الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وقفات نضاليّة خارح الإتّجار ومنطق الغنيمة السياسيّة

فتحي الحبوبي

2012 / 8 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


وقفات نضاليّة خارج منطق الإتّجار والغنيمة السياسيّة


»إنني أحسّ على وجهي بألم كل صفعة تُوجّه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم فذاك هو وطني«
أرنستو "تشي" غيفارا

غالبا ما يحيلنا مفهوم النضال، إلى الشعور بشحنات عاطفيّة جيّاشة، توقظ فينا الوعي بلذّة التضحية،لا فقط من أجل القيم الجميلة، بل وكذلك – ولعلّه الأهم- من أجل الآخر. وكثيرا ما يرافق هذا الشعور النبيل إستحضارنا لذلك الزمن الجميل الذي ناضل فيه الإنسان/نظيف العقل واليدين، ضدّ كل من يمثّل قوى الإستعمار والإمبرياليّة والصهيونيّة، وضدّ من يمثّل أي شكل من أشكال الإستبداد والتزمّت و التخلّف و الرجعيّة في مختلف وجوهها الكريهة وتمظهراتها البشعة، بما تعنيه من تحجّر فكري و تسلّط، وتوهّم ساذج لامتلاك الحقيقة المطلقة، ومحاولة الدفع بالمجتمع إلى الرجوع إلى بعض إشراقات ظلمات الماضي السحيق والوقوف عندها صاغرين، دون محاولة تجاوزها قصد المشاركة بفعاليّة في حركة التقدّم بالإنسانيّة إلى ما يوفّر لها أسباب الرفاه والرّاحة المنشودة.
والنضال، أعزّك الله، نضالات عديدة، تختلف باختلاف نوعيّة النضال، الذي قد يكون نضالا سياسيّا، من مثل نضال المهاتما غاندي ونيلسون مانديلّا وتشي غيفارا، أو نضالا نقابيّا من مثل نضال الزعيم التونسي فرحات حشّاد الذي إغتالته يد الغدر الإستعماريّة أو نضالا حقوقيّا مثل نضال هيثم المالح شيخ الحقوقيين العرب. أمّا النضال الديني فقد يكون دعويّا خالصا، من مثل ما قام به الشيخ متولّي الشعراوي ويقوم به اليوم الشيخ القرضاوي أو جهاديّا من مثل ما قام به الشيخ أسامة بن لادن، ويقوم به اليوم أيمن الظواهري وأتباعه والسلفيين الجهاديين عامّة.وهو أقرب إلى العبث الذي يهدم ، منه إلى النضال الذي يبني. لا بل قد يكون النضال فكريّا وثقافيّا كذلك، من مثل نضال طه حسين ، الطاهر الحدّاد، فرج فودة ،ناصر حامد أبو زيد، محمّد باقر الصدر ومحمّد أركون أو محمّد الطالبي ويوسف الصدّيق.
وفي كل الحالات فإنّ النضال لا يخلو من معاناة ومجاهدة في مواجهة قوى الجمود السياسي والديني والفكري والثقافي التي لا تركن إّلّا إلى التصحّر والقحط، ولا تستسهل إلّا الجلوس على الربوة، ولا تصدر إلا عن أفراد لم يفلحوا في تحرير ذواتهم قبل أن يستحقّوا شرف تحرير الآخرين. وهو العصيّ عليهم ولو حاولوا وكرّروا المحاولة.
ولعلّي أكتفي لضيق المجال، بعرض ثلاث وقفات نضاليّة مضيئة في المجال السياسي فحسب، تجاوزت المحليّة وأخذت بعدا عالميّا لصدقيّتها وعدم تعامل أصحابها، بعد نجاح تجربة كل منهم، بمنطق الإتّجار والهرولة إلى الغنيمة السياسيّة بما تعنيه من إغتصاب لحقوق الآخرين .
قطعا،أنّ من أبرز المناضلين السياسيين، الذين ظلّوا في الذاكرة الجماعيّة لكافة الشعوب المحبّة للسلام، نذكر، بكل فخر واعتزاز ، المهاتما غاندي، ذلك الزعيم السياسي و الروحي للهند خلال النصف الأوّل من القرن العشرين. حيث أنّه كان ، وهو المحامي المغتربً في جنوب أفريقيا، رائداً في مقاومة الاستبداد البريطاني ومناهضة سياسة التفرقة العنصرية، من خلال العصيان المدني الشامل، الذي يعتمد اللاعنف الكامل. وهو ما تمّ في مسيرة ملح داندي عام 1930، و كانت مسافتها 400 كيلومترا ، احتجاجا على فرض بريطانيا ضريبة على الملح الهندي . وقد أدّت هذه المقاومة النضاليّة ،السلميّة والشرسة في آن، التي كلّفت غاندي عدّة سنوات من السجن في كل من جنوب أفريقيا والهند، إلى استقلال الهند بأقل الخسائر الممكنة. وهو ما أستلهمته الحركات التحرّرية و الحقوقية المدنيّة فيما بعد. وهو ما جعله يلقّب بالمهاتما أي الروح العظيمة ، كتشريف له . بل ولقّب كذلك ب (أبو الأمة) .واعتبر يوم عيد ميلاده ، لا فقط ، يوم عطلة وطنيّة، بل وكذلك- وهو الأهم- يوما عالمياً للاعنف الذي يعتبره » أعظم قوّة متوفّرة للبشريّة..إنّها أقوي من أقوي سلاح دمار صنعته براعة الإنسان«
. ولعلّ غاندي كان متاثرا في ذلك بالشاعر الأميركي هنري ديفد ثورو صاحب كتاب "العصيان المدني .لكن، ورغم المواثيق والإتفاقيات الدولية والقوانين الوطنيّة التي تسمح بالتعويض لمن تعرّضوا للظلم والتعذيب والسجن والتشريد فهل تقاضى هذا الرجل العظيم ما يعوّضه عن السجن والتعذيب؟. الجواب قطعا، لا و الف لأ. لماذا؟.لأنّه لو حصل ذلك، لفقد غاندي تاريخه وإشعاعه النضاليين، ولما كان نظيف العقل واليدين كما ننظر إليه بإعجاب اليوم، بل وغدا وفي كل أوان ومكان. لأنّ النضال الحقيقي يصون أهله، من غير السفلة الهجاج، إذا صحّ عكوفهم عليه. ومثلما يقسّم علماء الأصول والتفسير الحديث الى محكم ومتشابه ويقولون أنّ المتشابه، من مثل وصف الجنّة، قد يحتاج الى نظروتأويل، فإنّي أقول أنّ هناك نضال محكم ونضال متشابه قد يدعونا إلى الريبة والتتشكيك في صدقه وصدقيته، ومنطلقاته ودعاويه.
الوقفة النضاليّة الثانية تتعلّق بنضال الزعيم الجنوب إفريقي، الاسطورة الحيّة نيلسون مانديلا، الذي تأثر بشكل لافت بالمهاتما غاندي. ويعتبر اليوم الزعيم الأكثر شعبيّة في العالم. نظرا لنضاله التاريخي المستميت ضد سياسة التمييز العنصري التي مارستها الأقلّية البيضاء من البريطانيبن في جنوب إفريقيا. والتي كانت تكرّس سياسة الفصل العنصري و تنكر، بصلف وصفاقة، الحقوق السياسية والاجتماعيّة والاقتصاديّة للأغلبيّة السوداء. لذلك أضفت عليه قبيلته لقب Madiba أو العظيم المبجّل .
إستلهم مانديلا فلسفته، حول المقاومة السلميّة ونبذ العنف ومواجهة الشدائد بعزّة نفس وشموخ نادرين، من تجربة المهاتما غاندي الناجحة .فتزعّم حملات المعارضة والمقاومة التي بدأت سلميّة ثمّ ما لبثت أن أصبحت مسلّحة، في تحدّ واضح لهذه السياسة الخرقاء. لا سيما بعد إطلاق النّار على متظاهرين عزّل. وكان من نتائج ذلك أن حكم عليه، بتهمة التخطيط لعمل مسلّح والخيانة العظمى، بالسجن والأشغال الشاقة مدى الحياة، ليقضي في ظروف صعبة و في زنزانة منفردة مدّة 28 سنة، رفض أثناءها بكبرياء عرضا بإطلاق السراح مقابل إعلان وقف المقاومة المسلّحة. ثم أصبح بعد ذلك رئيسا لجنوب إفريقيا ومهندسا للانتقال من حكم الأقلية البيضاء إلى حكم الأغلبيّة السوداء.وكان بإمكانه التمسّك بالحكم كتعويض له على سنوات الجمر التي عاشها مسلوبا من حرّيته وفاقدا لعمله كمحام، لكنّه لم يكن ديدنه التعويض، لانّه كان يناضل من أجل مبادىء ومن أجل شعب. بل لم يكن يناضل من أجل مقابل يقبضه. لذلك بقي رمزا للنضال الحقّ، للنضال الصادق، للنضال دون مقابل. وأي مقابل يمكن أن يوازي حبّ الجماهير له في أقاصي الأرض وأدانيها.
أمّا الوقفة النضاليّة الثالثة فبطلها من عائلة برجوازية عريقة،وهو
الثائر الأرجنتيني الكوبي
"تشي" غيفارا(Che Guevara) . أي الرفيق غيفارا، الذي يعتبر اليوم، وبلا منازع ، رغم أنّه كان في الأصل طبيبا وكاتبا، أشهر ثوري معاصر ضد الاستعمار الجديد والإمبريالية و ضد الرأسماليّة الإحتكاريّة التي يصفها بأنّها مسابقة "بين الذئاب" . حيث أنّه برهن عن مهارة نادرة في زعامة حرب العصابات والقيادة العسكريّة. ممّا جعل منه بالنتيجة، الشخصيّة المحوريّة في الثورة الكوبيّة على النظام الرجعي للديكتاتور فولجنسيو باتيستا الذي أطاحت به الثورة رغم الدعم العسكري الذي قدّمته له الولايات الإمبرياليّة المتّحدة. فلم يجد حلّا أمامه سوى الفرار إلى الجمهورية الدومينيكية بشكل درامي ومهين، في سيناريو مشابه لفرار المخلوع بن علي إلى السعوديّة.
علما وأنّ الدكتور تشي غيفارا كان قد توجّه إلى الساحة السياسية بحثا عن الكفاح المسلّح، بعد أن ترك مهنة الطب من أجل»مساعدة هؤلاء الناس« كما قال في كتابه » يوميّات درّاجة ناريّة« الذي يروي فيه رحلته المديدة إلى دول أمريكا اللّاتينيّة, وكان يقصد بذلك، الفقراء المعدمين الذين عايش فقرهم وحرمانهم وإصابة بعضهم بأمراض خطيرة. و قد لاحظ بتأثّر كبير بؤس الفلاحين الهنود في كل من بوليفيا وباناما والبيرو وغيرها من بلدان أمريكا اللاتيتيّة. كما تأكّد من استغلال الشركات الأمريكية بالشيلي لعمال مناجم النحاس هناك والذين كان يباشرهم كطبيب وقد أثّر ذلك أيما تأثير في نفسيّة تشي ليصبح أكثر وعيا بالتفاوت الاجتماعي وبالظلم المستفحل في أمريكا أللاتينية. حيث شعر بالذهول لشدّة فقر بعض المناطق الريفيّة النائية التي تجعل السكان يضطرّون إلى »قبول فقدان الابن على أنّه حادث غير مهمّ« كما جاء في الكتاب المشار إليه. وهو ما جعله يزداد أقتناعا بالواقع "الرهيب" للرأسمالية "الإخطبوط ويزداد رغبة في الانتقام لهؤلاء المعدمين، من خلال الإلتحاق بصفوف الثوريين،
مؤكّدأ أنه لن يرتاح حتى »يتم التغلّب على هذه الأخطبوطات«، كما جاء في قسمه على قبر جوزيف ستالين. ومن هنا قام بتجربته النضالية الأولى في غواتيمالا، حيث شارك في مقاومة الانقلاب العسكري الذي دبّرته المخابرات الأمريكيّة، والذي انهى الإصلاحات الزراعية الثوريّة التي قامت بها حكومة أربنز الديمقراطية والتي نالت إستحسان تشي غفارا في حينها. إلّا انّ الاستخبارات المركزّيّة الأمريكيّة صمّمت على اغتياله هناك لكنّه نجا منها مثلما نجا من محاولتين أخريين فاشلتين لاغتياله من قبل المنفيين الكوبيين بعد نجاح الثورة الكوبيّة.
وانتقل تشي من غواتيمالا إلى المكسيك، أين تعرّف على فيدال كاسترو، وأين سجن معه صحبة مجموعة متمرّدين كوبيين. ثم ّ توفّق مع هؤلاء لإنجاح الثورة الكوبيّة . ليصبح بعد ذلك محافظا للبنك المركزي في الحكومة الثورية الوليدة ثم وزيرا للصناعة. وكانت له طاقة عمل جبّارة ، حيث عرف عنه العمل لمدّة 36 ساعة متواصله وعقده لاجتماعات بعد منتصف الليل دون تناول الطعام لعدة أيام أحيانا . لكنّه، وهو القائل » إن الثورة تتجمد وإن الثوار ينتابهم الصقيع حين يجلسون فوق الكراسي، وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمدة داخلي« فقد فضّل الإستقالة من جميع مناصبه في الحكومة والحزب ومن رتبة القائد. كما تخلّى عن الجنسيّة الكوبية الفخرية . مكرّسا نفسه للثورة في جميع أنحاء العالم. بدءا بقيادة حملات تمرّد في جمهورية الكونغو ، ووصولا إلى بوليفيا حيث اغتاله الجيش البوليفي ومستشارو وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بعد أسره، وبعد أن عانى رجال غيفارا من سوء التغذية وشحّ في المياه والمشي حفاة. بل عانوا كذلك من البرد الشديد، حيث كانوا يمتلكون ستة بطانيات فقط ل 22 رجلاً.
لقد سخّر تشي غيفارا الذي وصفه جان بول سارتر بأنّه »ليس فقط مثقف ولكنه أيضا أكمل إنسان في عصرنا. « كامل حياته للثورة حتّى انّه لحظات قبل إعدامه سئل عمّا إذا كان يفكّر في حياته والخلود. فأجاب : »لا أنا أفكر في خلود الثورة « وفعلا لم يفكّر يوما في الحوافز الماديّة، بدليل إستقالته من جميع المناصب، ولا بمنطق الغنيمة السياسيّة التي هرول إليها مناضلو الإسلام السياسي في تونس ليعوّضوا عن سنوات نضالهم فيما يتعلّق بمعتقدهم وليس فيما يتعلّق بمصلحة وطنهم الذي يريدون اليوم تفقيره بإعدادهم لمشروع قانون للتعويض عن سنوات القبض عن الجمر التي عاشوها. فأين هم من المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا وتشي غيفارا ؟ !!! واين هم من النضال الخالص لوجه اللّه الذي قام به تشي غيفارا، ذلك الشيوعي الماركسي اللينيني المعتبر ملحدا وكفره بواح؟ !!!
المهندس فتحي الحبّوبي









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ما زلنا بعيد عن أولئك
سامي بن بلعيد ( 2012 / 8 / 17 - 09:05 )
فرق شاسع وكبير بيننا وبين أولئك العظماء الذين كانوا ينظرون الى الحياة بعيون الانسانية وعيون الحرية الجامعة
ويا ليت تلاميذهم يتعلمون منهم ولو الشيئ البسيط

عقولنا لا تنتج معرفة فهي مخصصة لانتاج مدائن التخلُّف

اخر الافلام

.. حماس تواصلت مع دولتين على الأقل بالمنطقة حول انتقال قادتها ا


.. وسائل إعلام أميركية ترجح قيام إسرائيل بقصف -قاعدة كالسو- الت




.. من يقف خلف انفجار قاعدة كالسو العسكرية في بابل؟


.. إسرائيل والولايات المتحدة تنفيان أي علاقة لهما بانفجار بابل




.. مراسل العربية: غارة إسرائيلية على عيتا الشعب جنوبي لبنان