الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دون حذاء أفضل

حماده زيدان

2012 / 8 / 18
الادب والفن


كل يوم استيقظ صباحاً السادسة أو السابعة لا يهم ... البس ملابسي على عجل , أفطر لو كان هناك طعام , أهرول على درجات السلم ليعلن رنين صوت حذائي عن وجودي , أخرج من باب البناية القديم أنظر إلى الشارع , لا أعلم ما سبب رغبتي في البكاء الآن , أتمالك نفسي "كيف لرجل أن يبكي"
هكذا حدثتني نفسي , تركت أقدامي تسير نحو الشارع , أعتقد أنها أصبحت تعلم جيداً كيف تسير , أصل إلى السيارة الأجرة , أركبها برتابة وملل , أضع يدي في جيبي لأخرج الـ "50 قرشاًًًًً" أعطيها للجالس أمامي , يعطيها بدوره للجالس أمامه , حتى تصل في النهاية للسائق فيضعها أمامه بعدم اهتمام , أصل للمترو , ينزلني السلم الكهربائي الذي يجعلني أتذكر أساطير الموتى الأحياء عندما أنظر لمن حولي وأشعر وقتها بأنني أصبحت منهم , أفيق من هلاوسي على صوت القطار الذي يزأر كما لو كان أسداً قادماً لالتهامنا , أدخل جوف القطار مستسلماً لتدافع الناس التي لا تنتهي .
"لا تشاجر حتى الذهاب للمقابر"
هذا هو قانوني في الحياة , أصل إلى العمل , أنكب على الأوراق أكتب , وأكتب , وأكتب , حتى ينتهي اليوم , وتدور عجلة اليوم مرة أخرى في دورتها وينتهي اليوم.
هكذا أنا منذ شهور , الملل ... شعور أصابني فجأة , وجدتني أعيد نفسي كل يوم وبنفس الطريقة , شعرت بشعور غريب يدفعني للتغيير .
"ولكن ماذا أغير"
- وهل أنا قادر على التغيير؟!
هكذا وجدت نفسي تتحداني , ووجدتني في صراع ما بين رغبتي في التغيير , ونفسي التي ترفضه .
"ها ها ها"
ضحكت
"كيف تتحداني تلك النفس وهي من صنعي"
, وجدت الناس تنظر إلي متحيرة , تذكرت الآن أنني في محطة المترو , ولكن
- هل هذا يهم ؟!
قلتها بصوتٍ عالً ولكن تلك المرة متعمداً , جاء القطار , توقف أمامي , تدافعت الناس للركوب , وقفت في مكاني لم أتحرك ,
- تحرك , سيفوتك ميعاد العمل , الثامنة الآن , هيا تحرك .
قالتها لي نفسي , وانتظرت أن أتحرك , ولكني لن أتحرك
- طظ في الشغل .
قلتها بصوتٍ مرتفع أيضاً , تحرك القطار أخذاً معه جموع البشر , لتمتلئ المحطة بدورها بجموع أخرى , وأنا ... مازالت واقفاً , ومازال صراعي يشتعل , مازالت هي تلح , و أنا أرفض , ولكني عندما نظرت إلى الساعة ووجدتها قاربت التاسعة , فضعفت .
"الغياب يساوي خصماً والخصم يساوى فلوساً والفلوس تعني الحياة "
هذا هو قانوني الثاني , زاحمت مع من زاحموا , واقتحمت القطار , رائحة العرق مختلطة بروائح "البارفانات" ما بين الغالية والرخيصة وقفت وانتظرت دوري في الحركة المصاحبة لحركات الناس , شردت بذهني لحظات , أفقت على صوت أعلمه جيداً جاء صارخاً :
- ها قد انتصرت عليك يا عبيط .
نظرت حولي فلم أجد أحداً , الناس من حولي ينظرون إلي بعضهم مستغربين , مستهجنين , وقف القطار ونزلت , كنت أهرول حتى أصل إلى العمل قبل أن يرفع الدفتر .
- تجري الآن !! أين جرأتك ؟ , أين تحديك معي لقد انتصرت عليك لأنك جبان .
وقفت في منتصف الطريق , وقلت مستهزئا :
- لن أذهب إلى العمل اليوم , ولن تنتصري بعد اليوم , أيتها النفس القبيحة .
وقفت متحيراً لدقائق , وبعدها أخذت قراري بعدم الذهاب , الهاتف لا يكف عن الرنين , نظرت في الهاتف , وجدته رقم العمل
- أها لقد أتتني فرصتي للتغيير على طبقٍ من ذهب .
أغلقت الهاتف , ومشيت متبختراً حتى وصلت لاتجاهي في محطة المترو , ركبت القطار , القطار رائق , وصلت للمحطة ونزلت , لا أعلم هل أنا مبسوط مما فعلت أم نادم , لم تعد تفرق كثيراً .
"هذا الإنسان مرفوع مؤقتاً من الخدمة"
كانت رسالتي التي بعثتها لكل الموجودين على شريحة هاتفي قبل أن أغلقه , وصلت إلى غرفتي التي لم أعد أطيقها , هذا السرير لم يتحرك منذ شهور , وتلك المرآة القديمة المشروخة تقف على الحائط وتنظر إلي متحدية , ضربتها بقبضة يدي فانكسرت وتبعثر فتاتها على الأرض , سريري يتحداني , يأخذ حيزاً كبيراً من الغرفة وأنا أكرهه وأكره هيئته العجوز , الدماء تدفق من يدي , لا يهم , هجمت على السرير , وبسرعة فككته , الغرفة أصبح التهريج سيدها , تعبت من كل ما فعلت , وقررت النوم , نمت , وانتهى يومي الأول دون عمل , دون روتين , دون إفادة , ولكن هل يهم ؟! ,
"لا لا , لا يهم"
هكذا قلتها لنفسي , أيام متعددة مرت بعدها , وكان نظام حياتي "لا نظام" ما أفعله في يوم لا أفعله في اليوم الذي يليه , حتى كان ذلك اليوم الذي استيقظت فيه من نومي كانت السادسة , كرهت صوت الحذاء فنزلت من غيره , سألت صاحبة محل الفاكهة عن بعض الفواكه لكي أسد جوعي , لم تجيبني ولكنني رأيت في عينها نظرة خوف , سألتها مرة ثانية لم تجيبني , مددت يدي وأخذت بعض البرتقال , جلست القرفصاء وبدأت في التهام فصوص البرتقال , "الغريبة أن الناس تمر أمامي دون أي اهتمام بي!!" تركت البرتقال على الأرض , قمت مفزوعاً , وصرخت قائلاً :
- لماذا لا تتكلمون معي ؟ , هل ترونني ؟ , أنا أكلمكم , فلماذا لا تتكلمون ؟! .
قلت ما قلت , وانتظرت أن أجد إجابة فلم يحدث , كنت أصرخ بأعلى صوتي , ولكن أين صوتي , أصبحت لا أستمع إليه , أصبح صوتي لا شيء , أصبحت لا أسمع إلا ما بداخلي , صرخت , وصرخت , وصرخت , ولكني لم أسمع شيء , جريت إلى المنزل وصعدت السلم تتخبطني الحوائط , جلست أيام لم أعدها , جوعي اشتد , لبست ملابسي القديمة , نظرت إلى قدمي وجدتها قذرة , تذكرت أني لم ألبس الحذاء لأيام , فلبسته , ونزلت إلى الشارع , جذبني الحنين لمحطة المترو , حاولت أن أوقف سيارة , ولكن مازال تجاهل الناس لي قائماً , فقررت أن أمشي له , مشيت كثيراً , وتعبت كثيراً , حتى وصلت إلى المحطة , بحثت عن الهاتف في جيبي حتى وجدته , فتحت الهاتف , هناك أرقام كثيرة أود أن أطلبها .
- ألو ... ألو ... ألو .
أسمع من يكلمني ولكنه لا يسمعني , أخذت هاتفي , وجريت نحو المحطة , دخلتها , لا أعلم أي الاتجاهات أذهب , ولكن هل تفرق الآن الاتجاهات , عبرت الماكينة الالكترونية , "لم يعترضني أحد" , وقفت منتظراً القطار , أكلم هذا لا يرد , أشعر بأن هناك شيئاً ما يكتفني , ولكن لا يهم , لا يهم , انتظرت القطار , ولكن لماذا أنتظره !! , أنا لن أذهب لمكان معين , تخلصت مما يكتفني , ورأيته قادم , كل الناس أنكرت وجودي , ولم يعد أمامي غيرك , اقتحمت زحام الناس , وانطلقت أقدامي مسرعة نحو هدفها , قفزت من على الرصيف إلى القضبان , لحظات بعدها وانتهى كل شيء .

***

- لقد قتل نفسه المجنون , كان حادثاً مروع , ظل الشاب يصرخ "هل تسمعوني , هل تسمعوني" كنا نرد عليه ولكنه كان في الدنيا غير الدنيا , ظل يصرخ هكذا وعندما اقترب القطار ضرب ما يحيطونه , كان كالوحش لم يستطيع أحد أن يوقفه , ضربهم , وقفز على القضبان حتى أصبح أمامنا أشلاء .
- هل لديك أقوال أخرى .
- لا والله على ما أقول شهيد .
"جزء من تحقيقات النيابة"
تمت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا