الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنور عبد الملك وتغيير العالم

مهدي بندق

2012 / 6 / 27
مواضيع وابحاث سياسية



في باريس وليس في القاهرة ! جاء اليوم الحزين الذي رحل فيه عن عالمنا المفكر وعالم الاجتماع أنور عبد الملك عن عمر يناهز 88 عامًا ، وكأنه يباغتنا لننتبه إلى ما يحيط بنا من إرهاصات بغربة قادمة! فرغم أن مفكرنا كان دائما مشغولا بهموم وطنه لا سيما السياسية والاجتماعية المهولة ، ورغم تأكيده على أهمية الخصوصية والهوية والانتماء لتماسك الأمة ورفضه دعاوى العولمة بحجة التحديث واللحاق بالركب الحضاري، مقابل دعوته إلى الانفتاح على الشرق ( تحديدا الصين واليابان ) أقول برغم هذا كله فإن الرجل لم يجد مكاناً يلوذ به في أيامه الأخيرة غير باريس بما يحمله ذلك الملاذ من دلالة ثقافية وحضارية .
فما هي هذه الدلالة ؟ هل تراها تشير إلى كون باريس مطلقة شرارة ثورات العالم الحديث ، بدء من الثورة الفرنسية الكبرى 1789 وكونها المدينة التي اندفعت منها أول ثورة اشتراكية – وإن أخفقت – عام 1848 ثم كوميونة باريس 1870 والمدينة التي احتضنت ثورة الطلاب اليساريين في مايو 1968وأخيرا المدينة التي بشرت بعودة الاشتراكيين إلى الحكم في عامنا الحالي ؟
منذ أن شرع عبد الملك في عملية الإنتاج الفكري وضح اهتمامه بالفلسفة الماركسية ، فكان أن قاده طموحه الوطني إلى محاولة تمصير الاشتراكية بما صكه من مصطلح المدرسة المصرية في الماركسية دون إهمال التأثيرات العالمية لهذا المذهب، باعتبارها سلاحا من أجل التحرر الوطني والاقتصادي لبلدان العالم الثالث ، وكان له في ماو تسي تونج أسوة حسنة ، فهل نجح مفكرنا في مسعاه؟ أغلب الظن أنه لم ينجح ، ليس لعيب فيه ولكن لأسباب موضوعية أهمها غلبة النمط الآسيوي للإنتاج المعوق لتطور المجتمعات والمحجّم للطبقة البورجوازية والطبقة التالية لها : البروليتاريا أن تمارسا الفعل الثوري لتغيير الواقع .
من هنا كتب أنور عبد الملك كتابه العمدة " تغيير العالم " (بجانب مؤلفاته الأخرى : الفكر العربي فى معركة النهضة، ونهضة مصر، وريح الشرق، وتغيير العالم، والشارع المصري والفكر، والإبداع والمشروع الحضاري، والمواطنة هي الحل) ففي هذا الكتاب تحديداً جاء الإسهام الفكري الكبير لعبد الملك في سياق علم الاجتماع المعاصر، إذ قام من خلاله بانتقاد المدارس الليبرالية، وكذلك الماركسية الغربية التي تتعلق بمفاهيم الدولة والأمة والقومية وغيرها، وكان إسهامه الفكري في هذا السياق قاصدا تبيان درجات الاختلاف بين الواقع الذي أنتج تلك الرؤى والأفكار وبين متغيرات شعوب العالم الثالث في مواجهة الغرب الامبريالي.
في هذا الكتاب درس عبد الملك التطور الذي جرى لمفهوم عالمية العالم ابتداء من القرن التاسع عشر – مع ميلاد العلوم الاجتماعية – حيث ذهب المفكرون الأوربيون إلى فكرة أن الواقع العالمي متصل منذ الحضارة الإغريقية وحتى بزوغ الإمبراطورية البريطانية .. بما سمح لفكرة " المركزية الأوربية " أن تنتشر. ذلك أن ثقافة أوربا بدء من القرن 15 قبلت بالتحديث فتخلت عن مفاهيمها الموروثة من عصر الجمود اللاهوتي، مما قادها للانطلاق نحو فضاء الاختراعات والأبحاث العلمية والكشوف الجغرافية ، الفضاء الذي دعاها لفتح مناطق المواد الخام وإخضاع بلدان الشرق ولو بالقوة العسكرية كي تكون لمنتجاتها أسواقا ً مفتوحة . وحين توجت أوربا سيدة للعالم راحت تصدر للآخرين فكرة " المركزية الأوربية " بما يعني ألا سبيل لمجتمع يسعى للتقدم سوى بسلوك السبيل الأوربي ، دون منافستها طبعا، بل القبول بالتبعية لنموذجها لا أكثر، وإلا فعليها أن ترضى بالتخلف.
وعليه فلقد قوبلت هذه الفكرة بالنقد الشديد في مرحلة ما بعد الكولينيالية خاصة بأعمال بول كنيدي وفاليري شتاين والمفكر العربي الفلسطيني ادوار سعيد والمفكر المصري سمير أمين وغيرهم . وأما أنور عبد الملك فلقد كان أكثر هؤلاء الناقدين استبصارا ً بخطورة هذه الفكرة الشريرة فراح يصارعها مستمسكاً بفكرة الأيديولوجية الاشتراكية لعل وعسى !
كتب عبد الملك " تغيير العالم " عام 1985 أي قبل زوال الاتحاد السوفييتي واندياحه وذوبانه في منظومة الرأسمالية العالمية والتي ما لبثت حتى اتخذت لها اسماً حركياً جديداً هو " العولمة "
فما هي العولمة إلا أن تكون أعلى مراحل الرأسمالية ؟! رأسمالية الشركات عابرة القارات والتي تعمل على تحجيم دور الدولة القومية ( وتحجيم دور الكاتب بالمرة) حتى لا يبقى من وظائفها إلا وظيفة الشرطي حارس النظام العولميّ الجديد.
خلال تسعينات القرن المنصرم بلغ حجم التبادلات السلعية 30 ألف مليار دولار سنوياً، حين بلغ حجم التدفقات المالية 100 ألف مليار دولار كل عام. ثمة 70 ألف مليار نقداً ، تم تبادلها وهى ليست سلعاً ! فكيف حدث هذا ؟! حدث لأن النقود ذاتها، ومنذ بداية العصر الرأسمالي التقليدي – قد أصبحت سلعاً ، وأصبحت تحقق أرباحاً أعظم حين يجرى تبادلها في البورصات العالمية. وهذا أكبر دليل على عمق أزمة النظام الرأسمالي من الناحية الاقتصادية البحتة، ناهيك عن أزماته السياسية .
ومنذ انتهت الحرب الباردة بين نظام الرأسمالية التقليدية (دول الغرب) وبين نظام رأسمالية الدولة ( الاتحاد السوفيتي السابق) بهزيمة الأخير، حتى أصبح العالم بأسره، رأسمالياً صريحا ً ذا سوق واحدة. وبدلاً من الحروب بين دوله المتقدمة، راح الرأسماليون الجدد يعيدون توزيع الغنائم (= عالم الجنوب التعس) من ناحية بتناسي نصوص معاهدة وستفاليا 1648حول حقوق الدول القومية، ومن أخرى باستنساخ الاتفاق الودي بين انجلترا وفرنسا عام1904 لتقسيم المستعمرات ، ومن ثالثة بتوليد البنك الدولي 1945، ثم شقيقه صندوق النقد الدولي عام 1946، ومن رابعة بتبنى طفلة شريرة، اسمها الحركي اتفاقيات الجات، حتى إذا بلغت رشدها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، رأينا فيها : هند آكلة الأكباد تتقدم إلينا باسم منظمة التجارة العالمية 1994. ولوضع صيغة العولمة موضع التنفيذ
توالت مؤتمرات الدول الصناعية الكبرى بغرض تقسيم العالم إلى دول لوردات ودول أقنان حيث توضع الآن القواعد القانونية المقيدة لهجرة أناس العالم الثالث إلى العالم الأول السعيد. وعلى من يرفض الانصياع لهذا النظام أن يموت .
هل لهذا صلة بموت أنور عبد الملك بعيداً عن وطنه الذي تتناوشه رؤساء الأقنان الكومبرادوريين من بقايا النظام الساقط وطلائع الباشاوات الجدد وكلاء اللوردات في عالميْ النفط العربي وما بعد الصناعة الغربية ؟ أم تراه موتا ً في مكان يعبر عن نجاح – ولو محدود - لغايات البشر في تغيير العالم ؟









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عودة جزئية للعمل بمستشفى الأمل في غزة بعد اقتحامه وإتلاف محت


.. دول أوروبية تدرس شراء أسلحة من أسواق خارجية لدعم أوكرانيا




.. البنتاغون: لن نتردد في الدفاع عن إسرائيل وسنعمل على حماية قو


.. شهداء بينهم أطفال بقصف إسرائيلي استهدف نازحين شرق مدينة رفح




.. عقوبة على العقوبات.. إجراءات بجعبة أوروبا تنتظر إيران بعد ال