الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من المدينة الفاضلة إلى مدينة الكينونة

آزاد أحمد علي

2012 / 11 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يعتبر عالم النفس والفيلسوف الألماني المولد الأمريكي الجنسية إيريك فروم Fromm Erich 1900-1979)) واحدا من أهم منتقدي المجتمعات الغربية وحضارتها المؤسسة على نزعة الاستهلاك وشهوة التملك.
هاتان النزعتان مترابطتان لدرجة أنهما باتا يصيغان ويكونان هوية الإنسان المعاصر في العالم الرأسمالي، هذه الهوية والنمطية التي تتلخص ممارسة في المتراجحة: (أنا موجود بقدر ما أملك وما استهلك). ويبدو أن هذه المعادلة أسست لمنظومة مجتمع الاقتناء المهووس بشهوة تملك الأشياء والسلع، ليس لاستخدامها وحسب بل للتعلق بها، حمايتها وصيانتها والوقوع في شرك سحرها، التعلق التملكي بها وبالتالي عبادتها بشكل من الأشكال.
ومن جهة أخرى تطورت نزعة التملك لدرجة أن بات تكمن سعادة الشخص في أسلوب التملك الذي يحيله فورم ـ من الناحية النفسية ـ إلى شعوره بالتفوق على الآخرين. وعلى نطاق أوسع يرجح ويعيد ظواهر العنف المجتمعي والسيطرة على الآخرين ـ بما فيه الغزو ـ إلى نزعة التملك ذاتها.
ونزعة حب الملكية هذه شكلت القاعدة الأساسية لنجاح الفرد في المجتمعات المعاصرة عموما والصناعية منها بشكل خاص. إلى أن أصبحت الأنانية هي القاعدة والتكافل هو الاستثناء. فالمجتمع القائم على مبادئ الاقتناء والربح والملكية يخلق شخصية اجتماعية محور توجهها هو التملك. وبالتالي يرضى بالخضوع لثنائية الاستغلال والقهر في سبيل توثين الملكية وعبادتها دون ان يعي ذلك تماما.
وتوصل فورم إلى نتائج مهمة تكشف على أن المجتمع الصناعي الاستهلاكي الغربي المعاصر لم يعد قادرا على تحقيق السعادة الحقيقية العميقة لدى الإنسان، السعادة التي تنبع من تحقيق الذات الأصيلة وقيمه الروحية والوجودية، هذه القيم التي لخصها في منظومة مختزلة سماها ب (الكينونة)، وعنوانها الرئيس: "على أن الإنسان أن يعيش لذاته وللمجتمع ليحقق كينونته".
هذه الكينونة / الوجود الذي يفسرها ويميزها : "يتعلق التملك بالأشياء, والأشياء ثابتة ويمكن وصفها, بينما تتعلق الكينونة بالتجربة. والتجربة الإنسانية -مبدئيا- لا يمكن وصفها..."
والشروط الأساسية لنمط الكينونة هي الاستقلالية والحرية وحضور العقل النقدي. والسمة الأساسية لنموذج الكينونة هي أن يكون الإنسان نشيطا إيجابيا فاعلا. أن يجد نفسه, وأن ينمو ويتدفق, ويحب ويتجاوز بحب ورضا، ذاته المعزولة. وأن يكون مشغوفا ومنصتا ومعطاء."
ولكي تتحقق كينونة الإنسان الأكثر إنسانية وانسجاما لا بد من إحداث تغير جذري في البناء الاقتصادي والاجتماعي, وكذلك في تصورنا للطبيعة البشرية برمتها.
ويتطلب ذلك بالضرورة عمل طويل وجهود مضنية لولادة إنسان جديد ومجتمع جديد أيضا. فيجب إحداث تغير في طبائع البشر, في وعيهم وقيمهم وشخصيتهم, وبعدئذ يمكن بناء مجتمع إنساني حقيقي, ولتحقيق ذلك يميل إريك فروم إلى الاستفادة من مجمل التراث الإنساني وبخاصة التراثين الفلسفي الثوري والديني الروحاني.
لذلك فالمجتمع الذي يتخيله هو مجتمع يتخلى عن هدف الإنتاج الصرف, مجتمع مبني على أساس أن يكون الإنتاج في خدمة الاحتياجات البشرية، والعمل على الاستهلاك الرشيد. هذا المجتمع الذي يؤسس لإنسان جديد مستعد لنبذ التملك بكل أشكاله, لكي يحقق كينونته تحقيقا كاملا, والإحساس بالأمان والشغف والحب. أي الكينونة والمشاركة والفهم أيضا.
وخلاصة فكر فروم تتوج في الجمع بين محاسن وأهداف المدينة الفاضلة التي دعا إليها الفلاسفة، ومدينة الرب التي ألهمت المسيحية في مدينة مستقبلية منشودة هي مدينة الإنسان المحب المنتج: "لقد ازدهرت المجتمعات الحديثة لأن الناس ألهمتهم رؤيا مدينة الرب. وازدهرت المجتمعات الحديثة لأن الناس انطلقت طاقاتهم برؤيا التنمية في مدينة التقدم الدنيوية.
غير أن هذه الرؤيا قد تدهورت في هذا القرن, فإن كانت مدينة الرب والمدينة الدنيوية هما الموضوع ونقيض الموضوع, فإن توليفا جديدا سيكون البديل الوحيد من الفوضى والخلط الشاملين. التوليف بين الجوهر الروحاني للعصر الوسيط المتأخر, وتطور العلم والتفكير العقلاني منذ عصر النهضة، وهذه التوليفة هي مدينة الكينونة.
هذا هو محور الأفكار التي أسس ودعا لها فورم في نقده "الغربي" المتوازن لمجتمع الاستهلاك المعاصر، وخاصة في كتابه (To Have Or To Be ) الذي ترجم إلى العربية تحت عنوان "الإنسان بين الجوهر والمظهر ، نتملك أو نكون" ترجمة : سعدون زهران – الكويت – 1989، وفي عدد من كتبه الأخرى مثل "الانسان من أجل نفسه" ، "المجتمع السليم"، و"ثورة الأمل".
مدينة الكينونة لأيرك فورم ليست مدينة حديثة نموذجية بالمعنى الفيزيائي للمصطلح، ولا هي نتاج أحد شطحات المعماريين والمخططين، وإنما هي نسق حضاري بديل ومدنية تتجاوز الحضارة المعاصرة وتنبثق عندها في الوقت نفسه، ولكن بعد حين, بعد ولادة الانسان العصري الجديد وضمن شروط التغيير التي ينبغي توافرها والعمل على تهيئة مناخاتها مطولا. هذا الانسان الذي يؤمن ويقبل بحقيقة أن لا شئ خارج الانسان ذاته، ولا أحد غير الانسان ذاته يستطيع أن يعطي الحياة معنى ورونقا. وإنما الشرط الواجب توفره لجعل الحياة مفعمة بالنشاط والمشاركة هو التجرد والاستقلالية الخالصة.
كان فورم متفائلا بأطروحاته المستقبلية، وكان مفعما بالأمل والثقة، مؤمنا بأن البشرية تمر بمرحلة انتقالية نحو مدينة الكينونة التي تسودها المحبة والتكاتف، ولا يتعامل الانسان في ظلها مع الطبيعة بالتدمير وإنما بالخلق، كان يعتقد بأن ملامح المجتمع الكينوني الجديد تتشكل، المجتمع الذي يسود فيه نظام للتوجيه الروحي، لا يحتاج فيه الانسان إلى تحريف الواقع ولا عبادة الأصنام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين في معرض البندقية


.. الهجوم على رفح أم الرد على إيران.. ماذا ستفعل إسرائيل؟




.. قطر تعيد تقييم دورها كوسيط في المحادثات بين إسرائيل وحماس


.. إسرائيل تواصل قصف غزة -المدمرة- وتوقع المزيد من الضحايا




.. شريحة في دماغ مصاب بالشلل تمكّنه من التحكّم بهاتفه من خلال أ