الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحرية في الفكر السارتري

دومام اشتي

2012 / 6 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



اقترنت الوجودية في أذهان عامة الناس, وكما هي في الحقيقة, باسم الفيلسوف والكاتب الفرنسي جان بول سارتر, فهو من أذاع هذه الفلسفة في مختلف الأوساط بعد أن كانت مقتصرة على أهل الفلسفة فقط.
يعد سارتر أشجع الفلاسفة الوجوديين في استخلاص النتائج الفكرية التي تمس معتقدات الناس ومذاهبهم, ثم صياغة هذه النتائج في عبارات ملتهبة في كثير من الأحيان, علما انه قد اخذ عن هايدغر المعاني الرئيسية الكبرى في الوجودية, وقام بصياغتها بشكل رائع يثير اهتمام عامة الناس بها, مع العلم أنه من الصعب جدا حتى على المتخصصين في الفلسفة أنفسهم أن يفهموا كتب هايدغر بلغته الغامضة وفكره الحلزوني العميق وتلاعبه البهلواني باللغة الفلسفية واشتقاقاتها .
والى جانب هذا الإيضاح لجوانب وجودية هيدغر زاد عليه في مواقف عديدة واستخرج لنفسه وجهات نظر جديدة بل تفوق على هيدغر في التحليل الفينومينولوجي* لبعض المعاني الكبرى في الوجودية من هنا كانت له أصالة وكان له فضل في إكمال بناء المذهب الوجودي وهذا الجديد الذي أضافه سارتر هو الذي سنهتم بالتحدث عنه
_ فالمبدأ الرئيسي الذي يضعهُ سارتر للوجودية هو القول أن الوجود يسبق الماهية علما أن هيدغر لم يستعمل هذه العبارة وان تضمنها مذهبه وكل مذهب وجودي , مع أن الفلسفة كانت قائمة على المبدأ المضاد لهذا القول, وهو أن الماهية تسبق الوجود, وقبل أن يوجد العالم كانت صورته أو فكرته في عقل أو رغبة الله قد تشكلت, وقبل أن يوجد أي شيء يسبق وجوده كانت فكرته عند صانعه العلوي مُتشكلة مُسبقاً. من هنا كان يُمكن أن يُقال أن ثمة طبيعة للإنسان, هذه الطبيعة الإنسانية هي التصور الإنساني, وتوجد عند جميع الناس, أي كل فرد من الناس مثال جزئي لتصور كلي هو الإنسان.
في المقابل فإن الوجودية ترفض هذا القول, وترى إن الوجود يسبق الماهية فالإنسان يوجد أولا ثم يحدد ما يريده هو أن يكون على شاكلة شيء ما, وحين يوجد الإنسان لا يكون بشيء محدد ومعين ولا يملك طبيعة إنسانية بإمكانه أن يستند ويركُنَ إليها في تصرفاته, لكون لمّا يختر بعد ماذا يكون أو كيف يكون, فالإنسان هو من يتحكم بماهيته وليس العكس, هو من يحدد نفسه, ويرسم وجوده وحريته وكيانه, وان لم يكن ذلك, فبأي حق نحُاسب الإنسان , بأي شريعة نطلق صفة / عبد, حر, ملحد, مؤمن/ أن لم يكن له أي رأي أو تدخل في رسم ملامح ومعالم حياته المستقبلية وأن كان الله أو الرب او...الخ هو من يخلق أو يرسم ويكتب ووو و ويحدد ماذا سيكون عليه المرء -خاصة كما يقول أصحاب اللحة الطويلة والمعممون- إن المرء حين يولد يكون الله قد كتب عليه وحدد ماذا سيكون, فها هنا تَجَنِن وحَدٍ وكبتٌ من طاقة الإنسان وحريته وكرامته, ولن يكون بمقدورنا أن نطلق عليه صفة الحر أو الكريم بكون الإنسان أضحى مجبرا ومسيرا, دون أي إرادة أو حرية من الإنسان. أي أن الإنسان يوجد أولا غير محدد بصفةً أو لقبً وثم يلُقي بنفسه في المستقبل بفعله وفكره وتصرفه فهو من يصمم مستقبله ثم يحقق من هذا التصميم ما يستطيع. وحتى أكون مسئول عما أكون عليه لابد لي أن أكون مشروعا وتصميماً أضعه بنفسي ولنفسي, هذه المسؤولية لا تقتصر علي وحدي فقط بل تمتد الى الناس جميعاً, فحين اختار لنفسي قرارا فهو يمس سائر الجنس البشري , أي أن الإنسان حينما يختار لنفسه قرار فهو يمس سائر الجنس البشري ,لأنه بهذا الاختيار ,يرسم الإنسان كما يرى أن يكون , إذ أن اختياره لشيء ما فهو في الوقت نفسه توكيد لقيمة ما يختاره, فيحب لنفسه ما يحبه لغيره, وهو في ذلك تأكيدٌ على مبدأ محاسبته أن هو كان من يختار ماهيته وما يريد أن يكون.
ليست الحرية في فلسفة سارتر قدرة من قدرات الروح أو ملكة يكتسبها الإنسان ويمكننا أن نتناولها بعيدة عن أن نصفها كشيء مستقل و أنما هي من صميم وجود الإنسان بحيث لا يمكن تناولها دون أن ندرس الوجود الإنساني ( حريتي لغتي , وأنا لغتي ,ولغتي أكتسبها بمرور الزمن بالتواصل مع الآخرين, بالوسط الاجتماعي) إن العلاقة بين وجود الإنسان وماهيته ليست شبيهة بعلاقة وجود الأشياء وماهيتها, فالإنسان ليس حاصلاً أصلاً على أية ماهية معينة تتحدد في نطاقها أفعاله وإنما وجوده سابق على الماهية كما يقول سارتر, بينما الأشياء تخضع لماهيتها كما تنمو الشجرة وفق ماهيتها التي تنطوي عليها البذرة الصغيرة, إذن الحرية الإنسانية هي مثل الوجود سابقة على الماهية, يقول سارتر: إن ماهية الكائن البشري معلقة بحريته وأن ما نسميه حرية هو أذن حرية لا يمكن تمييزه عن وجود الحقيقة الإنسانية .
إن الإنسان لا يوجد أولاً ليكون بعد ذلك حراً وإنما ليس ثمة فرق بين وجود الإنسان ووجوده حرا فيربط سارتر من جهة بين الوجود الإنساني والعدم من حيث أن الوجود لازم لإفراز العدم, ومن جهة ثانية يربط بين الوجود الإنساني وبين الحرية من حيث إن الحرية هي في صميم الوجود وتسبق الماهية الإنسانية, فغدد الحرية في فلسفة سارتر مرتبطة بمسالة العدم من حيث هي شرط لازم لظهوره. فالحرية عند سارتر هي الكائن البشري الذي يفرز عدمه الخاص فيستبعد ماضيه وكذلك مستقبله.. ربما يحاول سارتر لفت انتباهنا الى مبدأ الثنائية ,فكما أن الوجود يدلنا على وجود العدم ,إذ فلولا الوجود لما تعرفنا على العدم هذه الثنائية والجدلية هي التي تفرز ثنائية الحرية والوجود الإنساني , وهذا تأكيد صارخ على ربط الحرية بالوجود الإنساني أي وبمعادلة رياضية يمكننا الرمز الى هذه الثنائية بالشكل التالي (( الوجود الإنساني + الحرية = الحياة السعيدة)) أو (( الماهية المبتكرة أو المعدة لاحقاً= الحرية في الوجود الإنساني))
إن تمجيد الفعل من المبادئ الرئيسية في هذا المذهب, إذ ليس ثمة حقيقة واقعية إلا في الفعل والإنسان لا يوجد إلا بقدر ما يحقق نفسه فهو ليس شيئا أخر غير مجموع أفعاله (( هو يساوي ما يفعل , ما يفكر ,ما ينجز))
يرى سارتر إن الإنسان ليس في ذاته إلا ما يفعل أي انه لا يمكن معرفة شخصية الإنسان إلا من خلال ما ينجزه وما يقوم به من أفعال أثناء وجوده التاريخي والفعلي.
لقد بلور سارتر موقفه من مسألة الحرية في فلسفته الوجودية, وركزه حول محور أساسي يتمثل في تأكيده على الذاتية الإنسانية والوعي والحرية ويمكن تلخيص هذا الموقف في ثلاث قضايا أساسية
1 الإنسان حر لان وجوده اسبق على ماهيته: فالإنسان يوجد في هذا العالم أولا, وبعد ذلك يفعل بنفسه ما يشاء ويصنع لنفسه الماهية التي اختار لنفسه بحرية وإرادة ومن هنا جاء اسم الوجودية لان وجود الإنسان اسبق من ماهيته.
2 الإنسان مسئول عن ماهيته ويتحمل نتائج اختياره: إذا كان الإنسان يختار أفعاله بنفسه ويحدد ماهيته بإرادته, لزم عن ذلك ضرورة أن يتحمل مسؤولية تلك الحرية وعواقب الأفعال, لأنه بدون تحمل للمسؤولية فأن الفرد يقع في الفوضى الشاملة التي تعصف بنظام المجتمع, فمن اشد أهداف الوجودية وضع كل فرد وصيا على نفسه ومسئولا عن أفعاله واختياراته.
3 الإنسان مسئول في اختياراته مسؤولية مصحوبة بالقلق: إذا كانت المسؤولية نتيجة منطقية لحرية اختيار الإنسان لأفعاله فان وطأتها تكون ثقيلة على الإنسان لأنها تكون دوما مصحوبة بالقلق للأسباب التالية
1 الخوف من نتائج الاختيار لان كل اختيار يحتمل النجاح والفشل , ولان الإنسان عندما يختار لا يختار لنفسه بل يختار نموذج الماهية التي ينبغي أن يكون عليها كل إنسان.
2 إحساس كل إنسان أثناء الاختيار أن حياته ناضجة وممكنة الموت في أي لحظة.
ولكن إذا كانت الحرية هي قدره علي الاختيار، فان الاختيار ليس ألعوبة يتلهي بها الإنسان، بل هي جوهر المعاناة التي يعانيها الإنسان لكي يؤكد وجوده. لان حرية اختيار الفرد لفعل معين، وتركه لفعل آخر، وما سوف يرتبط بذلك من تحمل المسئولية، عاده ما يؤدي إلى تولد القلق والخوف من نتائج هذا الاختيار وتلك المسئولية. ومثل ذلك كمثل القائد الذي سوف يتخذ بكامل حريته قرار بالهجوم بجيشه علي العدو، ثم يتحمل بعد ذلك مسؤولية هذا القرار ونتائجه التي قد تكون نصرا أو هزيمة، لذلك يكون القلق مصاحبا للمسؤولية لكن بدرجات متفاوتة, ويقرر سارتر إن هذا القلق طبيعي في حياه الإنسان الحر المسئول، وانه لا يقصد به القلق المرضي فيقول: إن القلق الذي نعنيه هنا ليس هو القلق الذي يؤدي الى الاستكانة واللا فعل . لكنه القلق البسيط الذي يعرفه كل من تحمل مسؤولية من المسؤوليات في يوم من الأيام. وعلى هذا فالإنسان يظل طوال حياته يعيش في قلق دائم مادام حرا يختار ويتحمل مسؤولية اختياره..
فالإنسان الذي لا يملك الحرية لا يستطيع أن يصنع الحياة، والإنسان الذي يشعر بالاضطهاد وسحق إرادته وشخصيته، لا يتفاعل ولا يستجيب للسلطة، ولا لمشاريعها وسياستها، ولا يستطيع أن يوظف طاقاته، وبالتالي لا يستطيع النهوض أو التقدم.
لا يمكن التمييز بين الحرية والوجود البشري, فالإنسان لا يوجد أولا ثم يصبح حرا بعد ذلك، بل إن كونه إنسان معناه انه حر بالفعل. والإنسان الذي يتوقف عن الفعل والاختيار والممارسة للحرية, فهو يخون وجوده ويشعر بالملل وتصبح الحياة لديه بلا معني.
إن الحرية ليست صفه مضافة أو خاصية من خصائص طبيعتي، بل هي نسيج وجودي, بل إن الحرية هي عين الوجود، بل إن القول بان الإنسان موجود يعني ببساطه انه حر, فالإنسان كما يقول سارتر، هو ما يفعل، وما هو إلا سلسله من المشاريع. والوجود الإنساني هو_في أي لحظه_ مشروع متحقق رسمه الإنسان بنفسه، ونفذه بحريه تامة.

إن من أخطر أسباب تخلف عالمنا هو مصادرة إرادة الإنسان، وكبت حريته المشروعة، الحرية المسئولة التي لا تنفك عن الالتزام والمسؤولية.
لذا ولكي تنهض الأمة، فهي بحاجة إلى الحرية، بحاجة إلى حرية الفكر، بحاجة إلى أن يحرر العقل من الإرهاب الفكري، ويفسح أمامه المجال واسعاً لينطلق، وليفكر وليبدع وليمارس دوره الملتزم في مجال المعرفة وتشخيص المسار فإن الإنسان المكبوت الحرية هو إنسان مشلول القدرة والإرادة، ولا يستطيع أن يوظف طاقاته وإمكاناته.
إن محنة شعوب العالم العربي هي مصادرة حرية الإنسان، وسحق إرادته، وتسليط الاستعباد والكبت الفكري والسياسي عليه.
إن أصحاب الفكر ودعاة الإصلاح يعانون من القتل والإعدام السياسي وحالات التعذيب الوحشي والزج في السجون والهجرات والتشريد.
لقد انطلق الوجودية مع الإنسان الحر المختار، فوهبه حرية الفكر، وحرية السلوك، وحرية التملك وحرية العمل، والحرية السياسية، غير أنه قرن الحرية بالالتزام المسؤولية.
إن اخطر ما يواجهه الإنسان اليوم هو الإرهاب السياسي الذي صادر إرادته وحريته. فشعوب العالم العربي لا تملك مصيرها السياسي، ولا تملك حق إبداء الرأي أو مناقشة السياسة القائمة، إن الحياة السياسية عليها أن تقام على أساس حرية المعتقد والفكر والممارسة , أن ما نجده اليوم وما تشهده الساحة العربية من ثورات و اعتصامات وإضرابات لهي خير دليل على انعدام البعد الوجودي في الحياة العربية وبخاصة السياسية منها ... إن السبب الأساس في ركود الأمم وتخلفها، هو طبيعة الأنظمة والسلطات الحاكمة، فإن الاستبداد السياسي والأنظمة التي لا تحترم مصالح الأمة تسببت في العالم العربي بتضييع ثروات الأمة، وطاقاتها المبدعة، وجعلت منها أمة متخلفة تتلاعب قوى الاستعمار والصهيونية بمصيرها ومصالحها وثرواتها وخيراتها وإمكاناتها, وأن أمعنا النظر ملياً في آلية تدخل هذه القوى الاستعمارية لوجدناها صنيعة أيدي حاكمي هذه البلاد.
سارتر أراد وفعل وأصر وضحى وناضل من اجل أقناع البشرية جمعاء أن الوجود يسبق الماهية وان الحرية هي في صميم الوجود الإنساني, وبأنه حتى نستطيع محاسبة الأخر على فعل أقدم عليه لابد من منحه حرية الاختيار في البداية ,حرية الإقدام أو الأعراض, حرية اختيار الماهية كي يُلحق بها وجوده.
لعله كان مشروعاً نهضوياً تنويرياً لشخص فيلسوف أراد تخليص البشرية جمعاء من وهن ووهم الاستعباد للأخر, انطلاقا من الشعور بالمسؤولية تجاه شقاء وتعاسة وغباء الأخر, حتى القاطن في أقصى البلاد وأبعدها.
هنا أتساءل : هل نملك مشروعاً تنويرياً يحقق " ليس لباقي الشعوب , ولا لباقي البلدان" لنا ولنقل كل في بلده, يحقق شيئاً من إنسانية الإنسان, يحقق شيء من كرامة وهيبة وماهية الإنسان ,علماً أن هذا من صميم عملهم كمسئولين عن هذا الشعب, أم يا ترى أنهم يملكون مشروعاً سلطوياً يقُصي, يٌهمش, يقتل ....حتى البسمة والضحكة
------------------------

خاتمة :
أن أرائه في الالتزام والحرية كانت تشكل ركنا أساسيا في النقد الإيديولوجي الذي ساد في حقبة الخمسينات والستينات, فقد ركز على مبدأ الالتزام والحرية.
ويقرر سارتر في كتابه ,ما الأدب, أن عمل الكاتب الأساسي يتمثل في شرح المقاصد
ويؤكد على أن كلاً من عمليتي الكتابة والقراءة هما الوجهان الحقيقيان للتاريخ.
الواجب والحرية التي يدعونا إليها ليست شعورا مجردا خالصا بحرية الإنسان فالحرية ليست مُتوفرة بتجريديتها , لكنها تُكتسب في موقف تاريخي خاص, وبكون أن المؤلف والقارئ تتجلى حريتهما بعملية بحث كُلً منهما عن الأخر, ويؤثر ويتأثر كلاهما ببعضهما البعض, فإن حرية المؤلف في اختيار مظهر من مظاهر العالم, هي التي تُبين وتُحدد طبيعة قارئه.
[email protected]

للاستزادة:
1بدوي ,عبد الرحمن, دراسات في الفلسفة الوجودية, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, ط1980,1 .
2بول سارتر,جان, الوجودية نزعة إنسانية, تر عبد المنعم الحنفي, مطبعة الدار المصرية, ط1964,1 .
1حرب ,سعاد, الأنا والأخر والجماعة, دراسة في فلسفة سارتر ومسرحه, دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع, بيروت, لبنان, د.ت.

• الفينومينولوجية: مصطلح في الفلسفة المثالية, يدل على مبحث ظواهر الوعي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53


.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن




.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص