الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجدران الوهمية

خيري حمدان

2012 / 12 / 28
الادب والفن


الجدران الوهمية

دلفتُ من فجوة الباب المشرع أمامي بلهفة لعلّي أتمكن من الوصول إلى عمق الفضاء في نهاية الغرفة، أو المكتب أو الحانة أو المعبد أو ما يُستدلّ عليه بوجود الحياة في العمق. دلفت دون تردّد، كنت متلهّفًا للمضيّ نحو الفضاء القابع في الأمام، لخوفي ممّا تركته خلفي في تلك اللحظة. لا بدّ بأنّك تسأل عن ماهيّة القوّة التي لم تتوقف عن ملاحقتي سيدي العزيز؟ إنّها الذكريات بلا شكّ، تلك التي أخشى جميلها أكثر من قبيحها. أهرب منها لعلمي بأنّها لن تتكرّر ثانية، وإن عادت فستحمل أقنعة غير التي عرفتها. سأفتقد الأحبة الذين عرفتهم خلال مشوار الحياة. بعضهم فاجأني حين قفز في عربة الموت، آخرون هربوا نحو الأفق الأزرق، اختفوا من يومياتي ولم يتركوا سوى بصمات وجوههم الباسمة العابسة، قبل أن تفاجئهم حربًا عابرة، رصاصة وقحة أو امرأة لا تعرف معنىً للراحة أو الصفاء. لكنّي لم أجد في عمق الغرفة سوى جدارًا أملسَ، صلدًا، رطبًا. وقفت هناك بعض الوقت قبل أن ألتفت إلى الخلف لأقرأ خطوات الوحش الذي حملته بين حنايا صدري، كان يلهث هو الاخر تعبًا وقد أصابته الحيرة، فهل يمضي نحوي بكلّ ما أوتيّ من عنفوان، أم ينتظر إلى إشعار آخر حتى تحين ساعة الصفر لكلينا.

فجوة أخرى لاحت في الجانب الأيسر من الظلمة، قلبي دلّني على الاتجاهات الضالّة غير الواضحة المعالم. للظلمة جوانب عديدة فهناك ظلمة مضيئة وأخرى ظالمة سوداء كالحة. كيف يمكن التمييز بينها، اتركوا هذا للقلب فهو قادر على سبر معالم الظلام بانتظار خيوط مضيئة لا يمكن للصامت المنكفئ على ذاته إدراكها. هذه المرّة سأنجح، لكن عليّ أن أضحّي بشيء ما كي ألج الفجوة المتجدّدة وأنتقل إلى بهو آخر، أقبل بكلّ إيجابياته وسلبياته! ما الذي يمكنني أن أقدّمه يا تُرى؟ حسنًا، سأتنازل عن قدمي اليسرى فاليمنى أقوى وأهمّ بالنسبة لي، بدأت أحجل بقوّة نحو الفضاء الواعد بقدم واحدة وقلبين حتّى بلغت مقصدي. دلفت بسرعة نحو الداخل واسترقت السمع مجددًا إلى الخلف كي أتأكد من أن الوحش الكامن في أعماقي قد بقي في المجهول، لكن توقعاتي لم تصدق فقد كان يركض من خلفي. أصابه الذهول والحيرة، فهل يمضي خلف شياطيني وهمومي أم يعتقني من ثقل حضوره الكريه؟! لا هذه ولا تلك، لا انعتاق ما دام القلب ينبض، هكذا قال ثمّ كرّر حديثه ومطالبه بصوت أجشّ وإصرار لا يليق بوحشيته وقوّته التي يستمدها من ضعفي المصاحب لإنسانيتي.

إلى متى سأبقى هاربًا أبحث عن شعلتي؟ لا أدري ما الذي يمكنني القيام به بالرغم من أنّني على استعداد لتقديم المزيد من التنازلات والتضحيات. لديّ قدمٌ أخرى ويدان وطحالٌ وكبدٌ ورئتان وكليتان وعضوٌ تناسليٌّ أفتخرُ به أينَما حللت. لديّ الكثيرُ دون تلك الشعلة التي أضعتها خلال مراحل العبث والهروب المتواصل بين الفواصل الحياتية والنقاط الكبيرة. لماذا تتكاثر هذه الجدران، ترتفع مجددًا إلى مسافات شاهقة، لا أقدر على الوصول إلى قممها الشاهقة، هناك حيث يتربّعُ الوحشُ الكامنُ في داخلي. هل يمكنني القبض عليه أو إطلاق النار تجاهه؟ لأنهي حضوره نهائيًا من يومياتي. لكن، هل يمكن ممارسة الحياة دون المخاوف ورفقة الوحوش الذاتية؟

أين قدماك يا رجل؟ لا تسأل أرجوك، دعني أزحف نحو الجدار الآخر، قد يبدو جميلا، من يدري! "هل يستحق هذا العناء فقدان قدميك؟" لا أقدر على الإجابة الآن لأنّ إرادتي مصادرة بالكامل. أخيرًا وصلت إلى أجمل الجدران المزيّنة بألوان الحياة المختلفة، رأيت الأخضرَ والأصفرَ والأقحوانيّ والأبيضَ تختتلط جميعها بتناغمٍ عجيب، أصغتُ السمعَ جيدًا، كانت الأشياءُ من حولي تغنّي، ليس لديّ القدرة على المضيّ أكثرَ من ذلك نحو جدران أخرى. زحفت لمسافات طويلة، أعرف بأن يديّ قويّة للغاية، قادرة على مصارعة الفراغ ومقارعة المستحيل، لكنّي وفي أعماقي كنت أدعو الله بأن يريحني من الوحش اللئيم الذي لم يفتأ يركض خلفي مطالبًا بجزء من قلبي الثلاثيّ الأبعاد. كنت أنالُ مقابلَ كلّ تضحية قلبًا جديدًا تملأه الشجاعة والمحبة، لكنّ الخوفَ كان يجدُ سبيله نحوها. ما أن يتسلّل نحو مجسّات قلبي حتى أجد الوحش الراكد في أعماقي قد استيقظ مجددًا وأخذ يعبّ لجّة المياه الآسنة تجاهي، مشرعًا سيفه وكاشفًا عن أسنانه، وأنا بدوري كنتُ أحسن الركضَ والزحفَ إلى الأمامِ، نحو العدم والجمال والجدران الفارهة المتجدّدة، لعلّي أجدُ الخلاصَ من براثنه دون فائدة. كلّما ازدادت الجدران جمالا زاد ارتفاعها وازدادت سرعةُ الوحش من خلفي. متى أجد نفسي في سهل ممتدّ من حولي، لا مكان للجدران في قواميسه ولا فراغات تكفي لاستيعاب المزيد من الوحوش المتلهفة لاقتناص لحظات العمر. هناك في نهاية المسيرة، شاهدت الشعلة التي طالما تمنيت الوصول إليها والتقاطها من أيدي العدم، عادت لي قدماي مجددًا، مضيت نحو المنارة بالقرب من شواطئي قبل أن تغرق المراكب. كانت الشعلة على بعد خطوات، لكنّي استدرت بكلّ إرادتي، كنت على استعداد لمواجهة الوحش وكسر عنفوانه، كنت على استعداد لاستعادة حياتي المسروقة من براثن الخوف والخنوع، مهما كان الثمن المفروض، كان عليّ مواجهة الظلال وركوب المغامرة ومقارعة الوهم قبل أن تمتدّ يدي لتلتقط المشعل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة