الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صلوات في هيكل حب .. السجدة الاولى

رويدة سالم

2012 / 10 / 21
الادب والفن


السجدة الاولى

- أحبك بقدر حبي للبحر .. البحر قوى وفاعل ، حيوى وثائر ، دائم الحركة والفعل ، ينتج مشاهد جديدة دوما.
- احبك بقدر اتساع السماء لأنها تحتضنه حبيبي ، تحنوا عليه وتمنحه الالوان.
بعد برهة تأمل أضافت بشرود :
- قدرنا ان نعيش دوما كالبحر والسماء يتوقان لبعض .. يعشقان بعض .. يتكاملان .. لكن لا يلتقيان.
- ممكن أن يلتقيا فى الافق. الامل جميل دوما. سأجعلهما يلتقيان في الأفق لنلتقي انت وأنا.

ابتسمت. لم تفارق الابتسامة اساريرها لما اخترقت الحقنة ذراعها. كانت عيونها نصف مغمضة وقد تحول صوتها المتهدج تدريجيا الى همس حالم. شعرتُ وأنا أنظر اليها ممددة امامي على السرير ان جسدها لا ينتمي اليها. جسد فقد الرغبة في الصراع. ما يشده للحياة حلم بدأ يتقطع وروح هائمة بها بقايا نبض تبحث عن سبيل ما. لا اعلم اي سبيل يريد ولا الى اين.
رأيتُ في صفحة وجهها المنهك خيالا يطوف بها. يدنو منها. يداعبها ويغمرها بحنانه. يقترب أكثر. يتمدد الى جانبها. تشعر بأنفاسه تلفحها فتنفرج اصابعها وتهتز بحركة بطيئة. اسمع غمغمة ولا افهم ما تقوله. يبدو لي انها تداعب وجهه او تريد احتضانه وأنهما يتناجيان. اخجل من فضولي ومن مراقبتي لهما في أكثر لحظاتهما حميمية. اجمع بقايا الادوية وأرتبها في الخزانة في الطرف المقابل للسرير قريبا من النافذة التي تطل على مساحة شاسعة من المدينة.
الشمس حارة في هذا اليوم من آواخر ماي 2013 والشارع مكتظ كعادته في ساعات الذروة. عند مفترق الطرق يقف شرطيان ينظمان حركة المرور. غير بعيد عنهما، على الرصيف المقابل شابان ملتحيان يعضان جمعا من الشباب الذي ينتظر مرور الحافلة. يقترب أحدهما من شابة تبدو في العشرين. يشد شعرها ويصيح. يدنوا آخرون .. يرتفع الصراخ .. يهرع الشرطيان اليهم في حين يتردد في المكان صدى منبهات السيارات وتعلو الشتائم.
كلمات نابية اعتدت سماعها في كل المشاحنات وفي كل مكان .. على الطريق السريع وفي اعماق الحي الشعبي الذي اسكن. لا اعتقد انهم قادرون على التخلص منها وان لبسوا جبة وصنعوا غرة على الجبين.
لعنت الشارع بمن حوى. لعنت المدينة الضعيفة التي تصارع من اجل استعادة السلام. لعنت رجال السياسة الغير مهتمين لحال البلد بكل اطيافهم في محاولاتهم اقصاء الاخر لتثبيت اقدامهم بالقوة رغم كل الاعراف والمواثيق.. رجال السياسة الذين لم يتعلموا بعد ان الاختلاف فضيلة تكملنا ولا تفرقنا وتصنع منها أعداءا يحطمون الوطن.
تذكرتها. وضعت يدي على فمي ونظرت اليها. هل سمعت ثورتي فضاعفت ألمها؟
أغلقت النافذة وأسدلت الستار. كلما أختنق من هذا الواقع الذي يدفعني قسرا للفصام ابحث عنها.. عن الطيف الذي يحرسها أثناء غيابي.. عن الحلم الذي يرتسم في فضاء الغرفة باسما رغم رائحة الادوية والضمادات والحقن. اقتربت منها. أنحنيت عليها كأم. وجدت أن أنفاسها قد انتظمت وأنها قد اغرقت في نوم عميق.
إنها الواحدة بعد الظهر وقد أنتهى دوامي ويجب أن أغادر. وقفت امام المرآة وعدلت حجابي. القيت نظرة أخيرة عليها وأنا أغلق الباب ثم انطلقت مهرولة عبر بهو المستشفى العسكري الى مربض السيارات.
في السيارة، اغلقت الباب بإحكام .. ألقيت راسي على وسادة الكرسي وأغمضت عيوني. لا رغبة لي في العودة للبيت ولن أحتمل التجول في مثل هذا القيظ.
بعد برهة من التردد اقنعت نفسي ان بقية اسرار مريضتي تنتظرني هناك في البيت. كتابا تمكنت من فك شيفراته والوصول الى اسراره المخفية. كتاب حب كلمة العبور الى اكثر صفحاته حميمية اسم الطيف الذي يجول في الغرفة حيث تتمدد هي ميتة ببقايا نبض.
مرت سنوات كثيرة منذ التقيا في صيف 2009 في معرض للفن التشكيلي. جلس عند المكتب يدخن وينظر الى اللاشيء. كانت مغامرته الاولى بعد عقود من الانقطاع. بعض النقاد أشادوا بموهبته وبراعته في التعامل مع الخطوط والألوان إلا انه لم يجد المعرض مثيرا ولا حصل على المتعة التي حلم بها طويلا.
وجه اليه كثيرون اسئلة وطالبوا بتوضيحات. قديمها بابتسامة لم تنجح في اخفاء ما يشعر به من فراغ وملل ورتابة. بأعماقه كان يشعر ان تجلّ باهر سيحدث وأن حياته ستتغير.
فجأة رآها. تقف هناك وحيدة أمام لوحته المفضلة. جسر من حبال مهترئة بين قمتين لجبلين شاهقين تفصلهما هوة عميقة تقف في وسطه امرأة ملامحها غير واضحة تحمل بيدها شعلة وباقة زهور.
لاحظ أنها تشبه الى حد كبير المرأة المرسومة في اللوحة. بجسد أنثوي صغير وشعر قصير ونظرة حالمة .. مثلها تماما بدت له ثابتة لا تتحرك تحيط بها هالة نورانية ساحرة. كتمثال من رخام في ثوبها الابيض الصغير بدت له فينوس الحب التي بحث عنها دوما بين كل النساء اللاتي عرفهن بدون جدوى.
شيء غامض غريب فيها جعلها مختلفة عن كل النساء أو هكذا صورها له خياله. رقيقة كورق سيجار. شامخة كشجرة سرو. آسرة كآلهة حب.
تقدم نحوها. وقف ورآها ببعض خطوات. غمرته رائحة الصنوبر.شعر بشيء من الدوار. كمثمول بحث عن نقطة ارتكاز. تحولت القاعة فجأة ألى حقل ربيعي فسيح تمنحه هي النور والإشكال والألوان.
-أأعجبتك الى هذا الحد؟ همس أخيرا لما التقط انفاسه المتقطعة.
دون أن تحول بصرها عن اللوحة قالت شاردة:
-عندما تكون الجسور متهالكة هل يمكن أن نعبر بين عالمين بأقل خسائر ممكنة؟
-مهما تكن خسائرنا، على الاقل نكون قد حصلنا على شرف المحاولة.
-أرى في هذه المرأة على الجسر وطني. قالت كما لو أنها لم تعي اجابته.
-نحن من يمنح المعنى والقيمة لأي عمل فني سيدتي. نرى فيه افكارنا ونسبغ عليه مشاعرنا وأحلامنا.
الصوت الملائكي الرصين بث بأعماقها كهرباء لذيذة. التفت اليه لترى أمامها رجلا في الخمسين من عمره, عيونه العسلية آسرة وشعره الكثيف وحاجباه قد خطهما الشيب.
نبض قلبها. سمعت رجفته وسرت بجسدها قشعريرة. خفضت بصرها وابتعدت في حين بقيّ معلقا بطيفها. تتبعها في قاعة العرض بنظراته الى ان اختفت في الزحام.
هزته يد لمست كتفه بقوة. انتبه. ابتسم لوجه صديقه الذي بدى مرهقا. سمع صوته القوي الاجش يأتيه من البعيد:
-لنغادر. نتجول بالمدينة ونذهب الى أحد المطاعم.
دون ان ينبس بحرف تبعه كتمثال مسلوب الادراك. عند الباب التفت بحثا عن طيف. عن إلهة طفت في القاعة لبرهة لتتفقد أحوال البشر.
-من تكون؟ هل ستعود غدا؟
حاول ان يطرد خيالا يلح على الحضور لما جذبه بطرس ممتعضا من شروده. سارا معا في الشوارع الجميلة لمدينة تونس.
تجولان طويلا في شارع الحبيب بورقيبة ثم دلفا الى مقهى باريس. احتسيا قهوة وتحدثا عن المعرض والمكاسب والعودة القريبة لمصر. بعد برهة من الصمت همهم بشرود
-هل سأعود دون ان أراها ثانية ؟
ابتسم بطرس. هز كتف صاحبه وسأله بخبث:
-من تشغل بالك عزيزي الى هذا الحد؟ ألن تمل المغامرة والرسم على صدور النساء؟
تصنع ضحكة وأجاب بنبرة واثقة:
-شوارع المدينة. شوارع تونس. أجدها رائعة.
اني ارى مدينة عبر عيون الفنان الذي وقع بغرامها لما داس ترابها وشم عطر الياسمين الذي يعبق في شوارعها الندية.
كم أحببت مدينتي الرائعة البهاء خاصة في ايام الربيع العذبة لما كان الحلم والحب لايزال مباحا. شوارع فسيحة جميلة وأناس بألوان الطيف مرت لعقود من هنا. لم تفرقها طائفية ولا تعصب.
ما الذي جعل الالوان تبهت فجأة بعد ان نادت اصوات عديدة بالحرية والحق في تقرير المصير؟
اليوم اختلف كل شيء هنا كما في كل ارجاء البؤرة السوداء التي يطلق عليها اصطلاحا اسم "الوطن العربي". لم اعد اطيق السير بين الناس ولا زيارة المقاهي ولا سماع مشاحناتهم التافهة المنافقة ونقاشاتهم العقيمة الحادة. سرت مسرعة الى البيت مباشرة. مرهقة من العمل ومحملة بكل أطياف مرضاي وبمآسي وطن فقد نقطة الارتكاز.
وجدته في الدكان كالعادة في مثل تلك الساعة من النهار. لما دخلت ابتسم وبدأ ثرثرته اليومية التي لا تنتهي. قبلت وجنتيه بصمت وملل كواجب عسكري لا مفر منه.
لم أحبه يوما منذ دخل بيتنا الذي انبعثت في أرجاءه للمناسبة "السعيدة" زغاريد نساء الحي المنافقة في ذاك اليوم الشتوي القارص.. بيتنا "المحتاج لركيزة.. اية ركيزة حتى ولو لشبه رجل" كما كانت تردد الخالة فاطمة البغيضة لإقناع امي المترددة الخائفة. احتل فراش أبي وارتدي ثيابه ووهب البيت أطفالا صغارا ملئوه ضجيجا. اشفاقا عليها من فوبيا الخوف من الوحدة التي تهدد كهولتها الثقيلة بعد الرحيل المأساوي لأبي لم اثر المتاعب رغم اني لم أعتبر اطفاله يوما اخوتي وتجاهلت وجودهم وأغلقت دون الكل بابي. لكنهم رحلوا واحدا تلو الاخر ولم يجد غيري يروي ظمأ الابوة الذي كان يقض مضجعه.
كعلق علق هنا. توارى وراء امي الى ان رحلت. استنزفها حتى الثمالة. في سنوات الطيش سكب اموالها في البارات وعلى نهود النساء. ازمات الابوة السليبة مع أخر قبضة تراب تسكب على وجه الصبي الاخير هزته بعنف لكنها لم تغير الكثير.
رأى الامتعاض على وجهي فربّت على خدي بحنو وأخبرني انه قد أعد الغداء وانه مشغول بالعمل وأني يجب ان ارتاح قليلا.
صعدت الدرج قفزا الى الطابق العلوي. البيت مرتب والطعام على الطاولة في المطبخ داعب انفي برائحته الشهية لكني لم ارفع الغطاء. بحركة سريعة تفقدت كل ارجاء البيت كمن يبحث عن اثر ما او شيء مفقود لا يدرك كنهه.
"أم أحمد" جارتنا مرت من هنا.
تساءلت ان كان سيتخلى عن عاداته السيئة ويحترم وجودي ويكف عن مغازلتها في بيت امي وفي سريرها. في الحقيقة هو يحاول دوما ان لا يترك اثرا لتجاوزاته لكن أم احمد يطيب لها ان تترك احدى القطع الصغيرة من ملابسها الانثوية تحت السرير وهو أول مكان ابحث فيه عن اثر مرورها البريء جدا. تساءلت.
متى سيتزوج ؟
هو رجل لا يحب الالتزام ولا تحمل المسؤوليات – انا امثل الاستثناء الوحيد في حياته - ولا أعتقد أنه سيتزوج ثانية مهما طالت لحيته الشعثاء التي صار يتباهى بها أمام كل رجال الحي - هو من كان عينا للحزب الحاكم القديم ينقل اخبار كل المعارضين واللاعنين ومن صار داعية لطريق الحق بعد الثورة - رغم أن هذه الثورة العظيمة منحته الرخصة في الزواج العرفي الذي اسعف كل الباحثين عن غطاء شرعي لمتعة آثمة.
هذه الثورة الرائعة التي يعد الاستاذ راشد الغنوشي، ملا حركة النهضة الربانية المباركة، أنها ستمكِّن انصار الحق حالما يمتلكون وزارات الدفاع والأمن وخاصة الجيش من اقامة شرع الله ومنح كل ذكر حق وطئ اربع نساء للقضاء على العنوسة – الآفة التي تهدد مصير النساء .. نساء تونس العفيفات اللاتي أقضت مضجعهن العنوسة على مدى التاريخ التونسي الذي بعد ان كان مسيحيا يحرم الزواج الثاني لسبع قرون سيطر فيه منذ عقود طويلة الصداق القيرواني مخالفا بذلك الشريعة الربانية المقدسة - واعتقد انه نسي ان يضيف أن ذلك وعد صادق وأن الله دوما يصدق وعده وعليهم فقط الايمان بالحركة ومبادئها والانتظار .. انتظار أن يُرمي آخر علماني في البحر وان يفتح الله علينا كتونسيين مخلصين لله ورسوله ولرجالات النهضة الابرار باب الجهاد في ايطاليا والتمتع والتسري بالسبي المبين على سنة الأولين.
زوج أمي ليس استثناء لأمثاله من الرجال في وطني بل للرجال في كامل البؤرة السوداء في هذا العالم. ذكور رأوا صبيتهم العذراء تغتصب فأغمضوا عيونهم وأشاحوا بأبصارهم شطر الجزء الغربي من العالم. ابطال بدون بطولات. ثوريون لم يصنعوا ابدا ثورة. اشباه رجال يعلقون قضيبا تميمة في رقبتهم لإبراز فحولة موهومة. مخصيّون يعيشون اسرى الماضي يجترون الفتوحات العظيمة والأمجاد الخالدة. علق يمتص عرق النساء ويرى بطولاته فتحا على نهودهن ثم يقصيهن بعد الاستنزاف ليحتل الواجهة التي لا ترى غير الذكورة قيمة مقدسة. حرباء تصطبغ بكل لون يمنحها أكثر. يستنزف البشر والأفكار والمبادئ ثم يتمرغ في الثروة الموروثة بدون جهد بكل الوحل الذي يلطخ روحه.
تأملوا اللوحة المكتوب تحتها "ثمار تونس الثورة" وستفهمون لماذا لم اطالبه بتبني مبدأ يحترمني كابنة بالتبني - نسيت ان اخبركم ان حكومتنا العتيدة التي تبحث عن الاستمرار الى الابد بفضل نجاحاتها الخارقة وأخطاءها البسيطة التي تدرس كيفية تجاوزها قررت أن التبني حرام وانه لا يحق لي شرعا العيش في بيتي الذي دخله "هو" كزوج أم ذات شتاء لم يجد فيه دفئا او مسكنا.
تأملوا اللوحة المكتوب تحتها "ثمار تونس الثورة" وستفهمون لماذا لم اطالبه بالوفاء لذكرى أمي التي رحلت منذ سنوات عديدة. قبل ان يتشوه وجه الوطن. قبل ان يتحول بلدي الى اثر منسي باهت بدون روح ولا معنى. وطن فقدت الالوان فيه سحرها وعبقها الاسر.
تأملوا اللوحة المكتوب تحتها "ثمار تونس الثورة" وستفهمون أن بعض المشاريع القذرة في كل ارجاء البؤرة السوداء يلزمها الكثير من النار المستعرة التي يخفيها اصحابها بالرماد المنثور على العيون والجرائم المنظمة التي تغلق لأن القاضي قرر أن الجاني فيها هو القضاء الرباني لا القتلة الذين ارتكبوا فعلتهم عمدا في وضح النهار وأدانتهم تقارير الطب الشرعي.
تأملوا اللوحة المكتوب تحتها "ثمار تونس الثورة" وستفهمون ان كل الحكومات تمتد كالإخطبوط .. تحكم قبضتها أولا على الاعماق الفقيرة المقهورة واهبة اياها آمال الخلاص الرباني على ايدي المصطفين من طرف الله ذاته الناطقين بكلمته المحققين لوعده.. ثم عبر مسامها الكثيرة تنشر سمومها مفرقة الشعب الذي كان كتلة واحدة الى مذاهب وطوائف وفرق متعادية متناحرة بحثا عن الجنة الموعودة.. وعندما تستشعر القوة تبدأ بلعق أكثر قدر ممكن من الدماء البريئة لأنها فقط مختلفة حتى لا يبقى بالنهاية سواها كالسرطان عفاكم الله او ككل الوحوش الاسطورية التي طالما قرأنا عنها في الروايات عندما كنا صغارا.
- "بنتي" هل تناولتي الغداء؟ هل تحتاجين شيئا ؟ سأذهب الى المسجد ثم أمر لزيارة أختي.
فاجئني صوته فانتفضت واقفة. تراجعت الى الوراء فاصطدمت بالطاولة.. ارتجت فتمايلت المزهرية وسقطت قبل ان اتمكن من مسكها محدثة دويا هائلا. تناثر الزجاج حولي في حين بدى الرعب على وجهي جليا.
- هل من خطب؟ هل ضايقك أحدهم ؟
أضاف بعد برهة.
- تعلمين اني اقدر ان ارمي به وراء الشمس. قلت لك "بنتي" أني اعرف شخصيا وزير الداخلية.
ضحك ثم نظر الى البعيد كمن يغرق في ذكرى عزيزة.
- كنت لصا هذا صحيح لكننا كنا على كل حال رفاق سجن طالما سهرنا مع بعض وتبادلنا الحديث عن كل شيء. ثقي أنه مستعد ان يخدمني بعيونه.
رغم قرفي من سماع قصص بطولاته ضحكت وأنا اراه يتفحصني بنظراته المتحفزة للدفاع عني والفتك بمن يقض سلام هذا الرمز لبنوة حرمه منها القدر.
- إ..دى المريضات تح.. تح.. تضر.
نظر لي من اعلى الهوة التي تفصل انسانا اودع مشاعر التعاطف والرحمة في بئر بدون قرار عن طفل لا يزال يتعلم كيف يحبو. ابتسم. ربت على كتفي وقال:
- صغيرتي الكل يموت يوما فلماذا الجزع. انها مسافر حانت محطته الاخيرة وعليه ان ينزل.
تناول مفاتيح السيارة وخرج. وقفت عند اعلى الدرج اراقبه يمسك بالدرابزين وينزل على مهل. لما وصل الى السيارة كان يلهث بصوت مرتفع. شعرت فجأة بالشفقة عليه. عاشق للحلويات التي تتفنن ام احمد في صناعتها مهملا منذ زمن كل تعاليمي. لا يتناول دواءه إلا لما ارغمه بدمعة مصطنعة او حنان كاذب. اخبرته مرارا أن السكري يعبث بجسده الممتلئ ونزواته المجنونة تجعله يهرم بشكل اسرع لكنه ضحك:
- الجبال لا تنهار أبدا إلا بأمر ربي. حينها ستقوم القيامة ويبدأ الحساب فلا تجزعي بنتي.
الحساب والجزاء والعقاب.
رددت تلك الكلمات كثيرا. تذكرت مريضتي وتساءلت ان كان من حق البشر تولي أمر الحساب والجزاء والعقاب.
في الشهر الاخير قبل ان تحملها الى قسمي سيارة الإسعاف، محطمة الجسد وشبه مشوهة، عاشت أكثر ايام حياتها رعبا وألما. انتظرته طويلا وحيدة جالسة أمام حاسوبها. لم يرن هاتفها ولم تجد كلمة بسيطة في بريدها تبعث بقلبها المغرم الامل.
في آخر لقاء قبل ان يختفي سهرا طويلا. تناجيا وأخذهما الحلم بعيدا .. الى فضاءات اخرى غير محدودة. امتلكا كل الزمان واحتضنا الكون بأسره. اختار لها اغنية. عندما إنسابت الموسيقى عذبة تداعب قلبيهما الراجفين، صمتا.
"يا ريتني قابلتك قبل ما أقابل حد
يا ريت مشوار عمرنا يتمد
يا ريتني عرفتك من زمان
ما كنش امل في حياتي انهد
ما كنش الدمع جرح لي الخد"
تنهد بحسرة .. قال في زفرة ساخطة :
- هذه العبارة تمزقني .. تشعرني بقسوة الحياة.
- لكن ألا تعتقد أننا تقابلنا في الزمن المناسب تماما ؟
- أكيد. فقدت كل البدايات الاخرى كل معنى وصرنا البداية والنهاية.
افترقا على وعد متجدد باللقاء. لكن الوعد بقي معلقا ينتظر الزمن المناسب الذي يتمنع بلؤم.
طيلة الاسبوع الاول استسلمت مرغمة لفكرة ان شغلا ملحا او عارضا طارئا منعه. لكنه اعتاد ان يترك اعلاما او يتصل. الصمت كسر كل العادات الاثيرة وأثار اعاصير من الهواجس الخانقة.
ما ابشع قسوة الزمن لما يفقد كل ترفق. يحصد الامال ويبذر الشك. ينساب غير مكترث بالضعف البشري متحفزا للفتك بكل الضعفاء. يمضي برتابة مملة ناثرا سموما قاتلة كرجال السياسة في بلدي.
فجأة، خلال احدى ليالي الاسبوع الثاني، طفت فكرة عابثة مشاكسة .. الحب بلا أمل صار يقض مضجعه. يصيبه الارق فيلعن قدره. لهذا آثر البعد هربا من قسوة اليأس .. خنقتها العبرات. بكت في صمت لكنها انتظرت.
تواعدا كثيرا ان يخبر أحدهما الاخر بقرار البعد ان كف القلب عن النبض يوما.
متى استسلم قلبه للسكينة وان فعل أينسى النبلاء وعودهم ؟ هل يمكن ان يذوي حب اكبر من الكون بدون مقدمات ويرحل الحبيب تاركا جراحا غائرة لا تندمل وبدون كلمة وداع؟
عادت الى رسائل الوله تتصفحها. رسائل خمس سنوات من المراسلات اليومية تقريبا.
صرح صمد لسنوات وتحدى البعد والرقابة والمجتمع هل يمكن ان يهوي فجأة دون سبب ؟
في الاسبوعين الأخيرين أراها تتصفح كل الماضي. كل حرف وكل كلمة .. كل لوعة بعد وكل شهقة لقاء .. كل نبضة قلب وكل رجفة شهوة.
عاشت خلال تلك الايام كل جزئيات حب متأجج لم يخمد ولم يعرف الرتابة.
في أي نقطة توقفت الروح المغرمة عن رسم اعذب حب وصمت البلبل الشادي عن الصدح بأعذب نغمات الهوى؟
لمْ تنقطع الحبال التي تربط القمتين المتباعدتين دوما فلماذا هوت المرأة المعلقة على الجسر فجأة ؟
هل غير الرسام "غالي غالي" الخطوط والألوان في لوحته الاثيرة ورسم بدل الحبال والجسور سهلا منبسطا آمنا لأن الانتظار قتل روح التحدي في قلبه؟
لا أعلم منذ متى نسيت الهاتف الاخرس الذي تعطب في غفلة منها. أراها كلما اعياها البحث في الماضي تقف لساعات طويلة أمام اللوحة المكتوب عليها اولى سطور الغرام دون ان تشعر بالزمن.
تتهاوى لما يتسرب الخدر الى ساقيها على الارض مباشرة وتنشج.
سألت الدكتور سالم :
- هل يمكن ان يسكننا الحب حد التحطيم الذاتي؟
لم يخفق قلبي يوما لرجل، أنا "البربرية المتوحشة" كما اعتاد كل اهل الحي مناداتي لكنه شعر بإرتعاشة الرغبة المحرمة في امتلاك الأجساد الانثوية الرقيقة التي تذكرني بسعيدة رفيقة الصبى.
أراها مكومة هناك مباشرة تحت اللوحة. بقايا انسان قتله الوجد وأشفق عليها. أمد يدي في الفضاء حولي محاولة مساعدتها على الوقوف .. على بلوغ السرير او كاس الماء النصف فارغ على الطاولة. احاول أن أخبرها انه لا يزال على العهد وانه سيعود .. أن الحال بمصر غير مختلف عنه هنا .. ان معاناته أكبر .. أمتلك أكثر منها معرفة بما حدث خلال ذلك الشهر لكن أنى لي ان اخبرها ؟ وان اخبرتها هل ستعي كلماتي ؟
مر الزمن دون ان يجود بلحظة وصال تاركا اثارا عميقة على جسدها وروحها. غزاها النحول والإرهاق والشوق واضطرب عقلها.
رددت بحشرجة "سيعود وسيجد النبت لازال اخضرا يأمل بقطرات ندى رطبة". احتضنت عهد الوفاء الابدي. ورقة كُتب عليها بدمهما عهد حب. قطرات دمه المرسومة بعثت بقلبها دفئا فابتسمت. قبلتها طويلا في حين انسابت من عيونها المرهقة بالسهر والانتظار دموع صامتة فقدت القدرة على الصراخ.
ضحك الدكتور من روايتي للأحداث ومن قلب تلك الانثى الضعيفة التي تبكي حبيبا لم تره منذ أن لامست يداها يداه لمرات تُعد على الاصابع في صائفة 2009. لكن نسي أن بذور الزهور تنمو مهما غاب المطر. تكتفي بقطرات الندى التي تعانق البتلات كل فجر فتنثر طيبا.
تلك المرأة التي ظلت طفلة رغم سنين العمر .. مراهقة حالمة رغم إحباطات النساء في البؤرة السوداء .. رفيقة ايزوت في حب تريستون أول عاشقين طرقا ابواب قلبها المرهف. تريستون البطل الذي صنع قدره .. مثال الوفاء والبسالة والشرف وايزوت التي تستعد للزواج بالملك. القدر رسم لحنا آخر للحكاية. شربا خطأ الجرعة السحرية ليولد حب أكبر من كل المصاعب والأزمات والجراح. حب انتهى بالموت حبا من أجل الحبيب. حب كحب مريضتي التي تحتضر .. مريضتي التي تموت حبا من أجل حبيب طال غيابه. لكنها لن تعلم انه سيعود. شبه انسان نابضا بأمل حب صادق محطما بسبب وطن .. وطن لا يرحم الازهار.
هل يمكن ان تنمو الازهار في البؤر السوداء المعتمة؟
في ليلة انتظارها الأخيرة هرولت بين الغرف بحثا عن طيف.. عن صدى همسات.. وقفت لآخر مرة أمام اللوحة. نظرت اليها شاردة. غائبة العقل تماما.
رأت نفسها المرأة المعلقة على جسر واه بين قمتين وتحت اقدامها تمتد هوة سحيقة تبتلعها لو تقدمت خطوة أخرى ؟ رأت الحبال تتقطع بفعل الزمن. تمسكت بحافة كرسي لكي لا تهوي. غلبها الدوار. صاحت بصوت اقرب الى الانين:
- غالي يا كل الحب انجدني.
تردد صدى الصوت حولها مرارا.
- غالي يا كل الحب...
رأته على القمة المقابلة يمد لها يدا مرتعشة. صدمها منظره. غزى البياض كل شعره وهزل جسده. لكن يده جعلت تمتد.. صارت طويلة جدا. بلغتها. داعبت شعرها المنسدل في اهمال. ربتت على خدها. غزاها الخدر وتهاوت على الكرسي. نشجت بالبكاء.
- سيعود... لن يطول الغياب. اشعر انه قريب يحتويني. سأنتظرك دوما حبيبي وستأتي... همست برجاء مكلوم.
كانت تتصفح رسائله القديمة لما توقفت فجأة. كان قد كتب لها "خوفنا القاتل على نبتنا الاخضر يجعلنا مع كل بعد نشعر اننا لن نلتقي ثانية ولكننا لن نقدر ان نعيش بدون هذا الحب في عالم غير معتن ولا مكترث لمشاعرنا. عندما اتركك يوما ويطول غيابي فأعلمي انى مت. يؤلمني اني لن اقدر ان اخبرك بذلك ولن يفعل أي حد"
أعتقد أن قلبها كف عن النبض للحظات وان الدم تجمد بعروقها. لم تجد القدرة الكافية على التحكم بعقلها الوله والبقاء في شقتها وربما لم تدرك في اضطراب عقلها أن الزمن قد تغير وتونس قد فقدت الامان. فتحت الباب وانطلقت للشارع.
ربما بحثت عن بعض الهواء او عمن يشاركها ألمها. كانت تتمايل كسكرى مرددة بشكل آلي:
- عندما اتركك يوما ويطول غيابي فأعلمي انى مت. يؤلمني اني لن اقدر ان اخبرك بذلك ولن يفعل أي احد
لم تعي كلام الشابين الواقفين في طرف الشارع.
-اذا عصيتم فاستتروا ايتها العاهرة. عودي لوكر الدعارة الذي لفضك ولا تؤذينا في اخلاقنا وديننا.
- "أحمد" العاهرة مخدرة تماما، حل لكل من شاء ان ينكحها...
جراها من شعرها المشوش الى ركن معتم. كانت شبه انسان محطم. ضعيفة منهكة عاجزة. مزقا ثيابها واعتلياها بوحشية. لم تقدر ان تصرخ. عجزت عن البكاء. اسمعها الان تهذي غير مدركة لما يحدث لها :
-انجدني غالي يا كل الحب. ان الحبال قد قطعت والهوة سحيقة تبتلعني والذئاب جوعى لا ترحم ضعف الانسان.
لما ارتوى القضيب قام ساخطا لاعنا النساء سبب الفتنة والخطيئة الاولى. وببرود لم اعرفه في شباب بلدي في السنين الخوالي أقاما عليها الحد.
مزقا جسدها ببقايا زجاجة مكسورة، شوها وجهها وتركاها ورحلا ليحرسها الليل والنجوم والله المراقب الابدي لخطايا البشر الجالس هناك في علياءه وحيدا على كرسي العرش.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لا تقلقي ايتها اللبؤة
ميس اومازيغ ( 2012 / 10 / 21 - 17:19 )
ايتها (البربرية المتوحشة) ههههه لا تقلقي عما اصاب التونسيين بعد الثورة التي اريد منها اداة للحاق بركب الحضارة البشرية ان كل محاولات الغزو الثاني لشمال افريقيا لن تفلح بالرغم من كل ما يعتمد عليه احفاد غزاة الأمس من الأموال.
ان احفاد ماسينيسا , اكسل وثيهيا لن يستسلموا للخرافة مجددا ابدا.لقد تبين الخيط الأبيض من الأسود ولقد لخصت امر النصابة والمحتالين فيما اوردته بشان شابي طرف الشارع.حرما ثم ما لبثا ان حللا ثم بعد ذلك اقاما الحد بينما الحد الذي يستحقان فلقد وجدا له مخرجا ومن عقيدتهما ذاتها وهي كما تعلمين هي الملجأ مادام انها معهما ان هما ارادا السواد كما هي معهما ان هما ارادا البياض
تقبلي تحياتي ولا تطيلي الغياب


2 - الأستاذة رويدة سالم المحترمة
ليندا كبرييل ( 2012 / 10 / 22 - 02:38 )
تونس التي خلعت برقع الزيف والدجل ، ها هي اليوم تعود إلى ارتدائه ، ومع ورعها الظاهر وتسترها البادي، فإنها البلايا تلاحق رجالها الذين يفترض أنهم من نبت العهد المشرق الذي كنا نتفنن في التغزل به والتطلع إلى مثاله
أجدت في تقديم لوحة فنية رسمتها بريشتك الماهرة ، وكان لك في كل محطة من النص لقطة أدبية ممتعة،اختلط الفن بالواقع بالغوص في أحاسيس العاشق، يسيطر على هذا كله روح تتسم بالحزن النبيل على افتقاد زمن مبهر ولّى
كيف يتغير الناس بهذه السهولة ؟ لا تقدير عندي سوى أن عناصر الحداثة لم تتمكن من النفوس، لكني لا أفقد الأمل في الشعب التونسي وأنا أرى نساءه منذ فترة يخرجن في مظاهرة تتسم بالجرأة والشجاعة وهن يطالبن بالمساواة التامة مع الرجل
بذرة الخير ما زالت موجودة ، يلزمها الظرف لتزهر وتخضر، والمريضة المحتضرة وإن كانت لن تعلم أن حبيبها سيعود لكنها في أعماقها مؤمنة بعودته
يكفي هذا الإيمان ليهدد صمت المراقب الإلهي الأبدي الذي لا يتحرك أمام الشرور والمعاصي
تحية لك وللصديق ميس اومازيغ
وتفضلي احترامي وإعجابي


3 - شكرا سيدي اومازيغ العزيز
رويدة سالم ( 2012 / 10 / 24 - 12:29 )
أنا بربرية ومتوحشة واتشرف بهذا اللقب الذي تحمله جيناتي المستعربة
لكن سيدي الفاضل ياريت اقدر اكون لبؤة فانا في الحقيقة قطة تعلمت الخرمشة باكرا لكن فرق امن الدولة في العشرين قلمت اضافرها واضاف الاهل كل ما رأوا انه يحميها من ثوراتها ضد السياسة وكل من يمثلها
التونسيون لن يعودوا ابدا الى الوراء لأن المراكب دوما تسير الى الامام تمخر عباب البحر وتتقدم ولا تتراجع مهما تكن العواصف
هي ازمة وستمر فلا المجتمع المدني ولا عموم الشعب سيتنازل عن مكتسباته
ان ما يحدث الان هو دمل قطعوا عنه فجأة المسكنات التي كانوا يمنحونه اياها فتقيح وافرز كل ما فيه من عفونة وقيح
مع الايام ستشفى منه البلاد وتستعيد عافيتها وتسير الى الامام نحو مستقبل افضل

مودتي


4 - شكرا عزيزتي ليندا الفاضلة
رويدة سالم ( 2012 / 10 / 24 - 12:31 )
ستظل تونس منارة العرب رغم كل من يسعى لوأدها حية ودفنها تحت رمال الصحارى
ستقوم اقوى بعد ان تشفى كل التقرحات والدمل التي تثخنها اليوم
ستقوم المريضة يوما وستشفى
اسعدني ان خربشتي قد اعجبتك عزيزتي واتمنى ان تكون بالمستوى الذي يستحق الاعجاب حقيقة

مودتي


5 - إنهُ أكثر من رائع إبنتي الغاليه
سالم الدليمي ( 2012 / 11 / 1 - 09:26 )
سَلِمَ هذا القلم الرائع و سلمَت كاتبتنا الجديره بكل احترام .. انه حقاً نصاً رائعاً ،
كنتُ ولا ازال عند رأيي بهذا اللون من الكتابه ، انه يؤسس لمدرسه جديده في فن القصه القصيره
لون يستهوي قرّاء الأدب و المهتمون بالسياسه على حدٍ سواء ،
لا تكترثي لقلة الردود فقد اعتاد القراء على دراساتك النقديه للتاريخ الأسلامي ..
شكرا ابنتي لهذا الجهد الرائع

اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا