الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العائلة تذهب إلى السينما

أكرم شلغين

2012 / 11 / 16
الادب والفن


تعود بي الذاكرة لمشهدين ما برحا يتكرران في منتصف السبعينات، أتذكرهما الآن وكأنهما شريط أستعرضه وهو يمر أمامي لعائلتين أعرفهما جيداً، أولهما لعائلة تسكن في المشروع الأول باللاذقية والأب له اهتمامات ومشاركات غير تلك التي تخص الأم وبناتها وأصغر أبنائها، فأفراد العائلة ـ بدون الوالد ـ يدردشون قليلاً فيما بينهم فتتحمس الأم وتنتشل أوراق من تحت التليفون تقلب بها قليلاً قبل أن تستقر على واحدة منها ثم ترفع سماعة التليفون وتبدأ بإدارة القرص على الرقم المطلوب وتقول: "ألو ...هون سينما [بتسكين النون] أوغاريت!؟" ثم تقول:"ولااا ابني الفيلم اليوم عندكون اجتماعي!؟" ثم تصمت لبرهة بينما يجيبها المتحدث على الطرف الآخر، ثم تقول بلهجة لاذقانية بها مزيج من السرور وتمنين أو إسداء فضل للجميع: "ولا ابني احجزولي من الساعة تلاتة للستة ومتل العادة خمس مقاعد أنا وعيلتي جايينكون....بس يكونوا لوج هاااا[أي في الأعلى]... أتي [أي أنت] بتعرف نحني عيلي [عائلة] وما منئعد صالي هااا [أي لانجلس عادة في الصالة في الأسفل]" ثم تضع السماعة وتتأكد من أنها وضعتها بمكانها الصحيح كي لا يُفصل خطها من المقسم الرئيسي كما يحصل حيناً مع البعض من أفراد أسرتها بعد إغلاقهم سماعة الهاتف...وتجيب على أسئلة بناتها بما فهمته ممن تحدثت معه على الهاتف من إدارة سينما أوغاريت فتقول عبارات منها مثلاً: آللي [أي قال لي] الفيلم اجتماعي جداً.." من المؤكد أنها كانت قد اتخذت القرار وتريد تنفيذه وستذهب إلى السينما مع أسرتها مهما كان الفيلم ولكنها تريد أن "تعجق" نفسها ومن المؤكد أيضاً أن من أجابها يعرف هذه الحقيقة ولهذا تكون إجابته متناسبة مع ما تريد هي أن تسمعه فالفيلم الذي تستفسر عنه يكون دائما فيلما "اجتماعياً"... وهكذا تبدأ بالاستعداد للذهاب إلى السينما مع بناتها وأصغر أبنائها، فقد سألت عن الفيلم وطمأنها من أجاب بأن "الفيلم اجتماعي جداً" وتذهب إلى السينما... وعند عودتها إلى البيت تجلس مع بناتها ويبدأ النقاش شفتي شو ألو هداكي الشو اسمه!؟ تصمت ثم تضيف ولك يئطع عمره شو جحش هداكي التاني...بس هداكي اللي شكله فلّس يا مفلّس بيّنلو هيي أشكرا [أي وضح له الأمر بدون أي تحفظ أو تعديل]!؟ وهكذا يستمرون في هذه النقاشات ويعيشون على ذكرى الفيلم "الاجتماعي" إلى أن يرون فيلماً آخراً....المشهد الثاني يخض عائلة تسكن مع فروعها في إحدى قرى اللاذقية، فقد يصدف أن يكون أحدهم في المدينة ويمر من أمام سينما أوغاريت (بالمنطقة المسماة حينها ساحة أوغاريت أو ساحة البازار) ويلحظ أنّ ما تعرضه سينما أوغاريت هو فيلماً هندياً فيأتي ليخبر العائلة التي يبدأ صغارها وكبارها بالتجمهر والأخد والعطي وبعد المشاورات يقررون أنهم سيشاهدون الفيلم، ويكون عادة تنفيذهم لذلك في يوم الخميس حيث يستقلّون التراكتور الذي يقوده أحد شبان العائلة ـ وتعود ملكيته له ـ يصعدون كباراً ومعهم الجدة نحيلة القوام وصغاراً حتى بمن لم يذهب إلى المدرسة بعد...يملؤون جميعهم صندوق التراكتور (التريلا) وتبدأ الرحلة بهؤلاء النساء باستثناء السائق إذ أنه الشاب الوحيد بالاضافة إلى الذكور من الصغار...في الطريق إلى اللاذقية تبدأ التريللا بالهزهزة والتمايل إلى اليمين واليسار وكذلك إلى الأعلى عند مرور العجلات فوق حفرة في الطريق فتبدو الجدة النحيلة وكأنها ستطير حين يرتفع صندوق التراكتور وترتفع معه وتبدأ بالصراخ والتوبيخ لحفيدها الذي يقود التراكتور: "ولك عا مهلك علا مهلك...انكسر هقي" (والهق هو الحوض بلغتها)...وبعد ضحك وهز وخضخضة يصلون إلى المدينة فيقف الشاب التراكتور مؤقتاً في مكان ما وينزل حمولة الصندوق من العائلة ويقول: "اسبقوني أنا رح أمن التراكتور وبجي وراكم ركض ... امشوا من شارع القوتلي واذا وصلتوا انتظروني قبال المبولي [أي مقابل تواليت عامة للرجال كانت في ساحة أوغاريت حينها] من جهة السينما..." وبعد حين يلحق بهم راكضاً ويقول أسرعوا...وعلى باب السينما عند شباك التذاكر تبدأ وصلة قطع التذاكر والمناقرة الخفيفة المعهودة حول من يصنفه قاطع التذاكر بالصغير ويجب أن لا يدخل مبنى السينما وكذلك من يصنفه بالكبير ويحتاج لتذكرة بينما تصنفه المجموعة بالصغير ولا تقبل شراء تذكرة له حتى ولو كان بها حسم (جيش وطلاب)...وفي النهاية تُحسم المناقرة لصالح العائلة ويمررون طفلاً أو اثنين بدون شراء تذاكر فالصغير هو كذلك بفعل قوة "نقاش" العائلة وقدرتها عل الاقناع ... والصغير لايوجد مانع من مشاهدته أي فيلم...ثم يصعدون إلى المدخل المخصص الذي يؤدي إلى قاعة العرض وهم يوصون الصغار بعدم الكلام كي لا يطردونهم جميعاً كباراً وصغاراً من السينما ويحرمونهم من مشاهدة الفيلم...وعند دخولهم لابد من أن يكون حامل البيل (مصباح) بانتظارهم وهذا الأخير يحمل البيل بشكل دائم، كان ذلك في ضوء الكهرباء أم في العتمة..ويصر على قراءة التذاكر ليدل الحضور إلى أماكان جلوسهم...أما الجدة فلها حكاية خاصة مع السينما والأفلام الهندية جديرة بالسرد هنا، فما أن تطأ قدماها داخل المبنى وتقع عينها على الموكيت الأحمر حتى تخلع (كندرتها) حذاءها وتضع كلتا الفردتين تحت إبطيها وتمشي بهدوء بفستانها الطويل ومنديلها الأبيض الطويل إلى أن يشيرون لها لمكان جلوسها فتجلس وتترقب...بعد الدعايات والإعلانات و"قريباً على هذه الشاشة" و"ترقبوا باهتمام" و"قريباً جداً" وأخيراً "العرض القادم" تتحرك رقبة الجدة قليلاً وتبدو أنها قد أدركت من خلال همهمات وهمسات الآخرين أن الفيلم على وشك أن يبدأ... والأكثر تشويقاً في حكاية الجدة أنها وبالرغم من أنها أمية لاتقرأ ولا تكتب إلاّ أنها تبدأ بالبكاء عند مشاهدة أي شي وسماع أول الكلمات الهندية (وبدون معرفة ماذا يقال لأنها كما ذكرت للتو لاتستطيع القراءة لتعرف من الترجمة ماذا يقال)، وتلتقط طرف منديلها الطويل لتمسح به دموعها وأنفها...وهكذا وتزامناً مع عرض الفيلم يبدأ عرض بكاء الجدة، سواء كان الفيلم "اليتيمتان"، أم "اليتيمان"، "الشقيقتان"، أم "ماسح الأحذية" أم حتى "الاسم المجهول" (المأخوذة قصته من رواية آغاتا كريستي "عشرة عبيد صغار" أو "جزيرة الموت") فالجدة ستبكي...في الاستراحة لاتكترث بضحك أحفادها وعند انتهاء الفيلم وإضاءة الصالة تمشي مع البقية محاولة أن تخفي ماكانت به من حالة بكاء وعند الباب ترمي بحذائها إلى الأسفل فتلبسه وتتابع ثم يمشون جميعاً خارج مبنى السينما ويتابعون إلى أن يصلوا إلى مكان التراكتور فيصعدون ويعودون أدراجهم إلى القرية..وفي الطريق ترد الجدة على تعليقات الأحفاد حول تأبطها لحذائها داخل السينما: "ما رح تمشوا على طريقي مرة تانية...." وعندما يصلون القرية يبدون وكأنهم كانوا في فعالية اجتماعية كبيرة فجميع من في القرية يعرف أنهم كانوا في السينما يشاهدون فيلماً هندياً ومعظمهم يتساءل عما إذا دمّعت أم محمد! أم أم محمد نفسها فقد فهمت القصة بطريقتها وبكت على القصة التي ألفتها وعلى سماع صوت آلة الستار الموسيقية الهندية وبكت لمشاهدة الرقص والأغاني الهندية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز


.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن




.. هنا تم دفن الفنان الراحل صلاح السعدني


.. اللحظات الاولي لوصول جثمان الفنان صلاح السعدني




.. خروج جثمان الفنان صلاح السعدني من مسجد الشرطة بالشيخ زايد