الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبدالوهاب البياتي

سعدون هليل

2012 / 10 / 24
الادب والفن


ميثولوجيا الموت عند البياتي
"لاتوجد في العالم ملحمة شعرية إلا وكانت في جوهرها سيرة حياة انسان"
كارلايل

سعدون هليل

ان فلسفة الموت وطقوسه تمثل حكمة لا تخص امة دون أخرى، ولا عصراً دون آخر، إذ ان الموت مصير موحد لكن طرائق التعامل معه تختلف من بيئة الى أخرى.
لعل المقاربة بين ثيمة الموت والكتابة عنه شعراً واحدة من المقاربات التي اهتم بها –بصورة استثنائية- شاعرنا عبدالوهاب البياتي، والذي جعل منها ظاهرة "حداثية" خاصة به، وهو الشاعر الذي وهب شجرة الابداع كل حياته.. وهو المبدع المعطاء النادر كزهرة برية، كلما قست الشمس عليها زاد ثمرها طيبة وجمالاً. لنتابع قيم الموت وفنية القول عند البياتي وفق النتاجات الآتية:

اولا: الموت والبناء اللغوي:
لننظر النص الآتي والذي يضمنه البياتي معاني الثورة والجمال لسوف نأخذه من الزاوية اللغوي ببنائها الدلالي والقواعدي:
"الموت في غرناطة"
"عائشة تشق بطن الحوت
ترفع في الموج يديها
تفتح التابوت
تزيح عن جبينها النقاب
تجتاز الف باب
تنهض بعد الموت
ها أنا ذا اسمعها، تقول لي لبيك
وعندما قبلتها، بكيت
شعرت بالهزيمة"
في النص المتقدم يلاحظ الاهتمام الكبير الذي اولاه الشاعر للمبنى اللغوي بجانبيه الحكائي والنغمي، فقد اعتمد على جمل الارسال القصيرة ذات النهاية المتوافقة مع بقية المعنى النصي.
ثم أنه جعل الجمل الإسمية جمل افتتاح اثيرة ليتخلص من كلمات الربط والتكرار تثقل الوزن والتفعيلة والتعبير، ومن ثم التركيب الشعري، كذلك ليعطي الجملة اهمية تخص شخوص السرد الشعري. أن نموذج التنغيم التركيبي يقارب مستوى الاداء النغمي للغة القول لأجل اعتبارات عدة، أهمها، التوافق الدلالي بين قواعد اللغة (ونحو النص الأدبي).
وفي المبنى الحكائي اقام الشاعر كياناً لنموذجين هما الأسطورة والحكاية الشعبية. ثم تمثيل الحكاية الشعبية بفرادة، (عائشة وشهرزاد والنبي يونس). وقد أتم بناءها الحكائي بمضمرات الدلائل التي تحملها الاسماء الثلاثة الآنفة الذكر، إضافة الى ما اسبغ عليها من مضامين الفداء لأجل الإنسانية، ومضامير الحكايا المرتبطة بالأسماء شعبياً وسيوسيولوجيا.
فيما جعل المبنى الحكائي الاسطوري إحتفاء بما صيغ –جديد- من ثقافة اسطورية تدور حول شخوص:
حكاية عائشة
حكاية شهرزاد
حكاية نباش القبور
حكاية جحيم دانتي
حكاية ظلام يونس
ثم أنه غطى هذه الحكايا –سواء كانت اسطورة ثقافية ام شعبية بثيمات اربع للموت هي:
* الموت لحظة قدرية زائلة: مثلها عائشة تفتح التابوت
* الموت ثورة: مثلما: عائشة تشق بطن الحوت وتنقذ النبي يونس من الظلام البشري
* الموت كشف للخفايا المظلمة من النفس البشرية: مثلما تزيح عائشة عن جبينها النقاب.
* الموت تحطيم لوجوه الساسة: مثلما عائشة تجتاز الف باب.
بل ان البحث عن خفايا النظام الشعري ومبانيه اللغوية وغايات جواهره الكلامية ليحتاج بحوثاً مطولة.

ثانيا: مظاهر متعددة لسوسيولوجية الموت:
يضعنا البياتي امام الموت كثقافة اجتماعية ملونة المظاهر مختلفة المضامين والقيم لننظر الآتي:
"ستون عاماً عمر موتي
هكذا متُّ من الحياة
ولم أزل
لم يبق سوى
ضياء هذه الشعلة الزرقاء
ووجهي الشاحب في المرآة"
ان المزج بين الآلوان لهو براعة لتشكيلية، لكن المزج بين الحياة والموت شيء محفوف بالمصائر والبصائر، ومثلما يبرع الفنان في ألوانه يبرز الشاعر صوره، وفي النص اعلاه صور الموت الملونة بالقيم وبقايا الفهم فهو:
أ- موت بدلاً عن الغناء
ب- الموت ستون عاماً مستمرة في تدهور قيم الحياة
ج – الموت ديمومة التقهقهر والضياع والفقدان
د- الموت تجاعيد شاحبة من الشيخوخة
و- الموت علو بالعدمية الى المرتبة الجمالية كإرادة الكتابة كما في النص الآتي:
"وها أنا اواصل الموت الى القرار
وكلما خرجت في متاهة
دخلت في متاهة
.....
أنا أموت
وهي في معراجها...
هكذا اصبحت الكتابة
معادلاً للموت والحياة"
ز- الموت غربة وحزن
إلا ان الروح الثورية مهيمنة على شعر البياتي على الرغم من انسياب مفردة الموت بكل تشظياتها، في جل اعماله الشعرية وفلسفته الشخصية.

ثالثا: الموت في فلسفة الفقر والثورة:
ارتبطت فلسفة الشعر عند البياتي بفلسفة افكار الفقر والثورة والتجديد. وقد نصب نفسه مدافعاً عن الانسان الفقير ضد قوى الظلام متقصداً في لغته يفيض عذوبة وثورية، وفهماً لأيديولوجيا الانحياز الانساني لنر الآتي:
"كان مغني قرطبة
ملطخاً بالدم فوق العربة
تبكيه جنيات بحر الروم
وقاطفات زهر اللؤلؤ والكروم"
إنه هنا يتقمص ثورية جيفارا وتضحية اللندي وجلالية الأندلسيين، وغنائية لوركا.. ولن يحيد عن جمالياته المصاغة على قياس محلية واقليمية فقيرنا البسيط الانسان المتعلل بالآماني: "القطف لزهر اللؤلؤ والكروم"

رابعاً: الموت تضحية عشاق:
في حوار البياتي ذات مرة تحدث عن أوجاعه قائلا: منذ "سفر الفقر والثورة" و"الذي يأتي ولا يأتي" نزفت دماً كثيراً ومت كثيراً، ذلك لأن الذي أعنيه بعين قلبي ولا ابوح باسمه، كان يتركني في كل قصيدة عند فوهة بركان ويرحل عاشقاً فقيراً "من يبحث عني يجدني ومن يجدني يحبني".
ان ديوان "سفر الفقر والثورة" قد نال شهرة كبيرة بسبب ملامسته لطبيعة مشاكل الحياة العربية- في جزأيها، العاطفي والمادي، فقد عبر عن مزاج الناس وعن رغبتهم في العيش بحب وسلام وعشقها للتغيير والحرية والرفاه، وقد صارت مباني وهموماً الشعر منعكساً ودليلاً لتلك الرغبات، كان، البياتي في طليعة روادها، العاشق الدائم لهواء الجمال والحرية، وذلك الفقير الجبار الذي قيل عن ديوانه "أباريق مهشمة" أعظم ديوان صدر في الشعر العربي، من قبل محمود امين العالم. إني لارى لقصيدة "الموتى لاينامون" خصوصية استثنائية في شعر البياتي لنتابع هذه المقطوعة:
"في سنوات الغربة والترحال
كبرت من حولك الغابة والاشجار
...
ولدت في جحيم نيسابور
قتلت نفسي مرتين، ضاع مني الخيط والعصفور
....
عائشة عادت مع الشقاء للبستان
صفافة الاوراق
تبكي على الفرات"
وهو في عشقه لموت الحياة شاعر يغني مايكوفسكي وناظم حكمت وايلوار وأرغون. إنه سقراط الذي جعل "الشاعر عرافاً" في معرفة الوجود والنبوءة. يقول البياتي:
"والليل مات
والمركبات
عادت بلا خيل يغطيها الصقيع
وسائقوها ميتون
هكذا تمضي السنون
ويمزق القلب العذاب
ونحن من منفى الى منفى ومن باب لباب،
نذوي كما تذوي الزنابق في التراب
فقراء يا قمري نموت
وقطارنا ابداً يفوت""

خامساً: مرموزات الموت والقناع:
يأخذ الموت في مواطن كثيرة من شعر البياتي صيغة المرموزات الجمالية لما يسمى بقصيدة او شعر القناع. لنهتدي بواحدة من مقولات البياتي: "تتلخص رؤيتي للموت بأن حالي يشبه حال أبي تمام الذي صورته أنه كان يسبق موته، إنه كان يسبق موته الى المدن التي يرحل اليها.
ان البياتي يرى أننا نموت من الحياة. فكيف؟
بمعنى ان الموت من أجل الحياة المرسومة بايدينا ورؤانا وفهمنا هذا الموت هو الحياة الحية. ولأجل أن يوصل هذا الفهم فقد وضع لنفسه رموزاً من اسماء تراثية جعلت اسماء نيسابور، غرناطة، قرطبة، شهرزاد، عائشة، تحاول قيمها الجمالية والميثولوجية الى البياتي وشعره مباشرة. انها ميزات شعر من مرموزات القناع الشعري الذي يأخذ من القيمة التراثية والقيمة الحضارية خفاء لنوايا داعية الثورة الشكلية والجمالية ان يقيم معالم حضارته الجديدة من خلالها. لعل البياتي ثاني أكثر شعراء العربية احتفاء بالحلاج الرمز والقناع.
حيث تزامن عمله مع اعمال صلاح عبدالصبور ولكن كلاً في اتجاه خاص ومن الناحية القيمية فإن رمزية القناع ورمزية الحلاج في شعر البياتي أخذت عمقاً مؤثراً ابعد –فلسفياً- بكثير، مما تناوله صلاح عبدالصبور.

سادساً: الموت قضية وأزمة:
لنتابع الاتي:
"أوصال جسمي اصبحت سماد
في غابة الرماد
ستكبر الغابة يا معانقي
وعاشقي
ستكبر الاشجار"
...
وكذلك في النص الآتي"
"وكنت أنت بينهم عراف
وكنت في مادبة اللئام
وشاهد عصر سادة الظلام"
ثم:
"الأرض رغم حقدكم تدور
والنور غطى نصفها المهجور"
ثم:
"مدن بالطاعون تموت
واخرى يضربها الزلزال
لكن الطاووس بلا خجل
يظهر عورته للناس"
ان الموت الذي يضفي حيوات البشر لهو بوحده قضية. ففي المقاطع اعلاه عشر قضايا، كلها لموت واحد ولقضايا مختلفة ترى ما القضايا العشر المقصودة هنا، وما الأزمات؟
إنها القضايا الاتية بأزماتها العشر:
1- قضية السماد والرماد وأزمة غابة الموت.
2- قضية العشق والعناق بمقابل ازمة فقدان الأمل.
3- قضية النمو اللامنطقي بملاءمة ازمة التوقيت الخاطئ.
4- حالة النبوءة بسوء التوقع مندسة بأزمة الخلل السياسي.
5- فخاخ اللئام بموائدهم الخاصة وعللية أزمة لاجدوى المراقبة.
6- قضية الشهادة على اشتداد الظلام محملة بأزمة النشيد القسري.
7- إقرار حتمية التغير بلا حق أزمة الخوف من نور المستقبل.
8- الطاعون المميت للمدن بمصاحبة أزمة الفجيعة الدائمة.
9- قضية التدمير بالزلزال بمرافقة ازمة استفحال الكوارث.
10- قضية موت الاخلاق بالمنافقين وتأصيل ازمة الهزيمة.
بعد هذا التجوال السريع يظل القول في قضية الموت منقوصاً وبحاجة الى تحليل دلالي واحصائي شامل وجدي. وما هذه المقالة إلا إلفات نظر الى هذه الناحية "الموت من الحياة" في شعر قامة الشعر المديدة عبدالوهاب البياتي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير