الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صمت العرش. قصة

حماده زيدان

2012 / 7 / 2
الادب والفن


مستوحاة من قصة (الشهيد) للكاتب الكبير توفيق الحكيم.
هناك بعض النصوص المقتبسة من قصة (الشهيد)

صمت العرش.


(كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح؟ كيف قطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم وأنت قلت في قلبك أصعد إلى السموات أرفع كرسي فوق كواكب الله وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال أصعد فوق مرتفعات السحاب أصير مثل العلي لكنك انحدرت إلى الهاوية إلى أسافل الجب" ( اشعياء 12:14-17)

***
مشهد من السموات العليا.
علم الجميع بقصته، فانتشرت الأقاويل بينهم، ملائكة، وأنبياء، ورسل، جميعهم يتحركون بلا هوادة في السموات العليا، جميعهم يملؤهم رعباً ما بعده من رعب، (يا آله السموات نجنا مما نخاف) يرددونها دون ملل، وفي الأرض كان يمشي حزيناً بعد أن أغلقت الأديان الرحمة في وجهه العبوس،
- أصغ إلي يا.. لست أدري بماذا أناديك؟!.. أرأيت.. حتى اسمك بعد توبتك سيثير إشكالاً!.. كلا.. إن الكنيسة ترفض طلبك.. اذهب إذا شئت إلى دين آخر..
لما أيها البابا أليست الرحمة خُلقت للجميع، ألم يقول المسيح:
"أقول إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب، أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة"، أليس هذا قول مسيحكم، "أقبلني صادقاً في توبتي" قالها الشيطان، وهكذا رفض، وهكذا مضى في حال سبيله، ينعت في حاله كيف كان رسولاً للجن، وكيف كان من الصالحين، لقد كنت حارساً لخزائن الجنان، لم أهدأ حتى يتوب الله عليّ، كان في الأرض يمشي، وفي السماء يزداد الغضب، الأنبياء يصرخون:
(إذا ما تاب ستهدم أدياننا فوق رؤوسنا، كيف هذا؟! هل جن "الشيطان"، لا ورب هذا العرش لن يحدث)
غضبهم لم يصل إليه، ولم يهتم هو في الواقع بهم، لقد قرر أن يتوب، وماذا يعنيهم هم؟!، استمر هو في زحفه المقدس، حتى وصل لحاخام اليهود، وسأله التوبة فأجابه الحاخام بعد أن أزاح عنه وجهه، قائلاً:
- إذا عفا الله عن إبليس.. ومحا الشر من الأرض.. ففيم إذن التمييز بين شعب وشعب؟.. بنو إسرائيل شعب الله المختار.. لن يكون بعد اليوم مبرر لاختيارهم دون بقية الشعوب، ولامتيازهم على بقية الأجناس.. حتى السيطرة المالية التي صارت إليهم منذ أجيال ستذهب عنهم بذهاب الشر عن النفوس.. وزوال الجشع وموت الطمع، وفناء الأثرة والحرص والأنانية.. إيمان إبليس سيدك صرح التفوق اليهودي.. ويهدم مجد بني إسرائيل.
ترك إبليس الحاخام حزيناً ومتعباً ولكنه (لم يقنط من رحمته) هكذا قالت السموات، وفي السموات تتعالى أصوات الملائكة فرحاً، لقد رفضته الأديان ديناً بعد دين، ولم يتبقى له غير فرصة وحيدة للتوبة، وإذا لم يستطع أن ينالها، سيكون هذا اليوم عيداً بالسموات العليا، وسنرقص، ونغني، ونسبح لصاحب السموات والأرض، (الخبيث) يريد أن ينهي عملنا وأعمالنا، وأن يخرب على الله دنياه، سحقاً يا إبليس.. سحقاً يا إبليس.. سحقاً يا إبليس.. ظل الملائكة يرددونها وهم يتابعون إبليس حتى وصل لشيخ الأزهر، سكتت الأصوات، وانتظر الجميع صاحب الصوت حتى ينطق، وما إن نطق حتى تراقصت كلماته رقصاً ففرحت بكلماته الملائكة، وصلى من أجلها الرسل.

***
كانت فرصته الأخيرة للتوبة، وكما فعلها (البابا) والحاخام فعلها شيخ الأزهر، ورقصت السماء طرباً بما سمعت، وظل الملائكة يرددون أناشيد النصر، وظل الأنبياء في الجنان يمرحون، وظلت الحياة تمشي كما هو مقدراً لها، أما عن إبليس فقد جمع الأبالسة في أمر هام، وحضر جيداً لما سيقوله، كانت تلك فرصته للتوبة، وما أجملها من فرصة.

***

اجتماع الأبالسة.
)التوبة ليس لنا فيها مكان، خُلقت للبشر لتميزهم فوق تميزهم، وما فيهم من خطاء إلا له التوبة، وخطيئتنا بلا توبة، فلنقم إذاً بتوبتنا النصوح، ولنوقف أعمالنا ونستقيل، ليرى الله خليقته من البشر وهم يخطئون دون تدخلنا لعله يتوب علينا(
كانت تلك كلمات إبليس في بداية اجتماعه الأكبر، وبعد أن استمع إليه الجميع، خيم السكوت على اجتماعهم، وزاد صوت عقولهم فوق الصمت، فتعالت الأصوات التي لم تخرج من الأفواه، قائلة وبحدة لم يعرفها إبليس من قبل، قال صوت:
- ألم يغضب الله لفعلتنا تلك؟!، نحن سنترك ما كُلفنا به، وهذه خطيئة لن تغفرها لنا السماء.
وآخر قال:
- السماء لن ترضى عنّا، فنحن أبناء الخطيئة، وسنظل هكذا دون توبة أو رحمة أو مغفرة، سأستقيل من العمل، لن يحرقنا الله مرتين.
صمتهم كان كثيراً فأغضبه وجعله ككرة من النار تود أن تشتعل في الجميع، صرخ إبليس في الجميع أن ينطقوا، أن يخرجوا صوت عقولهم، أمرهم أن يطيعوا أمره، أمرهم أن يتركوا أعمالهم، حكا لهم عما فعله ليتوب، وبعد أن انتهى وكان التأثر ظاهراً على وجهه، طأطأ الأبالسة رؤوسهم، وقالوا:
(أطعناك عند خطيئتك الكبرى، وسنطيعك عندما تتوب، نحن منك ولا يجوز لنا إلا أن نكون منك(.
اهتز المكان لقولهم، واهتز قلب إبليس فرحاً، وأعلنت السماء الحداد عما سمعت، واشتعلت نيران من الغضب أنارت قلوب الملائكة، والأنبياء، والرسل، وانتظر الجميع أمراً كان مفعولا.

***
اليوم التالي لاستقالة الشيطان.


(1) هي الحرب إذاً.
الحرب كانت دائرة، والموتى يتزايدون، الأسلحة القاتلة تجعل من أجساد الجنود محرقة، والجند مسيرين في حربهم تلك، أما عن القادة فهم في قلاعهم المحصنة يشربون النبيذ ويتراقصون في حلقات، رقصة ماجنة، الحرب لم تنتهي بعد، والفائدة المرجوة منها لم تأتي ثمرها،
- لذا فالحرب لم تنتهي بعد.
في الاجتماع الطارئ الذي دعا إليه رئيس البلاد، وقد استمع إلى ما قاله القائد، واستمع أيضاً للجميع، والجميع كان لهم نفس رأي ذلك القائد، تحير الرئيس كثيراً من رؤاهم، كان يريد أن يستمع إلى كلمة واحدة، لم يسمعها منهم إلى الآن، فقرر أن يُسمعها لهم، فقال الرجل:
- لقد فررت أن أوقف تلك الحرب، هناك دعوات كثيرة للسلام، وأنا لها من المؤمنين، سأعلن اليوم موقفي، وستنتهي تلك الحرب التي أنهكتنا، وأنهكت جندنا البواسل.
سقطت كلماته كالصواعق فوق رؤوس الجالسين، سكتوا لدقائق كان رئيسهم ينظر فقط إلى عيونهم وكانت (الشهوة) تملأها، وما هي إلا دقائق أخرى، حتى دوى صوت الرصاص في الاجتماع، لقد قُتل الرئيس، وأعلن السيد القائد المتعجرف بأغلبية الأعضاء استمرار الحرب.

(2) رجل وامرأة.
ما بين أفخاذها، كان الزوج الخائن يلحس فرجها بشهوانية مفزعة، سألته وهي تلهث من فرط الشهوة:
- ماذا بك اليوم، أراك اليوم تدهسني تحتك، بالراحة لا أدري اليوم أشعر بشيء وخذني في قلبي، ضميري يؤنبني اليوم، ولا أدري لذلك سبباً.
قالتها وراحت بعدها في وصلة من العهر تحت ذلك الزوج الخائن، الذي انتهى من فعلته، وترك عاهرته، وذهب ودموع التوبة تغرق عيناه، وصل إلى بيته، وفتح الباب، فوجدها تصلي أمام صليبها، جري عليها، وقبل رأسها، وكاد أن يطلب منها المغفرة لولا أن دخلت صغيرته فقالت له:
- أبي.. أوحشتني.
قبلها الرجل، وقبل زوجته، وشعر وقتها بأن (الكذب) قد ينجيه فلم يعترف بفعلته فسكت.

(3) السيد المرتشي.
قام "السيد" من نومته على صوت الآذان، الذي كان يدوي في المساجد حول بيته، شعر اليوم بشعور غريب لم يشعر به من قبل، الصلاة كانت تناديه اليوم، لم يصلي يوماً في حياته، ولا يعلم كيف يتوضأ، قام بسرعة بالاتصال بأحد معارفه، سأله عن كيفية الوضوء، والصلاة، أجابه الرجل، توضأ وصلى بالفاتحة فقط لأنه لا يحفظ غيرها، انهي صلاته، وتوجه إلى عمله، وما إن جلس على مكتبه حتى اكتظ المكتب بالمواطنين، الجميع يريدون منه أن ينهي أعمالهم، وجميعهم يعرفون طبيعته، أخرج المواطنون من جيوبهم الفلوس التي يتحرك بها السيد لينجز لهم أعمالهم، وفتح السيد درج مكتبه كالعادة، وكالعادة أيضاً وضع أحد المواطنين خمسة جنيهات في درج مكتبه، كشر السيد وأعل عن غضبه، كان لسان حاله يريد الصراخ في وجه المواطن ليقول:
- لم أرتشي بعد اليوم فاليوم أنا مع المؤمنين.
ولكن المواطن لم يفهم ذلك، (السيد لا يرضيه المبلغ) هكذا شعر، ابتسم الرجل ابتسامة ساخرة، ووضع له عشرون جنيهاً أخرى، نظر "السيد" إلى المبلغ، وزاد بريق عينيه، وأعلن ضميره عن راحة غريبة، فشكر المواطن على الحلاوة، وتأكد وقتتها أن (الطمع) قد يؤجل عودته إلى أحضان الرب.

***
محاولة أخيرة للشيطان.
الخطة تنجح، البشر غلبتهم طبائعهم الدنيوية عن عبادة خالقهم، ليسوا أفضل مني، وأخطائهم لا توبة منها، هؤلاء التعساء يفعلون المفاسد ويرموني بها وأنا بريء منها، سأجمع خطاهم وأصعد بها لخالقهم، ليرميهم هم في الجحيم أو يعفو عني ويتوب، عرج الشيطان إلى وجهته، أبواب السماء أمامه تفتح، والملائكة يصطفون على بوابات السماء، لم يسأله أحدهم إلى أين أنت ذاهب؟! ولم يهتم أحد، فقط تلك النظرة الساخرة التي تملأ الجميع، أما الأنبياء فقد جلسوا في حلقات من الذكر، يدعون خالقهم أن يفسد عليه توبته، حزن إبليس لدعائهم وأكمل رحلة صعوده، تفتح له الأبواب وتمتلئ الوجوه بنفس الابتسامة الساخرة، وصل إلى غايته تماماً، وانفتحت أمامه أبوابها، دخل مقشعر البدن، وجهه المنير يخشى الرفض، وجسده تتراقص عليه ألسنة اللهب، تنحنح بصوته، وانحنى بجسده، كان في حضرة جلالته، وهنا كل شيء لابد وأن يكون بحذر، كلماته كلما حاول أن يخرجها، تتلعثم داخله وترفض الخروج، ظل بحالته لفترة، نظر إلى دفاتره فوجد البشر يتدافعون على شجر التفاح، عندها تجرأ لسانه، وأعلن صوته عن الظهور في ذلك المشهد الرهيب..
- يا خالق الكون.. لما كان قدري هذا؟!.. إذا كان للخطيئة فهم يخطئون.. لقد أنهكتني خطيئتي وأصبحت من المخلدين.. أريد التوبة.. أو حتى الموت!.. لقد زهدت من شروري.. وزهدت من الخطيئة أعف عني يا آله.. أجعلني ملاكاً أو حتى بشراً ولكني أريد العفو.. مولاي.. توقفت عن بعث شروري إليهم، وأصبحوا يفعلون الشر لطبيعتهم، انتهى دوري معهم.. وأصبحت توبتي لا تمنع من وجودك الشر في العالم.
امتلأ وجهه العبوس بالدموع، وانتظر كثيراً أن ينطق العرش فلم ينطق، فقام هو بفرد دفاتره، وعلا صوته كثيراً وهو يعرض الخطيئة تلو الخطيئة، وظل يحكي ويحكي عما في دفاتره، وما إن انتهى من عرضه حتى انفتحت الأبواب، ووجد (آدم) النبي يدخل إلى قاعة العرش، كان يلبس عباءة مذهبة يرفع ذيلها أربعة من الملائكة، وفي وجهه نفس الابتسامة الماكرة، سأل إبليس بصوتٍ جهور:
- ماذا تريد يا شيطان؟!، ألم تنتهي من أفعالك تلك؟!، أتريد الله أن يعفو عنك؟! واهم أنت.. ألم تدري أن خيوط اللعبة بتوبتك قد تنقطع؟!.. ألا تعلم أن رفضك السجود لي كان مقدراً؟!.. ألم تسألهم هناك وأجابوك بأن إيمانك يعني فشل تدينهم؟!.. إبليس كُتب عليك أن تكون إبليساً حتى وإن لم ترضى بذلك، لا تفخر بنفسك لأفعال البشر، فالبشر، والملائكة، والرسل، والجن، والشمس، والقمر، الجميع يا شيطان مقدراً لهم سيرهم، وهم جزء من أطراف اللعبة، والشر ركن أصيل فيها.. وأنت الشر.. لقد صعبت علي يا شيطان، ولكنك لك دورك ولي دوري، والجميع لهم أدوارهم، هيا فق من غيبوبتك تلك، واحرق دفاترك، إيمانك جزء منه تكفيرهم، وكفرهم يكمل خطوط اللعبة، فلا تتركهم يؤمنون، هيا انزل لهم لتكمل أعمالك.
انتهى (آدم) مما قال، واختفى كما ظهر، وظهر من بعد اختفائه الكثير من الملائكة الغلاظ الذين أمسكوا بإبليس وجروه جراً خارج العرش، وظل هو يصرخ ويطالبه بالتوبة، والعرش لا ينطق، كاد أن يجن، صوته كان يهز السموات هزاً ، والعرش مازال في صمته المطبق حتى تم طرد إبليس إلى مكانه المحتوم، وعادت الملائكة، والأنبياء، والرسل يتراقصون فرحاً في سمائهم العامرة.
تمت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب


.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل




.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال