الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أشباح الميلشيات بين القاهرة وبيروت

مهدي بندق

2012 / 6 / 8
مواضيع وابحاث سياسية



كلما اقتربت ْ من القاهرة أشباح ُ ميليشيات الفاشية – وهي في الحقيقة على مرمى البصر - سأل المثقف المصري نفسه : إلى أين يا عم ؟ وسرعان ما يأتيه الجواب : إلى بيروت طبعا . أليست هي باريس العرب ؟ يقول هذا رغم إدراكه بأن ثمة أشباحا ً مماثلة موجودة هناك سيما بعد أن وصلت إليها قوافل الأزمة السورية ، بيد أنه سيجازف بالرحيل إليها مع ذلك ! لماذا ؟ ذلك ما تحاول الإجابة عنه نبضات الأحرف التالية بمقاربة من لغة " فوق سياسية " تعرفها بيروت من خلال أنهار كتاباتها العذبة .
كانت بيروت ولا تزال في مخيلة المثقف المصري والعربي مدينة " أسطورة " موقعها دائرة متماس محيطها مع خط طول القلب، ودائرة ثانية تقطع خط عرض العقل، إذ يمشي في طرقاتها وبين أهلها كثرٌ من أرباب الأوليمب جمعا ً أو فرادي.. فتارة يمرح في شوارعها وأزقتها "ديونيزوس" بخمره ومجونه وتحرره من ربقة الأوامر والنواهي، وتارة يصعد إلى شماريخ أرزها " أبوللو" إله الشمس والسماء والرزانة . وقد يتولي أمرها حيناً "هوبنوس" رب النوم فتنعس الجميلة علي كتفه هانئة قريرة ، تراودها أحلام الياسمين وأشواق الجلنار . لكنه في حين آخر ، فجأة ً قد يدفع بها- غادرا ً- إلى توأمه ثاناتوس رب الموت ليحصد أرواح بنيها حصدا ً.. عندئذ يتوقف القلب عن الخفقان أو يكاد ، وُتغم علي العقل رؤية ُ الغد العربي المنتظر ، بله رؤية الغد العالميّ المؤمل منه أن ُينهي تاريخ ما قبل البشرية هذا الذي نعيش فيه اليوم .
لكنْ – وحمدا ً للنبلاء الشعراء خالقي الأساطير الخلابة التي تنتصر للحياة علي الموت - سرعان ما يهبط إليها "أورفيوس" بقيثارته الساحرة ليعيدها من جحيم هاديس إلى عالم الضياء والأحياء بهيئة المعشوقة "أوريدي" ذات الجمال والجلال والكبر البهيج التي تذكر كل أرمل مثلي بزوجته الحبيبة الراحلة .
والعجيب حقاً أن بيروت هذه المتقلبة بين سواعد الأرباب ، كانت تصر ، في كل أحوالها، ألا تفلت من يدها كف "أثينا" ربة الحكمة .. ولهذا ظلت علي الدوام مصدرا ً مبدعاً للمنتج الثقافي باستمرارية تشبه استمرارية "كرونوس" إله الزمن في استحالته علي مفهومي ْ العدم والغياب .
يقول المثقف : لعلها تزوجت "نبتون" إله البحر،فاكتسبت من صفاته أن تتجلى جسداً لازورديّ اللون، زبدىّ الإهاب ، عميق السر في القرار ، يجمع بين الرقة والعنف ، وبين الحنكة والبراءة ، وبين الثواء والترحال ، خفاقة ً في كل الأحوال قلبا ً خضمّا ً طهورا ً لا يتلوث أبدا ً حتى وإن ُقذف بنفايات البشر ، أو ُألقيت في صدره الوسيع أدرانـُهم وسخائـُهم ودناياهم .
من بيروت زوجةِ ِ البحر الأبيض المتوسط تلقي المثقفون العرب هداياهم من أعمال ابن خلدون، وابن رشد، والقاضي عبد الجبار، والجاحظ، وعبد القاهر ،وأبي بكر الرازى ، وابن سينا ، وابن النفيس وغيرهم من "حداثيِّ التراث" جنبا إلى جنب رواد الحداثة المعاصرة : محمد أركون، وادوار سعيد، و محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي ، وناصيف نصار، وأدونيس، وجابر عصفور، وصلاح فضل .. وغيرهم ، فضلا عن شعراء المقاومة درويش العظيم، وسميح، وفدوي ودنقل... والروائيين ذوي الخصوصية المبهرة : عبد الرحمن منيف، وغادة السمان، وجمال الغيطاني، وصنع الله إبراهيم، وإبراهيم الكوني، وحيدر حيدر، وإبراهيم أصلان،.. إلى آخر قائمة المبدعين العرب الذين أذاعت بيروت صيتهم في العالم بأسره .. وقد بقي على هؤلاء جميعا ً أن يردوا الجميل بمثله بأن يقفوا بجانبها بينا هي تصارع كسف الظلمة الفاشية المتربصة ، لا بطلب الحوار مع عناصرها (فالفاشستي يفضل علي مبادلات الألسن والآذان طعنَ الأعين بمغراز الإسكافي) وإنما بفضح هذه العناصر، وكشف أغراضها الشريرة أمام الجماهير، وتفكيك أيديولوجياتها القائمة علي الأنانية المطلقة ورفض الآخر رفضا ً ابتدائيا ً غير قابل للشك أو المراجعة .
ومع ذلك وبفرض أن دعا داع للحوار بين مثقفين يتبنون الديمقراطية نهجا ً وفلسفة ً ، وبين نظائر لهم يؤمنون بالفاشية سبيلا ً لتقدم الأمة ، فإن مشكلة ً تقنية ً فور الطلب سوف تنشب ، مؤداها أن " فاشييـ.. نا" العرب ليسوا على المستوى المعرفي الرفيع الذي تمتع به الفلاسفة الذين مهدوا بكتاباتهم لأدبيات هذا المذهب : فيشتة ، وشلنج، ثم أوجست كونت وماكس فيبر علي التوالي، إلي مارتن هيدجر أستاذ سارتر نفسه ! فكيف يمكن للمرء أن يحاور من لا يعرف أصول مذهبه باستثناء مطاع صفدي الذي احترف النقيضين : الترويج للفاشية العملية تنظيرا وتبريرا لنظام صدام حسين! والنقد العنيف للمذاهب الشمولية ( ما لم تكن بعثية عربية قومية إسلامية ...الخ ) فهل يمكن لأجل خاطر هذا المثقف التقليدي- بتعريف جرامشى - فتح ُ دكان ٍ للحوار ليدخل إلينا منه قبضايات الفكر المسلح ، وصبيانهم صحفيو الغوغاء، ومرتزقة الثقافة ؟ أقول متذكرا ً ما قاله أبو العلاء : تلوا باطلا ً وجلوا صارما ً / وقالوا صدقنا .. فقلنا نـعم . فدعنا إذن من حوار الفاشست ولنركز على جماهيرهم المخدوعة فيهم ، ولنتذكر أننا في بيروت القادرة على تحجيم القوة الغاشمة في نهاية المطاف بفضل مساحة لا يزال العقل فيها يعمل وينتج بين الجماهير .. فمن أجل هذه المساحة الثقافية الباهرة والتي لا تزال حرة نابضة بالحياة في بيروت – رغم أنوف أشباح الفاشية – يجد المثقف المصري نفسه يفكر في الرحيل إليها لو حان وقت أشباحه القاهرية .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - من اجمل ما قرأت في وصف بيروت
بشارة خليل قـ ( 2012 / 6 / 9 - 00:14 )
فاشيست..نا بالنسبة للفاشية الاوربية كالزواحف بالنسبة للثدييات: الفاشيون عندنا يفكرون بامعائهم والفاشيين عندهم امعائهم تفكر
سواء شئنا ام ابينا فان ايديولوجية الاسلام السياسي هي اخر الايديولوجيات الشمولية وهي اخطرها لانها تحاكي الامعاء لا العقل وهي التحدي الاكبر للبشرية في المستقبل القريب
علني اكون مخطئا

اخر الافلام

.. عاجل.. شبكة -أي بي سي- عن مسؤول أميركي: إسرائيل أصابت موقعا


.. وزراءُ خارجية دول مجموعة السبع المجتمعون في إيطاليا يتفقون




.. النيران تستعر بين إسرائيل وحزب الله.. فهل يصبح لبنان ساحة ال


.. عاجل.. إغلاق المجال الجوي الإيراني أمام الجميع باستثناء القو




.. بينهم نساء ومسنون.. العثور جثامين نحو 30 شهيد مدفونين في مشف