الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفقر والعنف ووهم التحول الديمقراطي في العراق

فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)

2012 / 11 / 9
مقابلات و حوارات


حوار مع فارس كمال نظمي أجراه الإعلامي شمخي جبر في بغداد.

س- ما هو تقييمكم لمديات ستراتيجية مكافحة الفقر في العراق؟ وهل حققت نتائج على مدى سنوات مابعد التغيير 2003 ؟
ج- صادق مجلس الوزراء على هذه الستراتيجية في 24/11/ 2009 في ضوء اتفاقية تعاون بين وزارة التخطيط والبنك الدولي، في وقتٍ بلغت فيه نسبة الفقر (23)% من مجمل عدد سكان العراق آنذاك، إذ تصدرت محافظات الجنوب مستويات الفقر بنسبة (34)%، وتحديداً محافظة المثنى التي جاءت بالمرتبة الأفقر بين محافظات العراق بنسبة (49)%، فيما جاء إقليم كردستان بالمستوى الأدنى من الفقر بنسبة (5)% فقط.
وقد تضمنت الستراتيجية المعلنة عدة مراحل بدأت بوضع قاعدة بيانات إحصائية حول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للأسرة العراقية لتحديد خط الفقر وملامحه ومدى تفاوته بين المحافظات وبين الحضر والريف، وصولاً في المدى المنظور إلى ارساء دولة المؤسسات في ادارة الاقتصاد ومحاربة الفساد وضمان عدالة التوزيع وتنويع مصادر النمو في ظل اقتصاد السوق مع زيادة فرص التشغيل وتقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي وخصخصة شركات القطاع العام. وقد أصبحت هذه الستراتيجية بعد إقرارها جزءً من خطة التنمية الوطنية (2010-2014) التي أطلقت في 4 تموز 2010م.
لم تقدم أي مراجعات تقويمية رقمية رسمية لهذه الستراتيجية خلال المدة الفائتة، ولم يطلع المختصون أو الرأي العام على أي معطيات تحدد مدى التقدم أو التلكؤ الذي أصابها. ولعل أوضح إشارة بهذا الصدد وردت من وزير التخطيط العراقي مؤخراً إذ ذكر أن الحكومة خصصت في العام 2012م مبلغ (600) مليار دينار لستراتيجية مكافحة الفقر غير أن مجلس النواب خفض المبلغ إلى (476) مليار دينار (أي حوالي 380 مليون دولار فقط)، وهو مبلغ قليل حسب قوله لا يكفي إذا ما تم توزيعه على مختلف المشاريع مثل الرعاية الاجتماعية وبناء المدارس والمراكز الصحية ومحو الأمية وتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
أقول، إذا نظرنا إلى مصطلح الفقر بوصفه مفهوماً بشرياً مركباً يتصل بتدهور كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والصحية والتعليمية والثقافية، ولا يقتصر على معطيات رقمية بسيطة تتصل بمستويات الدخل أو بتوافر فرص العمل فحسب كفقر الدخل أو الفقر النسبي أو الفقر المطلق، فإن المؤشرات الملموسة المتاحة اليوم تؤكد تدهوراً مضطرداً في كل مستويات الوضع البشري في العراق استمراراً لسنوات الحصار (1990-2003)م، ولا توجد أي علامات واقعية على حدوث تطور نمائي من أي نوع؛ بل إن تبخر ثروات البلاد بنار الفساد السياسي والمالي، وغسلها بشتى الأساليب "القانونية" في الخارج والداخل معاً، إنما يجعل من الفقر مفهوماً اجتماعياً متجذراً بعمق في بنية مجتمع بات يهرول وراء لقمة العيش دونما أي غاية إنسانوية، فوق أرض تكتنز أضخم ثروات العالم قاطبةً.
فالخصخصة التي تدعو إليها ستراتيجية مكافحة الفقر ما هي إلا كلمة حق يراد بها باطل. إنها في جوهرها العملي بيعُ القطاع العام (أي المِلكية العامة للمجتمع) بأسعار بخسة ورمزية لتجار الحرب الطائفية وحيتان الفساد وأمراء الميليشيات وعرّابي الأحزاب النهمة للسلطة. فخصخصة الاقتصاد دونما قاعدة اقتصادية متينة، ودونما استقرار سياسي، ودونما نظام شامل للضمانات الاجتماعية، لا تعني أكثر من نهب ما تبقى من المال العام وتسليمه دفعةً واحدة للأقلية الجشعة المقتاتة على سحت الحروب والأزمات والفساد.
المحرومون في العراق لا يجلدهم شظفُ العيش وشحة السعرات الحرارية فحسب، بل تُنتَهَك أيضاً كرامتهم الآدمية كل يوم بحشرهم في حفرة الظلم والتخلف واليأس والخواء، بمنأى عن الحراك البشري السوي بمدياته المفتوحة على غايات سامية للحياة.


س- ما هي برأيكم الأولويات عند إعادة صياغة الستراتيجية للأعوام المقبلة، في مجالات التنمية والحد من العنف؟
ج- إن أي ستراتيجية من هذا النوع لا بد أن تستند إلى فلسفة حكم محددة ورؤية منهجية لتحديد هوية الدولة، وهو ما لم يحصل في العراق لحد الآن، ولن يحصل في المنظور الزمني القريب بسبب استمرار الصراع السياسي الدموي الذي يقوض أي إمكانية لصياغة شكل الدولة.
الرؤية الوحيدة التي يمكن القول بوجودها اليوم، هي سعي السلطة الحالية -بأطرافها المتصارعة- إلى الاستئثار بـ"غنيمة" الدولة في أقصر مدة ممكنة دون أي مسعى جوهري لمأسسةٍ مدنية عقلانية للحياة السياسية؛ وهذا الاستئثار ما كان يمكن أن يتحقق دون أسلمةٍ طائفية لهيكلية الحكم.
السلطة اللاعقلانية لا يمكن أن تنجح أبداً في تحقيق تنمية حقيقية ولا في الحد من العنف الاجتماعي بأنواعه، لأنها ببساطة ترضع من ثدي الفساد، وتديم وجودها في ظروف تنامي القسوة والتعصب وانحسار التسامح والقيم المدنية.
ومع ذلك، إذا كانت هناك من نصائح يمكن أن نسديها للحكومة الحالية، فهي الآتية:
- مكافحة الفساد على مستويين: مستوى مباشر آني يتضمن إصلاحات إدارية تحتية جذرية، وإجراءات قضائية فوقية جريئة؛ ومستوى ثقافي ستراتيجي غير مباشر يتضمن إعادة هيكلة نظم التعليم والإدارة وفق رؤية مدنية محددة لشكل الدولة.
- سن وتنفيذ قانون متطور للضمانات الاجتماعية بأبعادها المالية والصحية والتعليمية والخدمية، يراعي مكافحة الفقر بوصفه مفهوماً حضارياً مركباً وليس اقتصادياً فحسب.
- سن وتنفيذ قانون متطور وصارم للضرائب، يشمل النشاط المصرفي والصناعي والتجاري والزراعي، ويستثني ذوي الدخل المحدود، وفق آليات تراعي عدالة توزيع الدخل.
- التخفيف من أزمة السكن بطريقة البناء العمودي، عبر استثمارات يجري تقييدها بأقساط مريحة مدعومة من الدولة لصالح الفقراء.
- تمويل الدولة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة بما يقلل من معدلات البطالة وينشط اقتصاد السوق دون الإخلال بمبدأ الضمان الإجتماعي وحماية الدولة للفرد.


س- هل استهداف مستوطنات الفقر يحد من عمليات العنف التي يشهدها المجتمع ؟
ج- بنظرة موجزة لنتائج عدد من الدراسات النفسية والاجتماعية ذات الصلة، والتي أجريت في بضعة بلدان عربية وغربية خلال العقود الثلاثة الماضية، وجد أن ظواهر الفقر والحرمان والبطالة يمكن أن تؤدي إلى السلوك الاجرامي، والتفكك الأسري، وتشرد الأحداث، وسيطرة الشعور بالفشل والقنوط واليأس والضياع والإحباط والعزلة والاكتئاب، وإلى ارتفاع نسب جرائم السرقة بالإكراه والاغتصاب والبغاء وتعاطي المخدرات والاتجار فيها، وإلى التصويت لصالح الأحزاب المتطرفة، وتبني اتجاهات متطرفة يمينية أو يسارية على حد سواء، وتغذية الاغتراب السياسي وممارسة العنف الفردي والجماعي لا سيما بين الشباب الذين هم أكثر استعداداً للانخراط في حركات التغيير العنفي ومنها الجماعات الدينية المتشددة.
غير إن هذه المعطيات السلبية للفقر لا تنفي إمكانية أن ينبثق منه وعي إيجابي بالظلم بما يتضمنه من مساعي الاحتجاج والتغيير السلمي البنّاء، إذ يعتمد ذلك على الإطار الثقافي- السياسي الذي تتموضع فيه فئات المحرومين.
فكثيراً ما يرى الفقراء أوضاعهم البائسة أمراً قدرياً لا فرار منه يقودهم إلى الإحباط واليأس والتسليم الذليل بالمصير، أو قد تقودهم طاقة المظلومية المكبوتة إلى التنفيس العدائي عنها بالتطرف السياسي أو الديني أو عبر الممارسات العنفية الإجرامية المتنوعة، دون أدنى دافع لمقاومة النظام الاجتماعي المنتهك لآدميتهم.
وبالمقابل، فإن الوعي بالحرمان، ومقايسة الفرد لأوضاعه الشخصية أو أوضاع جماعته بأوضاع الآخرين، ضمن رؤية إنسانوية منظمة فكراً وسلوكاً، يمكن أن يقود إلى انبثاق حركات التغيير الفاعلة ذات الزخم الإصلاحي أو الثوري، بما يؤدي إلى إعادة التراتبية الدولتية والمجتمعية على أسس أكثر عدلاً وعقلانية. وهذا ما يفتقر إليه فقراء العراق اليوم لأسباب لا يتسع المجال لسردها الآن، سوى القول أن المساعي الحثيثة لأسلمة الدولة والمجتمع قد ارتهنت الفرد العراقي عموماً خارج إرادته الحرة الباحثة عن التغيير، وكبلته بمشاعر خوف وذنب حيال قوى افتراضية باتت تحصي عليه أنفاسه.


س- ما هي اوجه الترابط بين الفقر والعنف والديمقراطية ؟ وماهو مدى أثر عاملي الفقر والعنف على التحول الديمقراطي؟
ج- النتاج النفسي الرئيس للفقر لدى الأفراد والجماعات هو الإحباط والذل اللذان بدورهما يقودان إلى التطرف والاستياء والانتقام من الآخر المتمايز طبقياً أو فكرياً. وبالمقابل، فإن استشراء العنف المجتمعي يقوّض مساعي الدولة لمكافحة الفقر والحد من أسبابه ونتائجه على حد سواء بسبب تصدع أركانها وتلاشي قدرتها بالتدريج على وضع الخطط الستراتيجية وتنفيذها.
ولذلك فالقول أن مجرد فرض الآليات الديمقراطية (كالانتخابات وحرية التعبير وفصل السلطات الثلاثة وليبرالية الإعلام،...) كفيل بمعالجة معضلتي العنف والفقر، هو محض افتراض نظري قد لا ينجح بالضرورة بفتح بوابات الرفاهية والسلم الاجتماعي على نحو تلقائي مباشر عبر تكنيك "السبب- النتيجة". فالتحولات الديمقراطية الحقيقية لا وجود لها إلا حين تأتي مصحوبةً بخطط الإصلاح الاقتصادي العدالوية، وببرامج المصالحات الوطنية التوافقية، إذ عندها تستحيل الآليات الديمقراطية إلى وعي اجتماعي متجذر بقضيتي الحرية والعدل.
الديمقراطية نظام حكم يسعى تدريجياًً لإشباع حاجات الناس الأساسية للخبز والحرية، ضمن إطار جدلي تتفاعل فيه الحقوق السياسية بمباديء العدالة الاجتماعية. وبالمقابل، إن انحسار العنف الاجتماعي بأنواعه بالتزامن مع الانتعاش الاقتصادي وانخفاض مستويات الحرمان، يمكن أن يشحذ الوعي السياسي (الجماهيري والنخبوي) بجدوى القيم الديمقراطية بشقيها السياسي والاجتماعي.
ما يحدث في العراق اليوم، هو اختلال بنائي ووظيفي في العلاقة بين رؤوس المثلث الثلاثة: الفقر والعنف والتحول الديمقراطي. فالفقر والعنف بات يغذي أحداهما الآخر في متوالية هندسية متصاعدة، فيما استحال "التحول الديمقراطي" المنشود إلى آليات انتخابية روتينية خاوية ضمنتْ قهرَ السلطة الطائفية للمجتمع الرهينة بمسميات "مشروعة" مستعارة من لوائح الحقوق والحريات، ليستمر إفقار الناس ووأد حاضرهم ومصادرة مستقبلهم وتفتيت هويتهم الوطنية عبر حقنهم بمصل التعصب والكراهية.
إن نقاشنا السياسي والثقافي يجب أن ينصب اليوم على هوية النظام السياسي الذي بات ينتج الفقر والعنف بنسق "بديهي" و"مسلّم به"، وما إذا كان مفهوم "الديمقراطية" يمت بصلةٍ فعلية لهذا النظام! هذه مساحة خصبة للتحليل والتشخيص وإعادة النظر بالمسلمات.


س- هل إن اجراءات الدولة المتمثلة بالحماية الاجتماعية والاعانات والقروض للعاطلين والبطاقة التموينية كافية لمعالجة عوامل الافقار في البلاد ؟
ج- أقل ما يقال عن نظام الحماية الاجتماعية الحالي في العراق، إنه نظام عاجز ينخره الفساد والافتقار الكامل للتخطيط وللمعلومة البحثية العلمية الرصينة. ومرة أخرى أعزو أحد أسباب ذلك إلى غياب فلسفة محددة لنمط الحكم ولتضبب شكل الدولة ومنهجها التخطيطي.
الدولة في المفهوم المدني المؤسساتي الحديث ليست جمعية خيرية لتوزيع الهبات، بل هي أرقى حالات التنظيم العقلي التي توصل إليها المجتمع لإدارة شؤونه وحل أزماته. فأين الدولة العراقية من كل ذلك؟
الدولة في العراق ما تزال تتصرف بعقلية عسكريتارية استعلائية موروثة من الحقبة السياسية السابقة، وكأنها هي سبب وجود المجتمع لا العكس. إنها دولة المغانم والمكارم، تكره التخطيط والزمن والشفافية، تقدس الهدر والتبذير والترهل، تمارس الفساد المالي والسياسي والإداري إلى أقصاه بمسميات الفضيلة والدين والواجب والوطنية.
العراقيون يُسرَقون على مدار الساعة مالياً واعتبارياً وحضارياً، جيلاً بعد جيل، حلماً بعد حلم، ثم ترمى لهم فتات رواتبهم أو إعاناتهم أو حصصهم التموينية الفاقدة الصلاحية، دون أي مؤشر على إن ثمة دولة أو سلطة رشيدة باتت تلوح في الأفق.
عوامل الإفقار في بلادنا لن تعالجها سياسة "المكارم الريعية"، ولا ستراتيجية استبدال النفط بورق العملة النقدية، ولا "رغبات" المسؤولين المبتلين بداء الأمية الحضارية. الأمر مرهون بنضوج عاملين متفاعلين جدلياً وتزامنياً: انبثاق حركة احتجاج مطلبية مدنية، ونشوء نخب سياسية عقلانية واقعية. ودون هذين الشرطين سيزداد الفقراء فقراً مادياً وروحياً، وسيزداد الأغنياء ثراءً وفساداً، وستبقى الدولة محض أبنية رثة لإدامة التفاوت الاقتصادي وتعميق الحرمان والألم وترسيخ الاغتراب والعدمية واليأس.
التغيير والإصلاح لا يبدوان في متناول اليد، إلا أن عوامل تكوينهما باتت تتفاعل هناك في جدل الضرورات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لبنان.. مزيد من التصعيد بين إسرائيل وحزب الله | #غرفة_الأخبا


.. ماذا حققت إسرائيل بعد 200 يوم من الحرب؟ | #غرفة_الأخبار




.. قضية -شراء الصمت-.. الادعاء يتهم ترامب بإفساد انتخابات 2016


.. طلاب الجامعة الأمريكية بالقاهرة يهتفون دعما لفلسطين




.. قفزة في الإنفاق العسكري العالمي.. تعرف على أكبر الدول المنفق