الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سرد قصصي قصير بعنوان -أربعون جلدة-

طه جعفر الخليفة

2012 / 9 / 13
الادب والفن


أربعون جلدة


عاشت بيننا كواحدة منا، لكنتها المصرية و حمرتها لم تمنعا أي واحد من سكان الحي من إعتبارها عمة أو خالة علي حسب ما تتطلب ضرورات اللقاء .
ازيك يا خالتي أُم نجيب .......ازيك يا عمتي أُم نجيب
هكذا كان يلقاها سكان الحي بالتحية.نجيب كان بدينا تفوح منه رائحة طعمية باستمرار، أثار زيت التحمير علي جيوب الجلباب الازرق تؤكد رائحة الطعمية. أُم نجيب في عمر أُمي تقريبا، أُمي تقول في تقدير عمرها " في سنة الحرابة كنت فتاة". أُم نجيب متوسطة الطول، لا تلبس التوب السوداني، في يدها وشم أخفت تجاعيد الجسد ملامحه ، وشم أخضر في باطن الساعد و عند بداية الكف، في يوم الأحد ترتدي فستان قصير و مرة اسكيرت و بلوزة و في كافة الأحوال حذاء جلدي بكعب متوسط العلو و باستمرار تضع ايشارب أكبر قليلا من منديل علي رأسها تربطه برقة فيرتاح علي شعرها ذو اللون الرمادي ، عادةً ما تخرج معها نيفين أخت نجيب الأصغر و يرافقهما زوجها أيوب، نجيب لا يذهب معهم هذا المشوار. كان العم أيوب بياعًا في متجر الخواجة للاقمشة.
نيفين في عمري و لقد أمضيت مراهقتي كلها أحلم بعناقها و تقبيلها تماما كما يحدث في الأفلام المصرية. نجيب و نيفين غادرا المدرسة مبكرًا كأنهما لم يستطيعا إكمالها نتيجة للرسوب الدائم او الإنهماك في صناعة الطعمية و الفطائر أو كما تقول أُم نجيب " المنائيش" . بضاعة هذه الأسرة المنتجة تتوزع بين كناتين الحي و الحي المجاور. في عام 1983 قُبلت في الجامعة و تقرر أن أسافر إلي الخرطوم في شهر مايو لأن الجامعة تفتح أبوابها للطلاب الجدد في شهر يونيو. أقام أهلي حفل وداع في تلك المناسبة، فتجّمع الأهل في مساء اليوم قبل السفر لوداعي، توافد الجيران و من بينهم كان عمتي أم نجيب، نجيب و نيفين.لم أشتَم رائحة الطعمية من جلباب نجيب النظيف و المكوي بلونه الازرق الفاتح لا بل شممت رائحة صابون و كلونيا، كانت نيفين بهية في ملامحها، لقد جاءوا لوداعي و كانت هي المرة الأولي التي ألمس فيها نعومة يد نيفين و المرة الأولي التي أري لون عينيها العسلي الفاتح و العميق، لم أنظر إلي فمها لأنني كنت أعرف جمال شفتيها و لونهما البمبي المنتفخ و كنت أعرف حسن تراص أسنانها و جمال إبتسامتها.
عدت مبكرا قبل نهاية العام، خلال غيابي توفي العم أيوب، أحزنني خبر وفاته. الإتجاه الاسلامي افتعل عنفاً مع الجبهة الديمقراطية، ثار الطلاب و تحالفوا ضد الإتجاه الاسلامي ، أغلقت السلطات الجامعة. فتوجبت علي العودة إلي البيت و كان ذلك في بداية الشتاء. كانت قد أُعلنِت الشريعة، أُصدر المرسوم الجمهوري باعلان الحكم الاتحادي، الجنوبيون اعتبروا ذلك تنصلا من اتفاقية اديس اببا، ابتدأ عمل مسلح في الجنوب، إعلام النظام يصفهم بالمتمردين أو الخوارج ، ما كان يرد في الجامعة في تلك الأيام من اخبار مختلف عما تقوله الصحافة، الجنوبيون إعتبروا إعلان تطبيق الشريعة الاسلامية و إصدار مرسوم الحكم الاتحادي عملا عدوانيا من النظام لأن القوانين الإسلامية تحولهم الي مواطنين من الدرجة الثانية، النشاط السياسي في تلك الايام جعلني أكره النظام و أدعو الي إسقاطه مع زملائي عبر العصيان المدني و التظاهرات السلمية خاصة بعد انكشاف عورة فساد رموز النظام ، آلمتني الإجراءات القمعية ضد الجمهوريين، كنت أُحب الجمهوريين و لا أفوت لهم ركن نقاش واحد رغم عدم إهتمامي بالدين. في تلك المرة وصلت بيتنا حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر ، بعد الغداء طلبت مني أمي أن اقوم بزيارة الجيران للقيام بواجب العزاء في مَنْ ماتوا و لقد أصرت أُمي علي فكرة الذهاب لمقابلة أم نجيب في وفاة زوجها. فعلا قبل مغيب الشمس بقليل كنت أمام بيت أُم نجيب، طرقت الباب فسمعتها ترد " طيب .. حاضر يا سيدي أهو انا قاية". فتحت الباب، شرعت في رفع يدي ثم استدركت و قلت لها " البركة فيكم و ربنا يرحمه " بكت أُم نجيب و فتحت ذراعيها و ضمتنتي ، بكيت علي كتفها، إختلج صدري بمشاعر حزن طاغية داهمتني مع فيض أُمومتها الدافقة و حزنها الكبير. كانت تقول "ابوكم ما أصرشي وئف معاي و ساعدني ربنا ما يحرمناش منو" . جاءت نيفين ربما علي صوت بكاء أُمها بعيون دامعة و رداء أسود، مددت لها يدي و عزيتها في وفاة والدها، بكت بحرقة ، كففت دموعي بِكُم الجلباب، كانت أُم نجيب تبكي بألم. فَتَحَت باب الصالون ثم دعتني للدخول بصوت متهدج ووجه دامع و حزين. إحْمّر وجهيهما و إمتلأت بالدمع عيونهما و فاضت ، جلست علي احد الكراسي و في قبالتي صورة للسيدة العذراء و في حجرها السيد المسيح. قلت لهما لقد كان العم أيوب من أحسن الناس اخلاقاً، اطيبهم معشراً لم يدخل في مشكلة قط مع أحد و لم نسمعه يوما ينتهر أحد أو يشتم أو يلعن، كان دائماً هاشاً باشاً و مبتسماً. سَكتْتُ عندما أحسست أن كلامي يبكهما أكثر. بعد فترة صمت طويلة قالت أم نجيب "كيف الجامعة علي حسك.. يا استاذ". انتابني خجل من تلك الكلمة " استاذ" فقلت لها ما فيش أُستاذ و لا حاجة انا زي إبنك نجيب يا خالتي. غادرت نيفين لم أستطع رفع عيني لأُعاين جمالها، ربما قد إزدجرني الحزن، جاءت بعد قليل بالماء و الشاي. في غياب نيفين سألت أم نجيب عن نجيب فقالت " نجيب تعبان و شأيان يروح مكان أبوه من الصبح يفتح المحل و يشتغل و يرجع المغرب يعمل الطعمية و يطلع يوديها " حزنت علي نجيب و أحسست بالعجز. سألتني أم نجيب "هو قعفر النُميري مالو" و ايه اللخبطة اللي بعمل فيها دي؟. قلت لها النظام إتغير من يوم ما دخل الترابي في الموضوع. إستأذنت منهما و قلت لهما سأعود في المساء لمقابلة نجيب. رجعت الي البيت و في طريقي التقيت بعدد من الأصدقاء و اولاد الجيران.
في الطريق الي البيت تذكرت العم أيوب، جلبابه بياقة تشبه ياقة القميص الافرنجي العادي ، نظيفة و مكوية بحزم و انضباط ، يلبس صندلاً ، لا يضع غطاء للرأس لا عمامة و لا شال و لا طاقية، شعره ناعم و قصير بلون رمادي ، تقريبا نصف رأسه اصلع، متوسط امتلاء الجسم و متوسط الطول، لا يتحدث كثيرًا و يبادل الناس التحايا بصوت منخفض و إبتسامة عريضة، عيونه ليست باتساع عيون نيفين او ام نجيب، شاربه مختصر و هو باستمرار حليق اللحية. تذكرت أن العم أيوب عندما يؤم بيت العزاء يقرأ الفاتحة علي طريقة السودانيين برفع اليدين و كوعيه ملتصقين علي جنبيه مما يعطي كتفيه استقامة حازمة . تذكرت جولاته في الحي في أيام الأعياد و زيارته للناس. بعد حلول الليل ذهبت مرة أُخري لمقابلة نجيب و القيام بواجب العزاء معه، وجدته في انتظاري، لم يهتم في ذلك المساء بأمر الطعمية. تحدث معي كثيراً حول منظر الجلد في محاكم العدالة الناجزة و كان يحمد الله لأن والده توفي قبل أن يشاهد ذلك في في الميدان الذي يتوسط السوق، كان نجيب متألماً و منزعجا. حكي لي أيضا كيف أن ابي كان أول من تم اخطاره بوفاة أبيه علي حسب طلب أمه و حكي عن استجلاب ابي للطبيب ، و مساعدته لهم في إستخراج شهادة الوفاة ، إتمام كل مراسم الدفن و حضوره العزاء في الكنيسة ثم متابعته لأمر العزاء الي أنصراف آخر المعزيين و دفعه لتلك التكاليف و كيف أن أبي رفض إستلام مليم واحد من أُمه. أحسست بالفخر وكبر ابي اكثر في عيني.
بعد أُسبوعين ربما من ذلك المساء، بينما كنت مستلقياً علي سرير في حوش الصالون قريباً من منتصف الليل، سمعت طرقا علي الباب، فتحت الباب كانت الخالة أُم نجيب منزعجة و أنفاسها متلاحقة، نيفين تقف خلفها بصمت جليل . قلت لهما ان شاء الله خير؟ فقالت الحقوني نجيب قبضوا عليه و هو الان في المركز. سمعت أُمي الكلام فجاءت، تركت ام نجيب و نيفين مع أُمي و ذهبت إلي مركز الشرطة، عرفت الحراسة التي فيها نجيب، و عرفت من أحد معارفي في المركز من رجال الشرطة إنه قد تم القبض عليه و مجموعة من اصحابه بعد مداهمة بيت أحد أصدقائه حيث كانوا يشربون، أُخِذوا إلي المستشفي و تم التأكد من السكر بكشف طبي مستعجل ، تم فتح البلاغ في مواجهتهم و سيتم جلدهم في صباح اليوم التالي، عرفت الآن فقط لماذا كان نجيب منزعجا من موضوع الجلد في محاكم العدالة الناجزة في ذلك الميدان الذي يتوسط السوق، لم أكن أعرف أنه يشرب و لم أكن اتوقع أن يصير الشرب يوماً ما مشكلة تستوجب مثل هذا العقاب. لم يكن في مقدوري فعل شيء ، الشرطة كانت في حالة جنون، القضاء بقضاته المستعجلين يسعي لإثبات انه ناجز أمام الرئيس، النظام الحاكم كله في لوثة و في انتظار مثل هذه الحوادث ( واحد يسكر، واحد و واحدة يكونوا مع بعض). ذهبت الي الحراسة، ناديت علي نجيب الذي أجابني من خلف القضبان و من عتمة الحراسة و عفونتها، كان يتحدث بصوت منخفض ثم قال " أرجو الا تخبر أمي بالامر". لم أشأ أن أقول له أن من أحضرني هنا هو أمك! رجعت إلي البيت و علي طول الطريق كان وجه أُم نجيب بطيبته و أحزانه العميقة امام ناظِرَي. كانت ببيتنا هي و نيفين في انتظاري، لم أجد طريقة لأكذب عليهما و قلت لهما أنه بخير و سأحاول غدا أن أتدبر الأمر، قلت لهما ذلك لتناما بأمل . غادرتا بيتنا برفقتي و اليأس يحوم حول رأسيهما كظلام إضافي، لم تتكلما، أوصلتهما إلي باب بيتهم، انتظرتهما الي أن دخلتا. أمضيت ليلي ذلك صاحيا لم أنم و في حوالي الساعة السادسة صباحا تحركت صوب السوق، كان قد تم إحضارهم من المركز، جميعهم في كشك مبني من الزنك و امامهم ، خلفهم و علي جانبهم رجال الشرطة، الجميع في انتظار القاضي. جاء القاضي ثم أصدر أحكامه بسرعة : الجلد و الغرامة علي الجميع الشارب، بائعة العرقي من وجدوا في بيوت الدعارة الجميع عقوبتهم الجلد و الغرامة و في حالة عدم الدفع الجلد مع السجن. تجمع عدد من معارف و أصدقاء عائلة العم أيوب جميعهم من الرجال. إبتدأ الجلد، تتم مناداة المحكومين و تتم قراءة الحكم و يتم الجلد بحضور القاضي. تم جلد نجيب كانت السياط تقع ثقيلة علي جسده فيهتز مكان وقوع السوط، نجيب ساكن لا يتحرك، كان ممسكا بعمود من أعمدة البراندة التي تم بناءها باستعجال لتشهد جلد الشاربين، كان السياط تُضْرَب من أعلي الظهر الي باطن الفخذين، استمر الجلد إلي أن إكتملت أربعون جلدة، لم أري معظمها و لكني أحسستها جميعا في جسدي.
انتهت الجلدات الأربعين ثم سقط نجيب علي الارض، يبدو أن الشرطي و القاضي معتادان علي وقوع أجساد المجلودين لم يهتما بسقوط نجيب علي الارض، أحسست أن الأمر مختلف، ذهب نحو نجيب انتهرني القاضي و طلب مني مغادرة المكان، لم أهتم وصلت الي المكان الذي يتمدد فيه نجيب، فرحت عندما وجدته حياً، كان دامعاً، محمر الوجه، متعباً ، فزعاً و متألماً، رفع وجهه و سألني هل أمي و نيفين هنا؟ قلت له لا ؟ حملته بمساعدة بعض الناس و أجلسته علي كنبة متهالكة، بعد الجلوس تلطخ ظهر قميصه ببقع دم، حملناه الي سيارة أحد اقربائه و تحركنا الي بيت غير بيته لنعالج آثار الجلد في ذلك المشوار قررت أن أشرب العرقي(العرق) مساء ذلك اليوم وفي كل مساءٍ لاحق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله