الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


برتقال أبو صرّة

خيري حمدان

2012 / 12 / 2
الادب والفن


برتقال أبو صرّة
خيري حمدان
ذهب أبو علي إلى السوق صباح آخر أيام شهر نوفمبر 2012، وضع صناديق البرتقال على البسطة، استعدادًا ليوم عمل جديد، وأخذ يصيح بأعلى صوته "برتقان (برتقال) أبو صرّة يا عالم، والله من يافا، ولكم جربوا برتقان فلسطين، عليّ الجيرة ما في أزكى منه لا في الشرق ولا في الغرب، برتقان يافاوي يا خلق الله، على هون يا برتقان". كان أبو علي في قمّة نشاطه وعشقه لعمله وكان من النادر أن يمتنع عن الخروج إلى السوق للصراخ والتدليل على سلعته بلغة مقبولة ومحببة للجميع. مرّ بالقرب منه كمال أحد شباب الحيّ وقال له ساخرًا "يا أبو علي راحت عليك يا زلمه، ما خلص أبو مازن أعلنها دولة واعترفنا رسميًا بإسرائيل. هذا البرتقان اللي صروعتنا فيه من الصبح إسرائيلي يا حج! باعتراف الأمم المتحدة. دولتنا مقابل دولتهم، راحت يا أبو علي، راحت يافا وحيفا - أبو مازن تنازل عن صفد للأبد. قال بأنها صارت جزء من إسرائيل ويمكن يزورها كسائح، المهمّ صار عندنا دولة وعلم بالنسبة إلو، وإحنا ندّ لإسرائيل في كلّ المحافل، ويمكن نحاكمهم في هاغا يا حج!". فتح أبو علي فمه غير مصدّقًا لما سمعه من كمال وقال مفجوعًا "قول وغيّر يا سامي، شو هالحكي يا ابني؟ يلعن تينك على تين أبو مازن إذا كان كلامك صحيح! ولك هذه يافا يا ولد، بإيدي جبت (أحضرت) شتل البرتقان من يافا مثل ما وصّاني غسان كنفاني، لا يا سامي مستحيل يعملها الرئيس، مستحيل". ثمّ طفق أبو علي بالبكاء، لم يمتلك أعصابه وارتفع صوت جهاشه. أمسك أبو علي بطرف البسطه وقلب ما عليها من البرتقان صارخًا "ولك هذا البرتقان فلسطيني، عليّ الطلاق بالثلاثة فلسطيني". تجمّع أصحاب البسطات المجاورة في محاولة لتهدئة ثورة أبي علي، وقام آخرون بجمع البرتقال المتناثر في الأنحاء وإعادته إلى بسطة الرجل المفجوع. لكن سرعان ما نقلوه إلى المستشفى فقد أصيب بتجلّط دموي إدى إلى فالج، واستدار نصف وجهه إلى الجهة اليمنى، ثمّ تعذّر عليه الكلام والصراخ وممارسة عمله وبيع البرتقال لما تبقّى من حياته.
أبو علي أول ضحية مباشرة لإعلان الدولتين، وأول ضحية غير مباشرة لعناد الرئيس محمود عباس. كان أبو علي يتساءل طوال الوقت عن شرعية انتخاب هذا الرجل! وكيف تمكن من البقاء في هذا المنصب طوال هذه الفترة، وإذا ما كان مشروعه السلمي سويًا وقادرًا على مواجهة أطماع اليهود؟. أبو علي كان يضغط على أسنانه هامسًا لأبنائه "بدّي أشوف يافا ولو للحظة واحدة قبل ما أموت واللي يصير يصير". لكن، ما الذي يمكن أن تراه يا أبا علي في هذه المدينة التي تغيّرت كلّ معالمها الشرقية الفلسطينية، وأصبحت مدينة حضارية إسرائيلية بعد استثمار مئات الملايين من الدولارات في تنمية بنيتها يا مسكين؟. من النادر أن يصمت الرجل حين يواجهه الآخرون بهذه الوقائع، وكان يصرخ قائلا بأنّ العرب والفلسطينيين يمتلكون القدرة والإرادة والمال على تحويل الصحراء إلى جنّة. "هذا احتلال يا عالم، وليس لليهود فضل على خيرات فلسطين. برتقان يافا حزين ووحيد." كان يطالب كذلك باستفتاء شعبي يطال كلّ فئات الشعب الفلسطيني وفي الشتات العربي والأجنبي أيضًا، لمعرفة من يريد دولة ومن يريد التنازل عن أراضي الثماني والأربعين، ومن يريد أن يبيع قطعة أرضه؟. لكلّ هذا أصيب أبو علي بجلطة ولم يعد قادرًا على المطالبة بأيّة حقوق ممكنة أو التعبير عن رأيه، في الوقت الذي ارتفع صوت السياسة والتنظير والتأويل الحديث للبقاء والتعامل مع الاحتلال. هذا لا يعني بأنّه لا يوجد هناك آباء علي وسامي وكمال آخرون، قد أصيبوا بداء القهر، لتلحق بهم الجلطة تلو الأخرى، بعد إعلان الدولة أو الدولتين. لم يطل مشوار الحياة بأبي علي، وفارق الحياة بعد أيام، ليدفن كما مئات الالاف من الفلسطينيين في المهجر، بعيدًا عن جذور أشجار البرتقال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | 200 فنان يتضامنون لإنقاذ العالم من موسيقى الذكاء ا


.. أبرزهم شقو وعالماشي واحدهم وصل 38 مليون .. 4 أفلام تتنافس ف




.. شبيه عادل ا?مام يظهر فى عزاء الفنانة شيرين سيف النصر


.. وصول نقيب الفنانين أشرف زكي لأداء واجب العزاء في الراحلة شير




.. عزاء الفنانة شيرين سيف النصر تجهيزات واستعدادات استقبال نجوم