الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المجتمع المصري ورُهاب الحداثة

مهدي بندق

2012 / 10 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


المجتمع المصري ورُهاب الحداثة
مهدي بندق

يستخدم البعض تعبير "العقل الجمعي المصري" ، وكأن للمصريين جميعاً عقلاً واحداً يعمهم ! ولأن التعميم يهمل الاختلافات الكثيرة داخل الظاهرة الواحدة فلا غرو أن يكون يلد الخطأ. كما أننا لا نقابل في الطريق شيئا ً محددا ً اسمه "العقل الجمعي" بل عقولا ً تتشابه ربما ، لكنها تتغاير وتختلف من طبقة الي أخرى ، بل ومن فرد إلى فرد .
والحقيقة أن تعبير العقل الجمعيّ – إذا أحسنا الظن به - إنما هو تعبير مجازي مقصود به وصف ثقافة معينة : عربية ، صينية، غربية..الخ ، والثقافة لا مشاحة تطبع أصحابها بطابع عام إلا قليلا ، وهذا القليل هو سر تطور الثقافات . فإذا أحاط الجمود الفكري بثقافة ما صح القول بأن المجتمع قد حل به المرض .
ولعل المراقب لأحوال المصريين اليوم يلاحظ وقوع معظمهم فريسة حالة من الفزع الشديد لم تكن معروفة عند أصحابها من قبل شبيهة بمرض الرهاب النفسي Phobia . لكن مصدر هذه الحالة ليس العقل الجمعي – كما أسلفنا القول – بل ما يسمى بــ "اللاوعي الجمعي" Collective Unconscious المصطلح العلمي الذي استخدمه كارل يونج من حيث استغراقه للبشرية جمعاء وقابليته للتوريث. ومن هنا يمكن القول إن جمود ثقافتنا العربية مرجعه الأساسي ذلك الاضطراب الناجم عن فزع الكائنات من المجهول : الموت – المرض – الكوارث الطبيعية ...الخ
وفي حالتنا المصرية فالمجهول هو " الحداثة " ، وأساسها نظر المرء لنفسه باعتباره سيد مصيره بما يلقي بتبعات ومسئوليات ضخام على عاتق المرء، ويجبره على اليقظة والتوثب لتحقيق أهدافه . ولا يقولن أحد أننا عرفنا الحداثة بهذا المعنى حتى الآن ، بل عرفنا "شبه حداثة" قوامها استيراد منتجاتها المادية دون مضامينها ومناهجها ، فرضتها أنظمة الحكم المتعاقبة منذ الباشا محمد على لمجرد تطويع أجهزة الدولة وتنشيطها لدواع سياسية واقتصادية ، بينما ظل الشعب على حاله راضياً بثقافة العصور الغابرة : الإذعان .
بيد أن ثورة يناير ، وإن أخفقت في تغيير هياكل السلطة وقنوات توزيع الثروة ، إلا أنها نجحت إلى حد كبير في خلخلة ثقافة الإذعان، وهو ما فتح النوافذ أمام عواصف الحداثة (المجهول) وما بين أوجاع الخلخلة وآلام العواصف لم يكن غريباً أن يقع المجتمع فجأة صريع ما يمكن تسميته برهاب الحداثة .
فما هي أعراض حالة الرهاب هذه ؟ يمكنك رصدها بنفسك إذا كنت " شوارعيا" محترفاً حيث الناس لا يبتسمون ، أو فتعرّفْ عليها بمواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر، لتلتقي بمشاعر السخط العرم في أوساط الشباب ، أو راقبها عند رموز تيارات التطرف الديني الذين أوهمهم تواجدهم الكثيف داخل لجنة الدستور أنهم صاروا قادرين على إعادة تشكيل المجتمع بداية من تقليص حقوق النساء والأطفال برفض حظر الاتجار في الفتيات ( لمنع ملاحقة الآباء الذين يزوجون بناتهم القصّر خاصة لأثرياء النفط ) وصولاً إلى دعوة الدولة للانسحاب من الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. وتساق هذه المطالب بحجة " تطبيق الشريعة الإسلامية بحسبانها "مسألة حياة أو موت" بالنسبة لهم. وعليه فهم يعيشون مرتعبين خوفا ً من ضياع الفرصة ، فاللبراليون يتصدون لهم بقوة ، والمحافل الدولية تتربص بهم، وحلفاؤهم الأخوان يتلكئون عن السير وراءهم الحافر على الحافر، وهذا الرعب من فكرة هزيمتهم أمام الحداثة " اللعينة " هو ما يعرضهم للتناحر والانقسام ، وما جرى بحزب النور مجرد بداية .
من جانب ثان فشباب الثورة ومعهم النساء والقوى اللبرالية ومنظمات المجتمع المدني، بعد أن أدركوا خطأ تقاعسهم عن طلب السلطة لأنفسهم ثـقة في العسكر أن تكفيهم خطر التيارات الدينية! سلموا بأن توحدهم صار ضرورة حياتية. ولكن لما كان هؤلاء تواقين للعيش في عالم الحرية والمساواة الكاملة بين المواطنين(= الحداثة ) وفي الوقت نفسه هم غير مستعدين ثقافياً ومهنياً للقيام بحركة إصلاح ديني لا غش فيها تعزل كل من يستخدم الدين لأغراض سياسية؛ فالنتيجة أن حالة من القلق العنيف صارت تلفهم، منذرة بإعادتهم إلى حالة التشرذم والتشتت المدمرة .
ومن جانب ثالث بات الأخوان المسلمون – وهم من ظفروا برئاسة الدولة – يدركون أن للسلطة استحقاقات داخلية وخارجية لا سبيل لتجاهلها. فهم ملتزمون في الداخل بضرورة إشراك الأقباط المسيحيين في الحكم ، وهم يعلنون استمرار التزامهم بالمواثيق والاتفاقيات الدولية وعلى رأسها كامب ديفيد [ وهذا يحرجهم عند حلفائهم السلفيين ] كما أن " مصالحهم " السياسية والاقتصادية والتجارية ذاتها تقتضيهم ارتداء رباط عنق الحداثة ولو على مضض، وآية ذلك تعرض مبدأ السمع والطاعة – أساس التنظيم الحديدي نفسه – للمراجعة ، مذ أمسى رئيس الدولة واحدا ً منهم ، حيث يستحيل عليه طاعة مرشده ولو شاء . وقل مثل ذلك عن أذكياء الحزب من يرون تطبيق النموذج التركي الحداثي الناجح ولكن دون مقدرة على فرض آرائهم على قيادات جماعتهم التقليدية. وهكذا فإن أشواكاً من القلق والتخوف قد نبتت داخل الجماعة توخزها بل وتهدد بانقسامها .
والخلاصة أن المجتمع المصري على اختلاف بنياته وتنظيماته قد صار فريسة لمرض رهاب الحداثة ، وهذا أمر مألوف في سياق المراحل التاريخية التالية للثورات.
أما العلاج فرهين بالإصرار على ممارسة الديمقراطية في البرلمان وفي الأحزاب وفي الميدان بالتوازي وليس بالتصادم . وهو ما يعني القبول بشروط الحداثة على طريقة داوني بالتي كانت هي الداءُ .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكونغرس الأمريكي يقر مشروع قانون مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا


.. لازاريني: آمل أن تحصل المجموعة الأخيرة من المانحين على الثقة




.. المبعوث الأمريكي للقضايا الإنسانية في الشرق الأوسط: على إسرا


.. آرسنال يطارد لقب الدوري الإنجليزي الممتاز الذي غاب عن خزائنه




.. استمرار أعمال الإنقاذ والإجلاء في -غوانغدونغ- الصينية