائق).
هنا، يضعنا "هوكنغ" امام مستوين للعالم، المستوى الذري الذي تم التثبت منه بتجارب لا يرقى اليها الشك، يؤكد فرضية "التواريخ المتناوبة" أي ان الجسيم الذري يتناوب عليه عدد من التواريخ وليس تاريخا واحدا، ومستوى العالم رباعي الابعاد الذي نراه ونلمسه ويسمى المستوى الميكروسكوبي، وفيه لا نستطيع ان نتخيل الا تاريخا واحد لكل شيء، اذ كيف لأحد ان يصدق بأنه موجود في اماكن متعددة في الزمن نفسه، هذا خلاف الواقع الذي تنمذجنا فيه. ثم يطرح السؤال الآتي: اين هو الحد الفاصل بين بين القوانين الكمية القائلة بمتعدد التواريخ وبين القوانين الكلاسيكية القائلة بالتاريخ الاحادي؟. اذ وكما يبدو اننا نحيا في كون واحد ذي نمطين مختلفين تماما من القوانين، فما هو الجزء الانتقالي بينهما؟ او كما صاغ "هوكنغ" السؤال: هل بإمكان النظريات التي تتحدث عن الغرابة في المستوى الكمي ان تنطبق او تفسر الاحداث التي نمر بها في تجاربنا اليومية والتي نفهمها في سياق نموذجها الفيزيائي الكلاسيكي؟
كان جواب "هوكنغ" هو: "نعم بكل تأكيد يمكن ذلك" بل يرى انه يجب أن يكون كذلك، لأنه ما نقوم به من في حياتنا اليومية – حسب ما يرى- ما هو الا التفاعل المتراكم للدقائق الذرية التي نتكون منها في الاساس. فنحن وكل ما يحيطنا انما نمثل هياكل متداخلة، مصنوعة من عدد كبير من الذرات، ومع ان ما تحتويه دقائق الاشياء التي نتكون منها تخضع لقوانين الفيزياء الكمية، فقوانين نيوتن تشكل نظريات مؤثرة في تفسير الهياكل الكلية التي تتراكم فيها الدقائق الذرية والتي تشكل تصرف الاشياء في عالمنا يوميا".
لتوضيح مقصد "هوكنغ" اكثر، يضرب لذلك امثلة اثبتتها التجارب العلمية، فمثلا ان معرفة خواص جزئ الماء لا يعطينا صورة عن تصرف البحيرة، او ان رد فعل العصب الواحد في الدماغ لتأثير ما –مثلا- لا يعكس العمل الكلي للدماغ. وبالمثل يمكن تصور العلاقة بين القوانين الغريبة في المستوى الكمي وبين قوانين الفيزياء التي تتعامل مع الظواهر اليومية لنا.
من ذلك كله يخلص "هوكنغ" الى نتيجة بسيطة وهي اننا نعيش في عالم له اكثر من نموذج واقعي، وكل نموذج للواقع يعطينا تصورا معينا عن الكون وخصوصا في بداياته. فالنظر الى تاريخ الكون في نموذج الواقع العادي يعطينا تصور ان للعالم تاريخ واحد، اما النظر له من خلال الواقع الكمي فيعطينا تصور ان للعالم له تواريخ كثيرة محتملة متناوبة. يعبر "هوكنغ" عن ذلك بالقول: "الفيزياء الذرية تقول لنا: على الرغم من كثرة مشاهداتنا للوضع الحالي، فالماضي الذي لم نقم بمشاهدته كما هو المستقبل، هو غير مؤكد لأنه يوجد في حيز من عدة احتمالات. ولذا فالعالم حسب قوانين الفيزياء الكمية، لا يوجد له ماضي واحد أو تاريخ واحد، بل عدة تواريخ وأحوال ومواقع محتملة".
أي ان للعالم عدة وقائع وليس واقعا واحدا، ومن هنا تقدم "هوكنغ" بطرح نظرته القائلة بـ"الحتمية المعتمدة على النموذج" ومعناها ان هناك حتميات كثيرة وليست حتمية واحده، كل نموذج لواقع له حتمية خاصة به، ولا يفترض – حسب ما يرى- ان ينظر للعالم ككل من منظور الحتمية الواحد بعد الآن.
اذا، حتى نفسر العالم، فنحن بحاجة – كما يؤكد هوكنغ- الى ان نطبق عدة نظريات في عدة حالات في الوقت نفسه، كل نظرية تحمل في طياتها نسختها الخاصة من الواقع، وهذا مقبول طالما تتفق النظريات مع التنبؤات اينما حصل تداخل فيما بينها. ولما اشتغل العلماء على هذا الاساس، كان الناتج هو اكتشاف عدد من الاكوان بقدر (10 مرفوعا الى الاس 500) كل منها له قوانينه المختلفة، واحد منها فقط يطابق حسب علمنا القوانين الخاصة بالكون كما نعرفه.
ما يعنيه ذلك، ان لعالمنا عدد هائل من الاحتمالات لبدايته او لكي يخلق من العدم، وليس بداية واحدة يفترض ان يكون خلفها خالقا لها. وبتعبير آخر: ان عالمنا نشأ من عدم او لا شيء يتضمن الاحتمال بوجوده. وهو بذلك يعتقد أنه تمكن من اثبات بأن بدايات الكون – وليس بداية واحدة- كانت محكومة بقوانين علمية، وهي قوانين فيزياء الكم التي تم اختبارها. رادا بذلك على النظرة السابقة التي تقول بأن القوانين العلمية تتوقف عند حدود بداية الكون حين حدث بالانفجار العظيم، اذ ان هذا التوقف للقوانين يسمح بفتح الباب امام القول بتدخل الهي لإيجاد الكون. اما وقد بين ان القوانين العلمية لم تتعطل، وتمكن بنظريته من اختراق بداية الانفجار العظيم بافتراض بدايات كثيرة تتطابق قوانينها مع القوانين العلمية، صار الوضع عنده قابل لأن يقال: "قد يوجد اله ولكننا لا نحتاج اليه في تفسير الكون".
وعلى هذا، واذا ما تم التأكد – كما يقول هوكنغ- من هذه النظرية بالمشاهدات المستقبلية فإن ذلك سيكون بمثابة النتيجة الناجحة لبحث بشري بدأ منذ اكثر من 3000 سنة، ويكون العلم قد وصل اخيرا الى "التصميم العظيم" الذي يعتبر بمثابة الوثبة النهائية للعلم عند خط النهاية ليفوز في هذا السباق الطويل على السلحفاة. والسؤال الآن هو: هل هذه هي نهاية المطاف بالفعل؟

نهاية الجزء الثالث
(في الجزء الرابع من هذا المقال، سنرى النتيجة النهائية لهذا السباق، وهل تمكن العلم من الفوز ام السلحفاة!).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية توقف رجلاً هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإير


.. نتنياهو يرفع صوته ضد وزيرة الخارجية الألمانية




.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط