الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث بين القبور

نضال الصالح

2012 / 7 / 21
الادب والفن


كانت ليلة خريفية، ولكنها أقرب إلى الليالي الربيعية المتأخرة أو الصيفية ألمبكرة، مقمرة و دافئة. كان الهدوء يعم القرية إلا من عواء بعض الكلاب ، يسمع بين الحين والآخر، وصراخ ضيوف مقهى ألقرية ، الذين كانوا بشاهدون مباراة الهوكي على شاشة التلفاز العريضة المعلقة على حائط المقهى.
فتحت بوابة مقبرة البلدة الحديدية ودخلت. كانت ليلة عيد عند المسيحيين يقال له عيد ألأرواح ، يقوم الناس فيه بزيارة قبور موتاهم وتنظيفها ونثر الزهور فوقها ووضع أكاليل الزهور على شواهدها وزرع كافة أنواع الزهور والورود حولها حتى تصبح المقبرة كأنها حديقة غناء, زاهية الألوان, تفوح منها رائحة الزهور والورود المختلفة الأنواع تمتزج في عطر ينشي النفس وينعش الروح. وفي المساء يقوم الأهالي بإشعال الشموع حول القبور حتى تبدو المقبرة كأنها مزينة بنجوم سماوية متلألئة يعطي للمقبرة جوا ساحرا خلابا يسمو بالنفس والروح. كانت المقبرة شبه خالية إلا من بعض بقايا الزوار الذين أخذوا بدورهم يغادرون تباعا.
توجهت نحو قبر زوجتي، وقفت أمامه وقرأت الفاتحة على روح الفقيدة ثم جلست على حافة القبر وأغمضت عيني ورحت أحدث زوجتي كما لو كانت إلى جانبي. حدثتها عن الأولاد والأحفاد وعن كل واردة وشاردة والمستجدات في حياتنا، ثم أغمضت عيني وحلقت في مكنون نفسي حتى شعرت أنني قد خرجت من جسدي وأصبحت روحا تسبح في المكان والزمان.
أفقت من غيبوبتي الروحية على صوت رجل يقف أمامي يحدثني كلاما لم أفهمه. كان جارا لنا، يسألني إن كان بإمكانه الجلوس على حافة القبر المقابل لقبر زوجتي. قلت له أنه لا مانع لدي إن كان صاحب القبر يسمح بذلك . ضحك جاري وقال: لا أظن بأنه يمانع، وجلس، جلسنا لحظة يحدق بعضنا ببعض بصمت. ثم قال لي هامسا: سمعتك تتحدث مع زوجتك، فهل تعتقد بأنها تسمعك ؟ قلت له : لا أدري ولكنني أشعر بالراحة حين أتحدث إليها. صمت لحظة ثم قال: أنا أيضا أحدث زوجتي حين أزور قبرها، وكل ما أطلبه منها ، أن تأخذني إليها. قلت له: مالك مستعجل للرحيل إلى العالم الآخر؟ أجاب وهو ذو الثمانين من العمر بأنه مشتاق لزوجته ومنذ رحيلها لم يعد لدية أي شيء يحثه على البقاء، فما عاد يشعر بلذة طعام ولا شراب ولا عاد يشعر بطعم الحياة ولا بفرحها. قلت له: حولك بناتك وأبناءك وأحفادك،، وهم بهجة للقلب وفرحة للروح. نظر إلي بعيون حزينة وقال: كل منهم يعيش لنفسه ومشاكله ولا وقت عندهم لي، وإنني أشعر أحيانا بأنني قد أصبحت عالة عليهم ويتمنون لو أنني رحلت عنهم وإلى الأبد.
شعرت بالحزن لقوله ولم يكن لدي ما أقوله له لكي أعزيه فبقيت صامتا. سألني بعد فترة إن كان ديننا يؤمن بالقيامة و يوم الحساب، فأجبته بالإيجاب. قال: هل تعتقد بأننا بعد مماتنا سنلتقي بأحبائنا الذين سبقونا إلى العالم الآخر؟ قلت له: نعم، ولكن سنلتقي روحيا وليس جسديا. نظر إلي دلالة على عدم الفهم ،فحاولت أن أشرح له فكرتي فلم أنجح. عم الصمت بيننا ولم نعد نسمع إلا أصوات أنفاسنا، وعز علي أنني لم أستطع أن أجيبه على تساؤله فقلت له. لقد أخبرتني قبل قليل أنك تحدث زوجتك عندما تزور قبرها، إذن فأنت تشعر بها وكأنها بجانبك.. هز رأسه موافقا على كلامي فتابعت وقلت: هذا هو يا صديقي اللقاء الروحي وهكذا، حسب ما أعتقد ، أننا سنلتقي مع أحباءنا الذين رحلوا قبلنا.
لا أدري إن كان كلامي قد أقنع جاري ولكنه صمت لفترة ثم عاد وسألني: هل لك أن تشرح لي كيف سنقوم من قبورنا وفي أي حالة، وهل سنقوم كما متنا، أعني في نفس العمر والشكل الذي متنا فيه؟ ضحكت وقلت: لا أدري فهذا سؤال يصعب الجواب عليه وأنا... ولكنه قاطعني قائلا: إن كنت سأقوم عجوزا كما مت فلا أريد أن أقوم وأفضل أن أظل ميتا في قبري. ضحكت وقلت له: معك حق في ذلك ولكن الأمر في يد الخالق وليس في يدنا.
رحت بدوري أفكر في أجوبة لأسئلة جاري ولكنني لم أجد جوابا يقنعني وراحت الأسئلة تتوارد سؤالا بعد سؤال عن فلسفة الموت والحياة وما العبرة منها وهل علينا أن نبحث عن العبرة في الموت أم في الحياة. شعر جاري بغيابي الذهني فقال: أرجوك سامحني إن كنت قد قطعت عليك هدوءك وأزعجتك بأسئلتي، ولكنني قرأت كتبك ومعظم مقالاتك وما فيها من آراء جريئة ، مما شجعني على سؤالك.، وأنا فعلا في حيرة من أمري، ففي كل مساء أدعو الله أن يميتني في منامي لكي ألتحق بزوجتي، ولكن ماذا لو مت ولم ألتق بها؟ ماذا لو أن الموت هو نهاية لكل شيء وأنه لا قيامة بعد الموت ولا لقاء مع أحبائنا الذين سبقونا وماتوا قبلنا ؟ هذا يرعبني يا صديقي ويقض علي منامي.
فاجأني حديث جاري وصدمتني أسئلته التي لا بد أنها تدور في عقول الكثيرين ولا يجدون جوابا مقنعا لها، وتحيرت بماذا أجيبه وهو في شوق لمعرفة الأجوبة على تساؤلاته. لقد وثق في معرفتي وفي قدراتي الإجابة على أسئلته أكثر من طاقتها على الإجابة على مثل هذه الأسئلة, نظرت إليه فوجدته متلهفا كي يسمع مني إجابات تقنعه وتريحه. بعد فترة من الصمت توجهت إليه قائلا: إنك تطرح علي يا صديقي أسئلة صعبة يحاول الإنسان أن يجيب عليها منذ وعيه بوجوده على سطح هذه الأرض، ولقد حاول الفلاسفة ورجال الدين الإجابة على هذه الأسئلة وخرجوا بعدد من المعتقدات والفلسفات ولكنها لم تشبع رغبة المتسائلين. الأديان السماوية يا صديقي ومنها ديانتكم وديننا تؤمن بالقيامة والحساب ومعه العقاب والثواب . العقاب في نار جهنم والحساب في نعيم الجنة. ولكن الأديان يا صديقي لم تعطنا تفصيلا ولا أجوبة لأسئلتك.. فهي لم تحدد لنا في أي شكل وفي أي عمر ستكون قيامة الإنسان وإن كنا سنلتقي بأحبائنا الذين رحلوا قبلنا ، وهل وهل، مئات الأسئلة بقيت من دون جواب. الحكمة الشرقية ومنها الصينية تؤمن بأن الجسد ليس إلا صندوقا لحفظ الروح وعند الموت تخرج الروح لتحل في صندوق آخر وهكذا يستمر استنساخ الأرواح إلى ما لا نهاية، وهي لا تؤمن بالقيامة ولا بالعقاب أو الثواب بعدها وإنما أثناء عملية الإستنساخ فإما أن ترقى الروح وتحل في جسد راق أو تنحط فتحل في جسد وضيع.
شعرت أنني قد أثقلت على جاري، فلقد لاحظت علامات التعب على وجهه فآثرت الصمت. قام من مكانه ثم ودعني ورحل بصمت. كانت المقبرة قد خليت من الزوار وبقيت فيها وحيدا مع أفكاري. لا أدري كم بقيت جالسا هناك وحيدا مع موتى لا أعلم إن هم شعروا بوجودي. كان الهدوء قد سيطر سيطرة تامة على المقبرة وعلى القرية، وحتى عواء الكلاب لم يعد يسمع، لعل الكلاب نامت أو أنها هي الأخرى تاهت مع أفكارها. كانت الشموع لا تزال مشتعلة كنجوم سماوية سقطت على الأرض، وكانت رائحة الزهور تعبئ المكان حتى عبقت بي وأصبحت جزءا من جسدي.
قمت، ودعت زوجتي وتوجهت نحو بوابة المقبرة. وقفت على عتبة البوابة، رجل في الداخل وأخرى في الخارج، جزء مني في المقبرة وجزء مني خارجا. بقيت واقفا كذلك مدة طويلا محتارا بين عالمين، واحترت هل أبكي على هذا أم على ذك ، وهل أبقى في هذا أم في ذك، ثم خرجت من المقبرة وأغلقت الباب خلفي وبكيت على الإثنين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا