الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فورة الشكوك

محمود يعقوب

2012 / 10 / 10
الادب والفن


فـورة الشكوك
قصة قصيرة محمود يعقوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في بحر الذهب الأسود نحيا !..
فيه نعوم ، نطفو سادرين ، متأرجحين في غفوات ٍ مثل غفوات الإوز ، ينساب بنا التيار بعيدا ً .. في هدأة البحر بعيدا ً كالحلم العميق ، النوارس تخفق فوق رؤوسنا ، السمك والأصداف تتلألأ من تحتنا .. بعيدا ً نعوم حيث الذهب يترقرق والسماء المتماوجة تتلامع مثل وجه الماء ..
في بحر الذهب الأسود تتقاذفنا الأمواج فجأة ً، يضطرم من آن ٍ لآخرَ ويلتهب ، يرمي بنا يمينا ً وشمالا ، يرفعنا جيشانه ، برعب ، إلى عنان السماء ، ثم يغور منحدرا ً إلى قراره الحالك !..
منذ نعومة أظفارنا وحتى اليوم الذي نصطبغ فيه بالشيب تبقى على وجوهنا آثار النفط لا تريم ، آثار موحشة : خشونة ، وشحوب ، وقلق ، وتعاسة ، ويأس . وفي كتب الأجناس البشرية ما لبثوا يرسمون صورنا ملطخة بالزيت الأسود .. صور لا تسر الناظرين !..
من مركب ٍ إلى مركب ، ومن موجة إلى موجة ، نمضي العمر في لجة البحر فقراء مهضومين حتى الرمق الأخير.
وفي بحر الذهب الأسود نموت !..
**********
شقّ ( حسان الواسطي )الثلاثين دونما ً ، من الأرض الرملية ، الكالحة ، الظمأى ، المحروقة بنيران الشموس ، المحاذية إلى مزارع الطماطم في صحراء ( الزبير ) .. شقـّها بمحراثه مندفعا ً ، صابرا ، بعد أن صرف أياما ً متتالية ، مضنية في تسويتها .. شقـّها من غير أن يكترث بأي عناء .. ولا بالعرق الغزير الذي كان يهمي مكتسحا ً جسده .. من غير أن يكترث حتى بالخدوش وأبر الأشواك الدقيقة التي غمرت ساعديه وساقيه العاريين . كان مشغولا ً بشأن المياه لا غير ، كل ما خامر ذهنه من أفكار هو ثلاثة آبار ماء أرتوازية تكفي لإشراقة الحياة في ذلك اليباب ..
تعب تعب فلاح حقيقي ، قبل أن يجلس مهدود الحيل ليلتقط أنفاسه ، وهو يجس رزمة النقود في أحد جيوبه . استراح قليلا ً ، ثم استل الرزمة ، راح يعدّها .. عدّها على مهل ، و رزمها مجددا ً .. رزمها بانشراح . جالت عيناه المتألقتان بلؤلؤتي الأمل في أرجاء أرضه ، وقال في سريرته ( يمكنها تغطية نفقات حفر آبار الماء ) .. كل ما كان يحلم به ( حسان ) ، في تلك الهيماء الشاسعة هو أن يعيش الحياة كما يعيشها الناس ، فكانت الأماني الخضر أول زرع ٍ غرسه في الرمال !..

في بواكير اليوم التالي ، جاء بعمال الحفر. ذرعوا الأرض طولا ً وعرضا ً ، قلـّبوا الرمال بأيديهم ، وفركوها ، ثم تذوقوا طعمها وتشمموها ، قبل أن يهمـّوا بالبحث والتنقيب عن المياه . بعد لأي وعناء شرعوا يحفرون أول بئر في الأرض . استغرقوا ساعات ٍ مرهقة ٍ في الحفر ، وأخذت آلاتهم تتوغل إلى الأعماق أكثر وأكثر ، إلى أن فوجئوا بانبثاق النفط الخام نحوهم باندفاع ٍ قوي ٍ وغزير ، تدفق كالمارد الحبيس ، مثيرا ً غمامة من الأبخرة والغازات الكريهة . خيمت التعاسة على وجوههم ، ولعنوا حظهم ، ثم تواصوا بصدق ٍ وتواعدوا بوعود ٍ أخوية ٍ علىٍ أن يظل أمر هذا البئر سرا ً من الأسرار وقد صمـّموا بحزم عدم إفشائه والبوح به ، إن هؤلاء الرجال اعتادوا على طي أسرار مثل هذه الآبار في صدورهم ونسيانها سريعا ً ، إنها كثيرة وخطرة تهدد خبزهم !.. سارعوا إلى ردمه ومحو آثاره . وأثناء الحفر ، لم يكن أحد ًٌ منهم يخاف من العقارب الصفر ، ولا الأصلال الصحراوية المميتة مثلما كانوا يخافون انبثاق النفط .
عملوا بتفان ٍ طوال ثلاثة أيام ٍ متواصلة .. ثلاثة أيام لم يتناولوا فيها سوى الخبز البارد والبطيخ ، ويحتسون كؤوس الشاي المحروق ، وخلال أوقات استراحتهم دأبوا يجذبون أنفاسا ً عميقة من سجائرهم وهم يتلفعون بسحابةً رمادية من الحرقة والغيظ !.. بذلوا ما في وسعهم من جهود ٍ ، وفي كل مرّة يندفع النفط من قلب الأرض ، أسودَ ، فوّارا ً ، مخيبا ً للآمال !..
وفي كل مرّة أيضا ً ، في أجواء مفعمة بالاستياء ، يعودون لدفنه بتلال من الرمل ، يدكونه ويرصفونه بشدة ، كأنهم يطمرون وحشا ً ضاريا ً ، يخشون أن تدب الحياة في أوصاله فينطلق ثائرا ً . إنهم لا يدفنون حتى آباءهم بمثل ذلك الحرص والحماس ..
طوال ثلاثة أيام مشحونة بالقلق والضنى ، حفروا ثلاثة آبار نفط ثم ردموها . لم تكن ( بحسان ) حاجة إلى هذا السائل الكثيف أبدا ً ،إن تدفقه سيقتل الأرض ، من دون شك ، كما قتل ويقتل البشر. إنه وكل المزارعين يتحاشونه بذعر ، ويرون فيه نذير الشؤم .
كان العمال في نهاية المطاف منهكين ، مغتمين تماما ً ، غير أن ( حسان ) كان رجلا ً ذا جلد ، لم ييأس ، ولم يترك نفسه نهبا ً لهواجس تثبط عزمه . أصر على الاندفاع في البحث والحفر طوال الأيام التالية مهما كلف الأمر ، وبأي ثمن . بعد أن حاول تقصي ما تبقى لديه من نقود ، تبين له أنها غير كافية لمواصلة الحفر، هبّ ليتصل بأهله ، ويخبرهم عن مسيرة عمله ، ويحثهم على إسعافه بالمال .. أخبرهم بعبارة مقتضبة ، وبلغة كانوا يفهمون مغزاها جيدا ً ، دون الحاجة لأي تفسير ، حينما قال لهم :
- لقد دفنت ثلاثة شياطين ..
*********
يلوح لي في أغلب الأحيان ، أنني قليل المعرفة و شبه أمي ، لكنني أعرف شيئا ً متواضعا ً عن قصة النفط الغريبة في بلادي .. القصة الطويلة ، الحزينة ، التي يشك كل ٌ منا أن تومض لها نهاية قريبة في الأفق المعتم ..
أعرف مثلا ً : أن المستعمرين هرعوا إلينا ، يتشممون النفط ويتحرونه . نبشوا كل الأراضي والقيعان حتى وجدوه ، وأين يمكن أن يواري نفسه بعيدا ً عن عيونهم الذكية الثاقبة ؟..
ما أن عثروا عليه حتى تقاسموه حصصا ً ، وكان لبلادنا سهم متواضع منه . وعلى الرغم من أن القسمة كانت ضيزى ، إلا أننا عشنا بسهمنا هذا .. عشنا بذلك القدر البسيط الذي يمكن أن يسمى عيشة ً ..

من بين حصص النفط تلك ، ذهبت حصة صغيرة عرضا ً ، كما تذهب الأشياء الفائضة عن الحاجة عادة ً ، إلى رجل ٍ سأقول عنه ( رحمه الله ) لأنه يستحق الرحمة على ما أظن . كانت حصة هذا الرجل ( 5٪ ) من نفط البلاد ولأجل ذلك أطلق عليه العالم بأسره ( مستر 5٪ ) . كان رجل نفط ٍ أرمنيا ً حاذقا ً ، عاش ردحا ً من الزمن في البلاد . وصف بأنه صاحب ذوق ٍ رفيع ٍ ومزاج ٍ وردي ، يهوى الفنون وجمع اللقى الأثرية ، وهو رجل محسن بعد ، ما أن تصبح اﻠــ (5 ٪ ) في جيوبه ، حتى يشرع في تشييد العديد من المباني في البلاد على نفقته . غطى جزءا ً من خارطة البلاد بكرمه ، وأطلــّت بعض المعالم المعمارية الجميلة ، الوضـّاحة بفضله ، متاحف ، وقاعات عروض ، ومدارس ، وملاعب ، ودور سكنية أيضا ً .. إنه فعل ذلك من باب الإحسان بالتأكيد ، لكننا كنا نقول إنه يطعمنا من لحم ثورنا .. لقد أنعم علينا بتلك النعم في ما مضى من سنين ٍ كانت البلاد تنتج الشيء اليسير من النفط ، ولو قيـّض لهذا الرجل أن يستمر إلى يومنا الحالي الذي بتنا نغرق فيه العالم بنفطنا ، لفعل الأفاعيل وملأ أرض السواد بالشواهد المعمارية الخالدة ، التي يدل واقعنا أن لا أحد َ سوف يقدم على بناء مثلها في يوم ٍ من الأيام !.. إن أعماله الخيرية الراسخة والشامخة ستظل شاهدة على إحسانه ، فليرحمه الله إذن .

ذات يوم ، خرج من بين ظهرانينا رجل ٌ عديم الإيمان ، جاء ساعيا ً كالعقرب ليسارع إلى وضع يده الطويلة على نفط البلاد ، طرد الشركات ، وألغى حصة ( مستر 5٪ ) ، ولم يتوان عن دس تلك اﻠــ ( 5٪ ) في جيب سترته الأيمن . كنا نظن أنه فعل ذلك لأجلنا ، أخذنا نصفق ونزغرد ونرقص ، وتوسدنا الأحلام !..
لكن منذ ذلك اليوم لم يعد أحد ٌ يرى النفط أو يشمه ، بتنا نسمع به سمعا ً في الواقع .. نسمع تدفقه عبر الأنابيب ، ونسمع قرقعة البراميل ، ونسمع صرير الشاحنات أيضا .. نسمع فقط ، أما أنظارنا فقد غاب عنها كل شيء !..
نفط لا ينضب أبدا ً ، يفيض غامرا ً ، يسح على وجه الأرض ، ويُهدر جزافا ً . وعلى غير ما يتوقع المرء ساءت حياتنا ومحضتنا أقسى العذاب . نظرنا إلى الأمر بيأس ٍ ونحن نرى النفط يخرج من يد غاصب ٍ لتتلقفه يد غاصب ٍ آخر ، قطيع ٌ ينهبه من قطيع !..
كان ركوب البحر مجازفة ً غير محمودة العواقب ، فقد اضطرم هذا البحر وزعزع حياتنا ، وراح يقذف بنا من هزيمة إلى هزيمة ، إن أبواق النصر لن تدوي على أرض ٍ يغمرها القراد . ونحن نحيا في ضعة ٍ ، متضورين ، مساكين ، مغلوبين . أيام وليال ٍ شاقة الاحتمال ، كُتب علينا أن نعيش غمارها بنكد .. نعيش وأجسادنا مغطاة بالقراد المصـّاص ، الذي يلتصق بنا مثل صمغ الراتنج !..
في كل مقبرة من مقابرنا سينبع بئر نفط ، وسوف يكون برجه الحديدي بمثابة نصب ٍ تذكاري لمأساتنا وقهرنا !..
إنها الهبة التي لم تعد علينا بالهناء ، يا للهبة الإلهية القاسية !..

**********
أخذني التوق ، ذات يوم ٍ ، لزيارة متحف الآثار في مدينة ( الناصرية ) ، الذي شيــده ( مستر 5٪ ) أيضا ً . كان يمكن أن تكون تلك زيارتي الأولى ، وأنا أفيض لهفة ً لرؤية صفحة ً منوّرة من تاريخنا . حين توقفت أسفل هذا المبنى ، عند جداره الخارجي ، خالجتني مشاعر كثيرة ، وكأنني أقف أمام حضرة ٍ مقدسة .. أقف برهبة ٍ وخشوع ، وشيء من الخوف والتردد ، وفي داخلي تتفاقم المشاعر والوساوس . تسمرت عيناي على أعلى البناية ، كأن دخاناً شفيفا ً يتصاعد منها ، وهي توشك أن تنفجر محترقة ، كان ذلك مجرد إحساس طارئ وغريب ، جعلني أضطرب ، وأنكص على عقبي ، وكـأنني فريسة كابوس مفزع ، سرعان ما وثب صوت ٌ هامس انصب في أذني مباشرة ً ، اضطربت على إثره وجفلت دون أن أتبين الهمس !. تراجعت وعدلت عن الدخول ، وأنا على هذا الحال من الاضطراب والخور والارتياب . هل كان ذلك حلم يقظة ٍ عابر ، أم إن خاطرا ً ملأ أذني حقا ً بمثل هذ الهمس ؟.. ذلك ما لا يمكنني أن أجزم به ..
**********
في يومي هذا تحليت بقدر من الوضوح والتسديد ، ونظرت إلى نفسي لأجدها على جانب من الجرأة كاف ٍ ليحثني على الذهاب مرّة ً أخرى إلى المتحف . عدت إليه من جديد ، وشيء من حرارة الإيمان في قلبي ، والعزم يشدني إلى عدم الانجرار في حساسية ٍمفرطة ٍ إلى وساوسي وأوهامي . وبينما كنت أهم بالدخول تعثرت قدماي ، أمسك بهما شيء ، أطبق عليهما مثل فخ الصياد ، سمّرني عند حافة الباب الخارجي وحال دون أن أخطو إلى الأمام ، انشغلت في تحرير أقدامي وتحريكها ، وأنا في غاية الارتباك ، مبلبل الفكر، وإذا بذلك الصوت الهامس ينصب في أسماعي بنبرة ألم ٍ وقنوط ، قائلا ً :
- مرحبا ً أيها السيد ، لقد عدت ، حسنا ً ، ولكن ارجع الآن .. توقفت مذعورا ً ، تنحيت جانبا ً على الفور ، وأنا أسترق السمع بكل أحاسيسي المتوثبة !..
- ارجع أدراجك حالا ً ، وأسرع لتخبر ( حسان الواسطي ) وتنصحه هو وأصحابه بأن لا يبقوا على شيطان ٍ فوق الأرض ، ليجهزوا عليها أينما تبدو للعيان و أينما تنبع ، وفي النهاية ستجدون أنفسكم على بر الأمان ، بعيدا ً عن البحر المتلاطم القهّار ، و سوف ينمو زرعكم ويعلو أخضرا ً ، نضرا ً ، لتحيون كما يحيى البشر !..
ابتعدت مسلوبا ً ، شاردا ً ، وعلى مسافة تقارب من خمسين ياردة توقفت ، أدرت إلى المتحف كامل جسدي ، وحدقت به عميقا ً . كان الصوت المنبعث منه لم يزل يهسهس في مسامعي برهافة ، تنبهت إلى ذلك الصوت بأقصى اهتمام ، بدا لي صوتا ً مشفقا ً وقورا ، طافحا ً بنبرات ٍ ملكية واثقة ، وترسخ في خاطري أن الصوت لا يمكن أن يكون إلا صوت ذلك الذوّاق المحســــن ( مستر 5٪ ) !.

ــــــــــــــــــــــ
الشطرة ــ 2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد