الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التعرّف لا التعارف

نافذ الشاعر

2012 / 11 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عندما نشرت سلسلة مقالات تحت عنوان (خلق لكم من أنفسكم أزواجا) و(الجنة نكاح لا زواج) اعترض البعض على فكرة المقال، فوعدت بنشر مقال لشرح النقاط التي لم يفهموها..

أقول: إن تأثر أي إنسان بسلوك معين، يرجع إلى أن هذا السلوك له في جيناته شفرة خاصة تتعرف على هذا السلوك وتبحث عنه. هذه الفكرة يمكننا أن نطلق عليها (التعرف)؛ حيث تكون الأشياء الخارجية عبارة عن مثيرات، تستدعي أنماطاً خاصة من السلوك؛ فإن ظهر المثير ظهر السلوك.
وهذه العملية أشبه شيء بعملية التذكر والنسيان؛ ففي عملية التذكر يحدث، أحياناً، أن تختزن الذاكرة أشياء كثيرة قد لا يذكرها الإنسان. بل، لا تخطر له على بال، إلا إذا مر بموقف معين أو رأى شيئاً خاصاً. عندها، نجد أن هذا الشيء المرئي يجعله يسترجع شيئاً في ذاكرته كان قد نسيه تماما.
نأخذ على سبيل المثال الأحلام، حيث نرى أحلاماً كثيرة في نومنا، لا نذكرها غالباً، إلا إذا تحقق هذا الحلم نهاراً. ونأخذ، مثلاً، العلم والتجربة الإنسانية، أو النظرية والتطبيق؛ فتجد أن الكاتب يقرأ الكثير من الأفكار والآراء، ثم هو لا يدركها إدراكاً صحيحاً، يكون نابعاً من ذاته، إلا بعدما يلتقي بهذه الأفكار في الحياة، أثناء مخالطته الناس أو التفاعل معهم، فيكون هذا نوع من (التعرف) أيضاً، أي التعرف على الأفكار النظرية مجسدة أمامه في صورة حسية.

ونأخذ، مثلاً، الطعام الذي ما أن يراه الجائع حتى يستثير عنده اللعاب. وأيضا السيجارة التي تفتح شهية المدخن دون غير المدخن. وكذلك، زجاجة الخمر، التي تثير رغبة احتسائها عند الرجل الذي سبق أن عاقرها.. وكذلك نقول في كل الأشياء المغرية التي تستدعي الغواية في قلب الرجل الذي سبق له أن اقترف أمثال هذه الغوايات. وفي هذا المعنى جاءت الإشارة بقوله تعالى: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) (الشعراء:224) أي أن قصيدة الشعر، تلقى على مسامع أناس كثيرين. لكنها، لا تحرك المشاعر المختلفة، والأحاسيس المتباينة، إلا في الأشخاص الذي سبق لهم المرور بتلك المشاعر والأحاسيس.

وأحياناً، قد يعمل بيت من الشعر، في نفس شخص عمل السحر، بينما لا يؤثر شيئاً يستحق الذكر في نفوس أشخاص آخرين يتلى على مسامعهم، لأنه لم يسبق في نفوسهم القبول لهذا التأثير. وفي هذا المعنى جاءت الإشارة بقوله تعالى:(وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم..) (المائدة:62)؛ أي أن الذين سارعوا للاستجابة لهذا الإثم، هم الذين كان المرض في قلوبهم قبل هذه المسارعة، وهو موجود بادئ ذي بدء. فالمرض كان أولاً ثم جاء الإسراع للغواية ثانياً. فالغواية تبحث عن مرض القلب، ومرض القلب يبحث عن هذه الغواية، كما تبحث البذرة عن أرض قابلة للإنبات، والأرض تبحث عن بذرة تحتضنها وتنبتها.
وانظر إلى قوله تعالى: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (الأنعام:113) إننا نجد في هذه الآية إشارة إلى أن هناك أقوالاً ضآلة تُنشر، وأحاديث باطلة تذاع، وأباطيل ملفقة تتردد هنا وهناك. ولكن، من الذي أصاخ لها السمع، وأرخى لها الأذن؟ إنهم فقط الذين لا يؤمنون بالآخرة، فكأن هذا القول الغاوي الضال، جاءهم على ترقب منهم وانتظار، فلاقي لديهم القبول والاستعداد، أو يقول المتنبي:
إنما تنجح المقالة في المرء .. إذا صادفت هوى في الفؤاد

وانظر إلى قوله تعالى: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ؛ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ..) (الأحزاب:32) إن هذه الآية تصف حركة إغراء من امرأة. لكن هذه الإشارة المغرية، لا تثير شهوة كل الناس، وإنما تقع موقعها، فقط، في القلب الذي يكون مستعداً لمثل هذه الإشارات، وهو القلب الذي يستكن فيه المرض قبل هذه الحركة. وبالتالي، هو يسارع إلى التقاط هذه الاشارة وقراءتها عند ظهور أولى بوادرها!..

إن هذا الالتقاء بين النزعة الداخلية وبين متطلباتها الخارجية، يعقبه راحة نفسية يحس بها الشخص. وهذا البحث عن المطلب الخارجي الموافق للحافز الداخلي، بمثابة بحث عن الهوية المشوشة لدى الشخص.
وقد عبر "رالف تارتر" العالم السيكولوجي على نتائج بحث أجراه حول مدمني التدخين والمخدرات قائلاً: إن هناك من الناس من هم أكثر استعداداً بيولوجياً للإدمان، مما يجعل أول كأس أو مخدر يعمل على تقوية هذا الاستعداد، بينما لا يتأثر به الآخرون، وقد قال كثير ممن شفوا من الإدمان أنهم شعروا، أنهم طبيعيون في اللحظة التي تعاطوا فيها المخدرات لأول مرة. فهي تعمل على استقرارهم فسيولوجياً، على الأقل، على المدى القصير؛ ويبدو أن أنماطاً عاطفية معينة تجعل بعض الناس يرتاحون عاطفياً لتعاطي مخدر ما عن مخدر آخر. هذا النموذج من المدمنين لهم علامات بيولوجية، حيث تقل في أجسامهم إفرازات ناقل عصبي يسمى GABA فيرتفع مستوى التوتر.
وقد وجدت إحدى الدراسات أن أولاد مدمني الخمور من الآباء منخفضي إفراز الـ GABA كانوا على أعلى درجة من التوتر، لكنهم إذا شربوا الخمور يرتفع مستوى الناقل العصبي، وينخفض مستوى توترهم. هؤلاء هم الذين يجدون في الخمر راحة لا يجدونها في أي شيء آخر، وهم الأكثر استعداداً لإدمان المهدئات أيضاً طلباً لخفض التوتر(1).

بل، الأغرب من ذلك، ما توصلت إليه دراسات علمية بأن الدافع وراء تناول أنواع الشيكولاتة هو دافع بيولوجي، وأن هذا الميل لأكل هذه الأنواع من الحلوى بفعل جينات خاصة يرثها الشخص، مما يفسر لنا الراحة التي تعقبها تناول مثل هذه الحلويات لدى بعض الأشخاص! ..

إن (التعرف) يكون بمثابة استدماج سلوكيات بعينها. فنحن، مثلاً، نتفاعل مع سلوكيات كثيرة في حياتنا، ثم نحن لا نأخذ من تلك السلوكيات إلا ما يتناسب مع طبيعتنا، وكل شخص يقوم باستدماج وإحراز سلوكيات تختلف عن الشخص الأخر.. وإلى هذا المعنى جاءت الإشارة بقوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد:17) أي أنزل من السماء ماءً كثيراً، فاستقبلت الأودية هذا الماء، فأخذ كل واد من الماء ما يتناسب مع حجمه وسعته!

من خلال ما تقدم نستطيع أن نقرر حقيقة هامة، هي أن سلوك الإنسان يستند إلى شقين، يلتحمان مع بعضهما البعض. هذه الثنائية، أو الزوجية، نجدها في كل شيء من حولنا. على سبيل المثال: سالب/موجب- لفظ/معنى- جسد/روح- قول/عمل- دنيا/آخرة- ذكر/أنثى- ذات/موضوع- جوهر/عرض- حسي/معنوي...الخ.
ونزيد هذه الحقيقة الهامة وضوحاً فنقول: لا يمكن لأي شق، أن يحيا بمعزل عن شقه الآخر، لأنه سيصبح ميتاً لا ينبض بالحياة. أما إذا تم الالتقاء؛ فسيؤدي إلى الالتحام الذي يشبه التحام القطبين الموجب والسالب، الذي ينتج من التحامهما شحنة كهربائية يؤخذ منها الضوء والحياة. وفي هذا المعنى جاءت الإشارة بقوله تعالى:(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذريات:49)

ونأخذ مثلا هنا قبلة الصلاة، فإن الاتجاه إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، كان موجودا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أصل تكوينه، لأنه من نسل إبراهيم وعلى ملته، لذا فعندما استقبل بيت المقدس لم تقر عينه ولم تطب نفسه بهذه القبلة، وبالتالي فكأن نفسه صلى الله عليه وسلم، أكرهت على شيء لا ترضاه ولا تألفه.. شيء خارجي لا تجد له أصلا في صميم فطرتها وتكوينها، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يشعر بالقلق وعدم الرضا، كما قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ..}(البقرة144)
لذلك عندما جاءه الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام سارع إلى ذلك وشعر بالألفة بينه وبين هذه القبلة.. فحدث ما يشبه الانجذاب الذي لا يعقبه انفصال أبدا.. أما أهل الكتاب فهم لا يشعرون بهذه الألفة والانجذاب بينهم وبين هذه القبلة لأنهم لم يكونوا على ملة إبراهيم، وهذا ما جاءت إليه إشارة بقوله تعالى:{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}(البقرة145)

------------------------
[2] الذكاء العاطفي: دانييل جولمان، عالم المعرفة، 2000م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الطائرات من دون طيار الفاعل الرئيسي الجديد في الحروب


.. سيول جارفة ضرب ولاية قريات في سلطنة عُمان




.. دمار مربع سكني بمخيم المغازي جراء القصف على غزة


.. المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: سنرد على إيران وقاعدة نيفاتيم




.. بايدن ينشغل بساعته الذكية أثناء حديث السوداني عن العلاقة بين