الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تمرّد الكمانُ فغنّى القلبُ ثملا

خيري حمدان

2012 / 8 / 12
الادب والفن


لم يسبق لها يومًا أن نسيت اسمها، كانت قد تعودت لعقدين من الزمان أن تُدْعى أم وليد، ابنها الذي عرف الحياة قبل عشرين عامًا، والذي بدوره لم يكن يتوقع بأنّه السبب في حرمانها من هويتها! هرعت إلى حقيبتها، أخرجت من محفظتها بطاقتها الشخصية وقرأت اسمها، إلهام زوجة..! رمت بالمحفظة بعيدًا وسالت على خديها دمع ساخن لم تحاول كبحه، لأن الخيارات أمامها محدودة، فهي إمّا إلهام (مرفق اسم الزوج) أو أم لابنها الحبيب وليد (اسم متصل على الرجولة). "من أنا؟" أصبح هذا الهاجس مقلق للغاية، بعد أن داهمها العمر، لم تكن تشعر بالكبر أو بالشيخوخة وفقدان الأنوثة، بل كانت تشعر بأن أنوثتها وحضورها الفيزيائي مصادر. عادت بالذاكرة إلى ذاتها الحرّة نسبيًا قبل أن تشهد دخول رجل إلى حضيرتها ليمتلكها خلال دقائق، وليعيد الكرّة كلّ ليلة دون أن يغسل رائحة فمه وبقايا الطعام من فمه بفرشاة الأسنان. تذكرت بأنّ أصدقاءه القائمين على راحته والمريدين له اشتروا له فرشاة أسنان وأنبوب صغير للاستعمال لمرّة واحدة لغسل الأسنان في ليلة الدخلة. بهذا انتهت طقوس التعطّر والاستحمام للاستمتاع بتوحّد الجسدين في فراش الزوجية. بالرغم من كلّ هذه المعاناة الذاتية، إلا أنها تعوّدت باسم ما يسمّى بالسعادة واستقرار الأسرة. لكن هذا الرجل المتواجد تحت سقف واحد معها، بدأ يتغيّر مؤخرًا، حلق شواربه، دهن شعره الكستنائي بالأسود، وبدا متصابيًا مضحكًا، لكنّها المقدمة لغزوة أخرى، وقريبًا سيذهب لطلب يد امرأة أخرى. شابة، أرملة شابة، عانس شبه شابة. المهم الحصول على المزيد من المتعة باسم الخيارات التي يسمح بها الدين.
من المستحيل أن تغيّر هذه المعادلة التي أصبحت جزء من الثقافة الشرقية، وقد تشعر ببعض الاستقلال والسكينة إذا ما بدأ هذا الزوج بالتغيّب عن غرفة نومها لقضاء حاجات ومتطلبات الأخرى. كانت تشعر بوحدة قاسية بعد زواج ابنتها، كان زوج ابنتها يمنعها من الحضور لطرفها إلا في المناسبات وبإذن وتخطيط مسبق، أمّا ابنها فكان غارقًا بمتعابه الشخصية الخاصة، كان يبحث عن عمل، وكان طيبًا وما تزال أفكاره مشتتة، وكان أيضًا تائهًا في علاقات عاطفية غير الناضجة، لكن آخر ما كان يفكر به استشارتها، هي إلهام (أمه التي تحمل اسمه أيضًا) بمتاعب قلبه ما زاد في عزلتها.
تذكرت بأن أحد الأسباب التي شجّعت زوجها يومًا ما طلب الاقتران بها هو عزفها الجميل والواعد على الكمان، فقد بدأت رحلتها مع الفن منذ صغرها، وأولى القضايا التي طالب بها سالم بعد مضيّ فترة زمنية قصيرة على زواجهما، هو التخلّي نهائيًا عن الكمان، أو العودة إلى منزل والدها. جاء هذا التهديد بعد مضيّ ما لا يزيد عن العام فقط، وبعد أن أدرك بأنّها حامل. هكذا وجدت نفسها مجبرة على إقالة كمانها بعيدًا عن الأنظار، ولم تدرك بأنّه قد تخلّص من الكمان سرًا إلا مؤخرًا، حين حاولت إخراجه من مكانه في الحزانة، لتعزف شيئًا من مقطوعات الماضي الجميل. لكن لا أثر للكمان! في تلك اللحظة بالذات نسيت اسمها، ولم يكن هناك من بدّ للنظر في بطاقتها لتتذكر بأنّها هي إلهام أو ما تبقّى من تلك الأنثى.
حاولت الاتصال بصديقتها سلوى لكنها همست قائلة بأن زوجها نائم ولا ترغب بإزعاجه، أضافت بأنّها ستتصل بها لاحقًا. شعرت إلهام بأنّها محاصرة، بأنّها تختنق، باتت تعيش في حلقة مفرغة، وكانت تردّد أمام المرآة سؤالها الملحّ "من أنا؟". كيف يمكن استعادة ذاتي وأنا أسيرة نفسي ومنزلي أو سجني؟
- أريد أن أتزوج، وأنت تعرفين أحكام ديننا الحنيف.
- أريد كماني وأنت تعرف إمكانياتي بالعزف على الكمان!
- هذا من سابع المستحيلات.
- إذن نفترق، نفترق، نفترق.
- أنت مجنونة!
- بل إلهام. أنا إلهام وسأعود للعزف على الكمان شئت أن أبيت.
- يا عزيزتي، بدون فضائح، لقد أكل الدهر وشرب على حكاية الكمان.
- ليس بالنسبة لي. أنا عازفة كمان.
- تريدين العودة إلى بيت أبيك؟
- هذا ليس من شأنك، أذهب حيث أريد، سأعمل وسأشتري الكمان وسأعزف عند مفترق الطرقات مقطوعات إلهام القديمة التي نسيتها يا أنت!
- هل نسيت اسمي يا مجنونة؟
- بل اسمي أنا الذي نسيته. أنت الرجل والحاكم المطلق، لهذا أريد الطلاق، ولا شأن لك بي أين سأذهب وما الذي سأفعله بحياتي الخاصّة! العالم أكبر منك ومن فحولتك.
- لن تحصلين على مؤخر أو مال يا أم وليد!
- أنا إلهام قبل أن اكون أم وليد، ولا أريد مالك.
شعر سالم بالإهانة، كيف يمكن لامرأة أن تتحدى رجولته بهذه الوقاحة، لطمها على وجهها، صاحت مجددًا "أريد كمان" ضربها مرّة أخرى"أريد الطلاق". وهكذا حتى سال الدم من فمها ووجهها. تعب من الضرب، تعب من جرأتها وعنادها، وأدرك بأنّ الأنوثة ليست بالضرورة ضعفًا. لم يكن أمامه سوى إطلاق سراحها أو قتلها. لجأ للحلّ الأول ليس ضعفًا أو خوفًا من محاكمة، لكنّه كان على وشك الزواج، وكان يرغب بالاستمتاع بأخرى وإبعاد مصدر الهمّ والتمرّد غير المتوقّع في بيته.
لم تشعر بالألم حين بدأت ضربات كفّه الثقيلة تهطل فوق وجهها وجسدها على الفور، شعرت بذلك بعد مضيّ فترة من الزمن. لكنّها سرعان ما شفيت من آلامها الفيزيائية، كان عليها أن تستعيد قواها والبحث عن عمل بأسرع وقت ممكن. لم تكن هذه المهمّة سهلة بالطبع، لكنّ ابنها وليد طأنه ظهر من العدم، كان قد أدرك المعاناة التي أرهقت روحها. لم يفعل وليد الكثير سوى العثور على عمل في مخيطة، لم ينسَ كذلك عيد ميلادها الثامن والثلاثين، قدّم لها هدّية متواضعة، استمع مطولا لصوت الكمان الذي نطق بين يديها. عزفت لساعات طويلة، في الأثناء وجد الدمعُ الطريقَ دون عناء إلى عينيها، وكان قلبها يغنّي ويغنّي ما طاب له الغناء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة