الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طريق يناير إلى الاشتراكية أو غيرها

مهدي بندق

2012 / 12 / 29
مواضيع وابحاث سياسية




عند الغسق تحلق بومة منيرفا
هيجل

توطئة :
ليس ضروريا ً أن تكون الكتابة دعوة لشئ محدد . الغرض المحدد هو ما يبتغيه الأيديولوجيون ، و" خوجات " الهندسة الاجتماعية ممن يتعاملون مع البشر بحسبانهم " موضوعات " قل موجودات في ذاتها لا موجودات لذاتها ، وهؤلاء وأولئك فاشيون ولو بالإمكان Potential . إنما الكتابة الحقيقية أداة كشف، إنها أقرب لأجهزة الأشعة التي تظهر الخلل وتشير إلى موضعه داخل الجسم ، وحين تخطئ الأجهزة فلابد من الإعادة إلى أن يتم التأكد من طبيعة المرض. أما العلاج فعائد إلى الناس أنفسهم ، إن شاءوا استكانوا لما هم عليه ، وإن رفضوا وضعية " المفعول به " كان لهم ذلك . أما أنا – بدواع منهجية تنتصر لحرية الاختيار - أقول ابتداءً إن طريق يناير ليس هو بالمعبّد أمام غايتها التي لا تبدو واضحة حتى الآن ، وآية ذلك أن كل انتفاضة جماهيرية ، حتى وإن نجحت في إسقاط "طاغيتها " الدكتاتور وأعوانه لا يمكن أن ُتسمى ثورة ً ، ما لم تؤصل في روح الشعب الإيمان بأنه سيد مصيره .
*** ***
لقد درج كاتب هذه السطور- لأسباب سوف توضحها المقالة في مجملها – على الإشارة لضرورة ضبط مصطلح الثورة ، من حيث كانت بدايته علم الميكانيك الذي يطلق اسم الثورة Revolution على دوران الجسم 360 درجة حول محوره، ومن هذه الحركة استعار علم الاجتماع السياسي تلك التسمية ليسبغها على كل حركة اجتماعية تؤدي إلى انقلاب في بنيات السياسة، مصحوب بتغيير راديكالي شامل في أوضاع الملكية.
ذلك هو التعريف "المقبول" لمصطلح الثورة من وجهة نظر المادية التاريخية [ سوف نتناولها بالفحص والنقد في موضع لاحق ] أما الفكر البورجوازي فلا يشترط اقتران الثورة بتغيير أوضاع الملكية، وهذا ما يفسر توصيفه لكثير من التطورات التاريخية الطبيعية بـ " الثورة " كما في تسمية الزمن اللاحق للنهضة الأوربية بعصر "الثورة الصناعية " والزمن التالي لها بعصر " ثورة الاتصالات " و"الثورة المعرفية " ...الخ وهي تعبيرات مجازية مقصود منها تفريغ مصطلح الثورة من مضمونه الإنساني وتحويله إلي لعبة من ألعاب اللغة .
ولما كانت اللغة هي وعاء الفكر، بل ربما تكون هي الفكر ذاته ؛ فلقد برهنت القواميس العربية على غياب مصطلح الثورة بالمعاني السابقة ، إذ تشير تلك القواميس إلى معان جد مختلفة : الهيجان ، والهياج ، والفتنة ، وتأليب الرعاع على الحاكم ....الخ بل إن ابن منظور صاحب "لسان العرب" لا يلتقط من الجذر اللغوي للكلمة غير " الثؤرة " أي طلب الثأر الذي هو " الذحل" أي العداوة والحقد. وهذا كله مفهوم ومنطقي بحسبان أن المصطلح يُصك حسبُ حين يكون القوم بحاجة إليه ، وحيث غاب عن العرب معنى السياسة – كما أوضح ابن خلدون في المقدمة – فلقد كان طبيعيا ً أن ينصرف مدلول الثورة عندهم إلى تلك الأغراض البائسة.
ونتيجة لفقر وتخلف هذا "الما صدق" لمفهوم الثورة عن الممارسة Praxis في التراث اللغوي العربي ، رأينا أبناء العربية المعاصرين يستوردون قشرة المفهوم من اللغات الأجنبية ليزرعوها زرعاً فظا ً في أرضهم كلما جاءهم انقلاب عسكري أو قاموا بتمرد أو بهبة جماهيرية محدودة المطالب ما يكرس في لغتهم ذلك الغياب الوجودي – بمفهوم جاك دريدا- للثورة بمعناها العلمي الدقيق.
ربما يحاج أحدهم قائلا: وفيم الضرر لو استخدم الناس تعبير " الثورة" في موضع " الانتفاضة" Rising up ؟ الجواب: هو ضرر كبير لا ريب فيه . لأننا لا نطابق بين المتزوج Marred وبين الخاطب Engaged حيث الأول له مركز قانوني تحق به الحقوق ، أما الثاني فله – كما يقول فقهاء القانون – مجرد الأمل. وهذا بالضبط ما يفسر لوعة وفجيعة من قاموا بانتفاضة يناير حين رأوا معظم مطالبهم لما تتحقق بعد. ولعلهم يهدأون قليلا لو عكفوا على ضبط المصطلح ، إذن لأدركوا عندئذ أن امتلاك الأمل في انجاب أطفال من الجميلة شئ ، وممارسة حقوق الزوج شئ آخر. ذلك ما لا يماري فيه أحد لارتباط مغزاه بتجاربنا الاجتماعية من قديم العصور، في حين تختلط مفاهيم التمرد والانتفاضة والهبة بمفهوم الثورة بسبب قطيعته الأنطولوجية والإبستيمية مع تاريخنا القديم والمعاصر.
فما هو البديل اللغوي المتاح لتوطين المصطلح هذا في التربة "المصرية على الأقل " ؟ هل نعمد إلى إحياء دعوة سلامة موسي التي أطلقها في النصف الأول من القرن الماضي قصد إحلال العامية المصرية محل الفصحى الوافدة مع الفتح العربي في القرن السابع الميلادي ؟ واقع الحال يقول إن هذه الدعوة لم تلق ترحيبا ً من الأوساط الثقافية لأن ما تم إتلافه ( اللغة المصرية ) طوال تلك القرون لهو مما يستحيل إصلاحه بقرار فوقي كالقرار الذي أصدره عبد الملك بن مروان عام 708 ميلادي بـ " فرض " العربية الفصحى لغة للدواوين ، ومن الواضح أن ذلك القرار لم ينجح إلا عند المثقفين حال تأهلهم للكتابة حسب ُ بينما بقيت العامية المصرية Mother tongue لغة الأم يستخدمها في الحياة اليومية جميع الناس عواماً ومثقفين .
إن ذلك الإتلاف – غير المتعمد بالطبع - للغة المصرية إنما كان انعكاسا ً لسوء الأحوال التي أناخت بكلكلها على ظهور المحكومين المصريين طوال عصور الهيمنة الأموية فالعباسية فالفاطمية ثم العثمانية . حتى إذا بلغنا عصرنا الحالي ألفينا المصرية العامية - وقد صارت بما آلت إليه – مستهجنة ً يخجل من استعمالها السياسيون والكتاب ممن يتعاملون مع أجهزة الميديا بينما يسعدهم إقحام بعض الكلمات والتعبيرات الإنجليزية أو الفرنسية في أحاديثهم ! وهم في هذا معذورون بمقدار ما أمست عليه لغتهم المصرية من عجز فيلولوجي ومورفولوجي عن حمل الأفكار ذات المستوى الرفيع.
وبالمقابل فلا بد من التماس العذر للعامة ولغتهم القاصرة نتيجة التدهور الحياتي والثقافي المشهود واقعيا ً، وهل ُيتصور أن ُيطالب أفراد الطبقات الشعبية ، الذين يعانون أشد المعاناة في سبيل العيش ، مجرد العيش بأن ينتجوا فكرا ً ذا مضامين فلسفية، أو حتى أدبا ً رفيعاً يعبر عن هموم العصر؟!
لست أخفي أنني أنتقد هيمنة اللغة العربية التي أكتب بها ، ولكن هذا النقد الذاتي لن يكون له مردود إلا حين يتحول إلى سؤال سوسيوثقافي صيغته : إلى متى تظل هذه الهيمنة ؟ إلي أن يتم إتلافها على يد لغة أخرى؟! وهل يمكن للغة الانجليزية أن تحل محل لغتنا العربية " الجميلة" ؟ ساعتها سوف تكون الكارثة مضاعفة ، فاللغة المصرية التي انصهرت في لغة قريش سوف تنتقل من مرحلة الإتلاف إلى حالة الانقراض فالتلاشي حينذاك. فما الحل ؟
ربما يأتي هذا الحل ( المنشود بشدة )على أيدي الكتاب والأدباء والمفكرين الواعين بخطورة الأمر، وهو حل لا يلجأ إلى النصائح والتحذيرات ، بل يأتي يقينا ً عبر ترقية الإنتاج الفكري والأدبي ، وربط غايات الإبداع بالممارسات اللغوية المخصبة بفكر إنساني ينبذ النزعات الدكتاتورية والفاشية والشوفينية الثقافية ، ويحترم خصوصيات الناس جميعا ً، وبالتحديد خصوصيات الأقليات من المختلفين مع الأكثرية عقائديا ًوعرقيا ً ومذهبيا ً...الخ
يومها سوف يكون بالمستطاع ليس فقط توطين مصطلح الثورة ( المستورد ) بالتربة المصرية والعربية ، بل سيكون بمقدورنا نحن خلقه بأيدينا ، وتنشئته على أعيننا ، ثم استخدامه الاستخدام العلمي الصحيح .

مراجعة ضرورية للنتائج السابقة
معظم ما تم استعراضه حتى الآن يمكن النظر إليه من زاوية علم الاجتماع السياسي وحينئذ سوف يبدو صحيحا ً لا غش فيه ، غير أن الحقيقة ليست حكراً على زاوية واحدة للرؤية ، ما لم تكن الأيديولوجيا هي المهيمنة على عقل الباحث . ولعل التذكير بتعريف الأيديولوجيا في هذا المقام أن يمنح المتبصر مجالاً لتأمل ظاهرة الثورة بمنأى عن اليقين المفترض في الرؤية الأولى .
فالأيديولوجيا على صعيد الفكر هي وعي جماعة معينة ( والكاتب منهم بالطبع ) تمارس به النظر لفهم العالم وإدراك مركزها فيه ، أما على أرض الحياة العملية فهي بهذا الوعي المحدد والمحدود سعي من الجماعة لتحقيق مصالحها أولاً وثانيا ً وأخيراً . وعليه فإن الأيديولوجيا – بوصفها نسقاً للتصور – تتميز عن العلم بكون الوظيفة العملية فيها غالبة على الوظيفة المعرفية ، وهي إلى هذا وذاك تتبدى دوما في حدود الموقف السانكروني Synchronic الجامد تاريخياً مما يجعلها منتجة لرؤية دوجماطيقية لا مهرب منها قد تنطوي على حقائق أو على أباطيل أو على الاثنين معا ً لكنها في كل الأحوال غير مؤسسة على براهين موضوعية . ولعل " دانيال بل " لم يجانب الصواب حين أعلن عن سقوط الأيديولوجيا حال تراجع الاهتمام البحثي حول الطبقات الاجتماعية Social classes الكلاسيكية مقابل التركيز على الشرائح الاجتماعية Social Layers والجماعات الفرعية ( مثلا جماعات المكانة التي أشار إليها ماكس فيبر ) والأقليات الدينية والعرقية ، فضلا عن الأفراد في ظل فكر ما بعد الحداثة.
وعليه يبدو أنه لا مناص من أخذ هذا النتاج المعرفي الجديد في الاعتبار حين يتصدى الباحث المعاصر لتحليل المفاهيم المعاصرة للثورات ، وإلا وقع في الجمود الفكري الذي هو معاد بطبيعة الحال لجوهر الثورة بما هي تغيير راديكالي لا غش فيه .
*** ***
هذا النقد للأيديولوجيا يقابله ضرورة استدعاء المنهج العلمي Scientific Method كما هو متفق عليه بين المشتغلين بالعلوم الانسانية ؛ ولهذا فإن سؤال هذا المنهج العلمي عن طبيعته يغدو مطلوبا ً لأجل التقدم في مسارات البحث عن الدلالات المعرفية للثورة المصرية باعتبار العلم هو المعرفة المنظمة المتعلقة بالطبيعة وبالمجتمع البشري وبالفكر ذاته ، وهذه المعرفة تتميز بكونها مستخلصة من القوانين الموضوعية والتي يتم اكتشافها من خلال البحث في خصائص كل ظاهرة على حدة . ولهذا فالعلم مختلف عن مجرد المعرفة السطحية بفضل إتباعه لمنهج خاص قائم على البرهنة ، إضافة إلى تميزه بالارتكان على مصطلحات منضبطة .
فما هي خصائص هذا المنهج ؟
1- سعيه لوصف الظاهرة عن طريق الملاحظة والتجربة وليس على أساس التخمين .
2- استخلاصه للقوانين المتعلقة بالظاهرة وذلك عن طريق الاستقصاء Investigation
3- قيامه ببناء الفروض الضرورية لبدء رحلة البحث .
4- إصراره على التحقق من النتائج التي يتوصل إليها البحث باختباره لصحة النتيجة وعدم وجود تناقض بين الأجزاء ، ثم عرض تلك النتائج على الواقع ما أمكن .
لقد فرّق المنهج العلمي بين العلم بما هو نشاط عقلي تجريبي ممنهج Methodizing وبين ما يشبهه دون أن يطابقه حتى إن أعطى نتائج مقبولة ، مثل : غير العلوم Nonscience كالدين والفلسفة والفن والأيديولوجيا حيث لا تتفق مع العلم لا في منهاجه ولا موضوعه ولا هدفه أما اللا علم Unscience الذي يتمثل في السحر والأسطورة والفراسة والتنجيم فلا محل له – عند المنهج العلمي – من الإعراب .
بالطبع يستطيع الباحث أن ينتج بواسطة المنهج العلمي نظرية معينة ، على أن هذه النظرية تظل قابلة للتجاوز وللتجريح وللتخطئة – كما يقول فيلسوف المناهج سير كارل بوبر – ُتتجاوز بماذا ؟ باستخدام المنهج العلمي ذاته ، وهكذا يضمن العقل العلمي لنفسه ألا يقع فريسة للجمود والتحجر ومن ثم الانقراض والتلاشي.
وينتج عن تطبيق المنهج العلمي كما هو موضح بالفقرة السابقة الاطمئنان إلى أن تغيير زوايا الرؤية - في سياق هذا المنهج - خليق بالكشف عن وقائع جديدة مصحوبة بنتائج جد مختلفة . وليس هذا مما يوصف بالتناقض ، فلا مراء في أن التغير و الصيرورة هما أساس الكون . وآية ذلك أن ما يبدو ثابتاً في الطبيعة ليس إلا نتاجاً لتحول سابق، وهو في الآن نفسه رهن تحول قادم . فالشمس التي نراها تشرق علينا اليوم، ليست هي إطلاقاً شمس الأمس . لقد فقدت شمس اليوم جزءاً من كتلتها جراء ما حدث فيها من اندماج نووي، تحولت به كمية من ذرات الأيدروجين إلي ذرات هليوم، وانطلق الفارق في الوزن بين النوعين ،على هيئة طاقة حرارية وإشعاعات، ومع استمرار عملية الاندماج النووي هذه فإن 4000 مليون سنه قادمة ستكون كفيلة بنقل الشمس من نجم مشع إلي جرم مظلم أو ثقب أسود يبتلع كواكبه السيارة،كما نبتلع نحن لحم الدجاج المشوي.
وحين قال الفيلسوف الإغريقي هرقليطس " أنت تنزل النهر ولا تنزله" فلقد كان يعبر عن حقيقة جوهر الوجود في تغيره الدائم. فالموضع الذي أحسبه ثابتاً في النهر، هو في الواقع ماء متدفق، وعليه فأنا في نهر جديد كل لحظة . وحتى " الأنا" الذي أراه وأري به الأشياء، ليس إلا نقطة مفترضة متقاطعة علي خطوط طولية و عرضية متحركة، بعضها يمثل غرائز الجسد ورغباته, وبعضها يكشف عن أوامر ونواهي المجتمع المحيط ، وأما محرك " الأنا " فهي " النفس " التي يكتنفها الغموض حتى ليمكن القول بأنه يوجد بالفعل شئ شبيه بالأنا (لكنه ليس أنا) دون أن يكون معروفاً لديّ، مثل الجنين الذي كنت، والكيان الجسدي الذي يبتعد عني حين أنام. ومع ذلك فكل إنسان يشعر بأنه هو هو، تؤكد له ذلك ذكرياته وبصمات أصابعه . بيد أنه يقف مبهوتاً أمام اللغز الأعظم : الموت. فالموت هو غياب دائم، لا عودة منه، وكل تصور للذات بعد أن تغيب إنما هو محض افتراض، وحتى ما يطمئن به المؤمن نفسه من اعتقاد بوجود عالم آخر، إن هو إلا إنتاج لفكر الحضور . وعلي العكس فإن الغياب لا فكر له ولا هوية ، وكل محاولة لسبر غوره لابد ينفيه باعتباره غياباً. وهكذا تعود " الأنا " إلي المربع رقم صفر,حيث يخلي " اليقين" الملعب لبديله الاحتياطي : الشك، ذلك اللاعب القادر وحده علي إحراز الهدف تلو الهدف، لا في مرمي الخصم، بل في مرماه هو.
فما هو الشك . إنه ليس الإنكار الذي قال عنه أبو العلاء [ ويعتري النفس َ إنكارٌ ومعرفةٌ / وكل شئ له نفي وايجابُ ] بل هو فعل يقع في منزلة بين منزلتين ، الهدم والبناء فهو يهدم ليبني، ثم يعود ليهدم ما بناه . إنه يشكك الطفل في طفولته، وما يلبث حتى يهدم هذه الطفولة ، منتقلا بها إلي الصبا و الشباب، بعدها يمحو الشباب بالنضج والكهولة، فإذا اكتملا حذفهما منتقلا بالكائن إلي الشيخوخة، فالعجز، منهياً هذا العجز بالموت . وكما قيل : إذا تم شئ بدا نقصه توقع زوالاً إذا قيل تم
فكيف إذن يتحدث البعض عن جوهر ثابت للذات, علي حين أن هذه الذات لا يمكن تعريفها إلا بالسلب؟ فالطفل لا يعرف الأنا إلا حين يدرك أنه ليس أمه . الأنا إذن انفصال واستلاب. انفصال عن الطبيعة، وانفصال عن المصدر والمنبع( الأم) ثم هو انفصال عن العشيرة والقبيلة، وأخيراً هو استقلال نسبي عن الدولة حين تباشر الدولة مهامها التنظيمية للمجتمع.
والحاصل أنه كلما كثرت وتعددت مهام الدولة التنظيمية، كلما ضاقت المساحة التي يتنفس فيها الفرد حريته، ويؤكد فيها ذاته، ويمارس بها نشاطه العقلي ّ . ويظهر هذا بوضوح في بلدان ما يسمي بالنمط الآسيوي للإنتاج Asiatic mode of production وأساسه وجود دولة مركزية قوية . بدونها لا تنجح عمليات ضبط النهر وسكان ضفتيه، ولا تبني منشآت الري الزراعي، ولا تتوقف المنازعات بين الزراع حول مياه الري و الصرف.
والحقيقة أن تاريخ البشرية برغم أنه يشكل وحدة لا تخطئها العين الفاحصة إلا أن أنماطه تنوعت وتعددت. والمعروف أن النمط Mode يتحدد بعدة عناصر.. الموقف من الملكية (عامة – خاصة – مختلطة - تعاونية) وثانياً بوضع السوق، وثالثاً بنوعية تقسيم العمل، ورابعاً بعوائد الإنتاج (نقدي – عيني- حصة من المحصول) وأخيراً بتحديد صاحب الهيمنة. فإذا طبقنا هذه العناصر علي النظام الإنتاجي الذي كان سائداً في مصر الفرعونية لرأينا كيف وضعت الدولة (= الفرعون) يدها علي وسيلة الإنتاج الرئيسية ( = الأرض الزراعية) دون أن تجعل الفلاحين أقنانا Helots ، بل تركتهم أحراراً بالمعني القانوني، بينما كانوا فعلياً تحت هيمنة حكام المقاطعات . نعم يحصلون علي جزء من المحصول ليعيشوا عليه , إضافة إلي صناعاتهم المنزلية الخاصة، ولكن ما كانوا يحصلون عليه كان يكفي بالكاد للعيش وتجديد النسل، أما فائض إنتاجهم فللخزينة العامة . وصحيح أنه كان من حقهم مغادرة الأرض دون مانع من القانون، ولكن إلي أين يذهبون من الناحية الواقعية؟ للعمل في مناجم الدولة ، مقابل أجور زهيدة (غالباً لا تدفع) وليشاركوا أسري الحروب معيشتهم البائسة في المناجم ومراكز التعدين, وليموتوا في النهاية من المرض وسوء التغذية؟! فكان البقاء في الأرض واحتمال عسف الجباة، وعصي موظفي مخازن الملك أرحم !
فما أشبه اليوم بالبارحة ، حيث تشن أقلام السلطة ( كهنة العصر الحديث ) الهجوم تلو الهجوم على أصحاب ما تسمى " المطالب الفئوية " بقصد تقزيمهم وإعادتهم إلى وضعية أشباه الأقنان في العصر الفرعوني بعيدا ً عن ثقافة التغيير التي تفتح فضاءات التفكير في قضايا الوجود مثل غاية الحياة ولغز الموت ...الخ وطالما بقي الشعب منكبا ً على تلبية الحد الأدنى من المعيشة ( المطالب الفئوية ) ُترك المجال العقلي ّ فارغا ً ، ويا ليت أسيادنا الجدد ورثة الفراعين كانوا ممن ينشغل بمثل هذا التفكير مثلما كان سادة الإغريق يفعلون ، لكن أسيادنا محض تجار همهم الأكبر الربح ومضاعفة الثروات المادية .
وهكذا يظل النمط الفرعوني قائما على تدمير عقول الأسياد والأتباع معا ً ، مضيفا ً إلى آليات هذا النمط فكرويات الفاشية كما سنوضحها في الفقرة بعد التالية . حيث خصصت ما قبلها لنقد ذاتي ضروري طالما أشرت إليه كوسيلة لتخطي كل يقين زائف .
*** ***
قال أمير الشعراء شوقي : ُخلقتُ ألوفاً لو رجعتُ إلى الصبا/ لفارقت شيبي موجع القلب باكيا .. أما أنا لو رجعت لشبابي لاستدركت ما كان طيشاً مني وخفة عقل.
من ثلاثين عاماً كتبت مقالاً بالأهرام هاجمت ُ فيه المفكر الإسلامي البارز د. مصطفى الشكعة لأسباب "أيديولوجية" ! بعدها وفي مكتب الأديب الكبير الراحل ثروت أباظة التقيتُ أستاذة الجيل د.عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" التي أنبتني على ما كتبتُ قائلة: من أنت لتقف أمام العمالقة ؟ فانتفضت مستثاراً: لا أقف أمامهم بل على أكتافهم . فقالت: أختبرك . قلتُ : تفضلي . سألتني: تعرف الاستحسان؟ أجبتُ: هو إعمال قياس خفي محل قياس ظاهر ، سألت الأستاذة : مثل ماذا ؟ أجبت ُ : إبطال الخليفة عمر لحد السرقة عام الرمادة حيث استحسن تسمية السارق بالمستعير المضطر للأخذ دون إذن بسب شدة الحاجة . قالت : والاستصحاب ؟ قلت : استبقاء الأمر الثابت في الزمن الماضي لحين قيام الدليل على تغييره أو العكس ، مثل عدم وراثة المفقود أو السماح بزواج امرأته حتى ُيبرهن على وفاته. سألت عابسة: أأزهري يا ولد؟ فأجبتها بالنفي، مستخرجا أذني من بين إبهامها وسبابتها ، أما هي فناقشتني طويلاً ثم التفتت لثروت قائلة : لا بأس به.. واستطردت مشيرة لابتسامتي المنتصرة : لولا الغرور.
كنت حرياً بالإفادة من علمها الباذخ لو لم أزعم لنفسي - مغروراً - أن " يساريتي " تفوقت على ""يمينيتها" ! ولمـّا فارقتُ زهوة الشباب وجدت علمي بأصول الفقه يعادل حبة رمل على شاطئ "بنت الشاطئ" وأما سائر العلوم فأنا معترف بوقوفي كثور الله في برسيمه أمام "معادلات" آينشتين وديراك وماكس بلانك (رغم إلمامي بفلسفة النسبية والكوانتم) كما أنني تعلمت من حقول البرمجيات والتكنولوجيا والطب والكيمياء كيف أرفس كحمار . فرحت أقول مع أبي العلاء: كلما أدبني الدهرُ/ أراني ضعف عقلي/ فإذا ما ازددت علماً / زادني علماً بجهلي .
بيد أن الجهل الذي يشير إليه أبو العلاء ليس مجرد فراغ ، بل هو "علم " بشئ موجود في الطبيعة البشرية ، هو "علم بمحدودية المعرفة البشرية " ، وهو علم بأن مصدر المعرفة موجود خارج النفس ، فهو إذن جهل حكيم يفضي إلى تواضع وتسامح لا تلاعب أو غش فيه ، والأهم أنه يؤسس لبناء قاعدة معرفية وإيمانية بالخالق الأعظم .. فأنا حين أرى وأسمع ، ثم أتعمق فعليْ الرؤية والسمع لدىّ لا غرو مكتشف أن هذين الفعلين عندي يستندان إلى مرجعية ليست تقع داخلي ، وإلا لكان جائزا ً لي أن أرى وأسمع كل شئ في الكون الفسيح ، ذلك بالطبع ليس متاحا ً إلا لإله كامل القدرة متعال على الزمان والمكان . ومن هنا فحين يقول الله لنبيه موسى : إنني معكما أسمع وأرى ، فإن ذلك لا يمنعه من أن يرى ويسمع غيرهما في نفس الوقت ، لأنه يرى برؤية هي ذاته ، ويسمع بسمع هو مرجعية نفسه ، مرجعية لا تقع خارجه بحال من الأحوال ، فهو الفعل ومصدره في آن . وهذا هو الجذر المعرفي لمصطلح المطلق أنطولوجيا ً وإبستومولوجيا ً .. وما عداه ليس إلا معرفة نسبية قابلة للتخطئة وللمراجعة وللتصويب وللتبديل ...الخ
فليس مما يعول عليه – بتعبير ابن عربي - وجود قوم يتشدقون بأنهم مؤمنون بالله ورسوله ، وهم في نفس الوقت يعلنون أن ما لديهم من آراء وأفكار لهو الحق الكامل والصواب المطلق ؟! وإنه لإعلان بقدر ما يتنافى مع الواقع النسبي للمعرفة البشرية ، بقدر ما يقود حتما ً إلى تمكين الفاشية من رقاب العباد ، وما أدراك ما الفاشية ؟!

الجذور المعرفية للفكر الفاشي
الفاشية Fascism لغة ً تعني حزمة الصولجانات المترابطة، وكان الحرس الإمبراطوري الروماني يرفعها رمزاً للسمع والطاعة دون تفكير. وأساسها الفكري أن الأمة – لا الشعب – هي مصدر السلطات بما يعني أن الشعب المتمثل في الأشخاص البالغين من رجال ونساء ممكن أن يمثلوا أقلية قياسا ً إلى الأمة التي تتضمن الأسلاف من الموتى ، بل والأخلاف الذين لم يولدوا بعد ، وهؤلاء جميعا يعبر عنهم الحزب الأوحد المؤمن برسالة الأمة ! ومن الواضح أن اعتماد تلك الأيديولوجية الشمولية العنصرية على الجموع الطيعة في المجتمع إنما يبدأ من البورجوازية الصغيرة ذات الوعي التاريخي المرتبك والمحدود .
من هنا كانت استعارة هذا المعنى للفاشية من جانب الديكتاتور الإيطالي موسوليني إذ جعله عنواناً لحزبه المعارض للديمقراطية وللسلام.
.... .... ....
هل تريد استعادة مجد روما ؟ إذن تبايعني على "السمع والطاعة" ! ولاؤك الكامل للزعيم الممثل الأوحد للأمة ، وهدفك: إخضاع العالم بأسره لعقيدتنا.. هل أنت مستعد للموت في سبيلها؟ موافق؟ مبروك فأنت من الآن فاشيّ عظيم وستركع الدنيا تحت قدميك!
.... .... ....
بهذه "البلاغة" شبه الدينية، المغرية للشبيبة والملغية لعقولها في آن؛ استطاع الفاشيون الإيطاليون السيطرة على عقول الشبيبة ومن ثم تمكنوا من اختطاف السلطة، وكذلك فعلها في ألمانيا الحزبُ النازي (بالتزوير وبالعنف الانتخابي!) لتبدأ حرب ٌ عالمية ٌ قتلتْ الملايين وانتهت بتدمير إيطاليا وألمانيا وإعدام موسوليني وانتحار هتلر.
فهل انتهت الفاشية كما انتهي زعيماها؟ لا بل تسلل فكرُها إلي جماعات "سياسية" - خاصة في عالمنا العربي- تسعى للسلطة وبنفس آليات الإغراء والإلغاء والإجبار حاملة صيغة "الجماعة الدينية هي ممثل الأمة" وهو شعار يشير صراحة أو ضمنا ً إلى الدولة الدينية . ومما لاشك فيه أن كل دولة دينية- صريحة أو مستترة - هي فاشية محضة ، لا يمكن التنصل منها مهما تكن التعهدات ، ولا يعكر على طبيعتها زعمُ أصحابها أنهم مستعدون للتسامح مع الآخر! وحاول أن تفكك هذا التعبير البائس الملتبس "التسامح" ولسوف تدرك أن ذلك لا يعني سوى كون الآخر غير المؤمن بعقيدتنا مجرما ً... لكننا سنتجاوز عن عقابه بسماحة منا وكرم ! وفي الأكمام نقول "ولكن إلى حين..." وهي كلمات – وإن ُأضمرتْ معانيها الوحشيةُ – لا مندوحة من أن تعقبها حتماً تنادياتُ الحرب ِ الأهلية في الداخل المجتمعي، ولا مناص من أن يتلوها خارجيا ً التوجه بالحرب نحو دول كبرى وصغرى ووسطى ( أنظر كتاب سيد قطب : معالم على الطريق ) وهو توجه لا حيدة عنه بحكم الطبيعة الفاشية التي لا تقبل الآخر المختلف دينيا ً وعقائديا ً. وتلك هي الجذور المعرفية للتفكير ذي الطابع الفاشي .
ولهذا – وبفضل الإضمار الماكر لفكر الفاشست المحليين – غاب عن عامة المصريين واقعُ تسلل ِ الجماعات الفاشية إلى ساحة السياسة في الخفاء شبه المعلن بفضل نص جرى تعديله عام 1976 ثم بشكل معلن بعد الإبقاء عليه – بتفاخر - في التعديلات الدستورية في مارس 2011 بما ُفهم منه أن الدولة قد انتوت – تحت وطأة الانفلات الأمني - السماح بخلط الدين بالسياسة .
ومع الانتخابات التشريعية الماضية استأسدت جماعات الخطاب " الفاشي " تحت رايات " الحقيقة المطلقة " حتى نجحت في تثبيت هذا النص بل ونجحت في تطويره ليتخطى تعبير" مبادئ الشريعة " إلى " أحكام الشريعة " تمهيدا ً للعصف بحالة السلام الاجتماعي لصالح المذابح المرتقبة ، وأما الجهلاء أمثالنا – ممن يتفاخرون بأن آذانهم ُقرصت كي يتعلموا - فقد انزووا في الصفحات الداخلية للميديا متمثلين قول الشاعر: أري تحت الرماد وميض نارٍ/ وأخشى أن يكون له ضرامُ / فإن النار بالنيران تزكو/ وإن الحرب أولها كلامُ..
فهل غير الديمقراطية من رادع لتوجهات الفاشيين المنذرين بالحروب في الداخل والخارج ؟
ديمقراطية أم هندسة اجتماعية ؟
بعد أن أسقطت ثورة يناير الحكم الاستبدادي بطغمته الفاسدة ارتفعت الأصوات المنادية "بالديمقراطية" وكأنها رجال يأتون من كل فج عميق؛ فهل بلغ الحجيج كعبتهم المأمولة ؟ هنا ينبغي علينا أن نتساءل : ترى من المؤهل لبناء هذه الديمقراطية ؟ الدولة ؟ القوميون ؟ التجمعات اليسارية واللبرالية ؟ الناصريون ؟ التيارات الإسلامية ؟ وربما سبق هذا السؤال َ سؤال ٌ أصرح: هل هذه القوى ديمقراطية حقا ً ؟ أو بعبارة قاسية لكن محددة : كيف توجد ديمقراطية وليس ثمة ديمقراطيون بل محض مهندسون اجتماعيون ؟
فما هي الهندسة الاجتماعية ؟ إنها سعي البعض لـ " تطبيق" الناس على نموذج مسبق التجهيز مثلما ُتطبق المثلثات والزوايا على نظائرها ، أو قل هي مثل سرير "بروكروست " الذي يطلب من النائم أن يطابقه وإلا إن كان أقصر مطه وإن كان أطول حز رأسه أو بتر قدميه ! وهي – الهندسة الاجتماعية أعني - بتصوراتها أنها صاحبة مشروع لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تسعى لترتيب وجود الأفراد داخل مشروعها بالدعاية والترويج وغسيل الأدمغة ، وإذا اقتضى الحال فباستخدام القوة أيضا .
على أن أصحاب فكر الهندسة الاجتماعية يطالبون بوسائل القوة الناعمة أن يقرر الناس التنازل – بحريتهم – عن حريتهم . وذلك هو المحال المنطقي، لأن الناس في اللحظة التي يقررون فيها أن يسمعوا ويطيعوا يكونون قد تنازلوا عن إرادتهم مقدما ً فلا ُيعتبرون - بنص المصطلح - شعباً بل مجرد حشد " شعبوي " مفعول به .. وكيف ُيعد مثل هذا الحشد حاكما ً لنفسه بينما هو يسلم الحاكمية لغيره تحت أي شعار دينيا ً كان أم علمانيا ً ؟
فهل يمكن للمسار الديمقراطي أن يبدأ وهذا الفكر متربص به ابتداء ؟
إن النظام الديمقراطي هو حكم مفترض فيه أن يستهدف تحقيق السعادة لأكبر أفراد المجتمع، دون أن يستعبدهم أو يذلهم، إذ يتيح لقسم كبير من الشعب أن يشارك فيه، وأن ينتخب – بحرية ووعي – الأشخاص َ الذين سيحكمونه. فهو إذن مجتمع المساواة والحرية، حيث دولة القانون والفصل بين سلطات الدولة الثلاث وتداول السلطة دوريا ً وقبول المعارضة وعدم إقصاء الأقليات ...الخ، وبهذا السلوك العام يتم تحرير وحماية وتطوير الطاقات الحيوية للإنسان . لكن الإشكالية تبدأ بالقول إن هذه الدولة تقوم على المواطنة لا على الشخصية، ذلك أن المواطنة تعني أن الفرد – الذي بلا ملامح - هو من تتعامل معه الدولة، حيث لا شأن لها بــ " شخصه " إن كان بشوشا ً أم عبوسا ً قمطريراً ، مرح الأعطاف أم نكدياً، محبا ً لجيرانه أم حقودا ً حسوداً، رجلاً كان أم امرأة ، مسلما ً أم مسيحياً أم ملحدا ً..الخ
فهل تؤمن الدولة العربية " الحديثة " ومعها سائر القوى السياسية من جماعات وأحزاب بحقوق الأشخاص فعلا ً؟ كلا فهي تصر على التدخل في تعليم وتربية وتثقيف الناس ، بل وتنسب لنفسها ديناً وكأنها شخص طبيعي، بينما هي في الواقع شخصية اعتبارية لا تموت ولا تبعث يوم القيامة مثل البشر العاديين.
ولأن الديمقراطية لا تولد إلا في مجتمع حر فلقد كان مفترضا ً قيام الدولة "الحديثة" بدعم الفردية Individuality التي هي عامود المواطنة، وأن تدع الشخصيةpersonality ليشكلها الناس بمحض إرادتهم، بيد أن هذا لا يحدث ولن يحدث ما بقيت الدولة العربية الحديثة مقتنعة بفلسفة الهندسة الاجتماعية ، وهي فلسفة تتعامل مع الكائن الحي بحسبانه مفعولا ً به وليس فاعلا ً، وبذا تخفي الدولة ُ حقيقة ارتيابها في جدارة الديمقراطية مهما تقل بغير ذلك، والأسوأ أن يشارك الدولة َ في هذا الارتياب المؤمنون مثلها بفكرة الهندسة الاجتماعية من ناصريين وماركسيين وقوميين وإسلاميين فضلا عن دعاة اللبرالية في جانبها الاقتصادي حسبُ ، ولهذا نرى هؤلاء جميعاً "يضمرون" قناعتهم بنموذج النسق الوحيد أو الحزب الواحد ، بينما هم في العلن يعرضون عبر خطاب "شعبوي " بضاعة مزجاة تحسبها تعددية وهي في الحقيقة غير ذلك.
في تاريخنا العربي الإسلامي بدأ مسار الدولة بالإقرار بأن مبدأ " الشورى" مقتصر على أهل الحل والعقد (= النخبة السياسية والدينية غير الملزمة آراؤها للحاكم) لينتهي هذا المسار إلى الأخذ بالمفهوم الغربي للمصطلح مع تحفظات مرجعها فلسفة الدولة شبه الدينية ، التي انحرفت – منذ العصر الأموي – عن غايات الدين الإسلامي الحنيف ومقاصده العظمى : تحرير البشر من الخضوع إلا لله . ولكن بمقتضى قيام دولة الخلافة أموية كانت أم عباسية أم عثمانية جرى تأميم الدين ليكون مجرد وسيلة لحماية سلطة الدولة وحكامها على اختلاف مواقعهم ، ومن ثم فقد صح قول شاعرنا أبي العلاء : إنما هذي المذاهب أسباب ٌ / لجلب الدنيا إلى الرؤساء ِ
والحاصل أن أصحاب الهندسة الاجتماعية – بوعي منهم أو بغير وعي - إنما يطمسون جوهر الصراع الحقيقي المتمثل في طبيعة العلاقة بين فقر وبؤس الطبقات الشعبية من جهة، وبين نظام الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي السائد عبر العصور .
فكيف يمكن للشعب أن يتحرر وأن يمارس حقه في حكم نفسه بنفسه ما لم يبدأ بثورة ثقافية يستعيد بها وعيه الذي استلب منه منذ انقسم المجتمع البشري إلى طبقات بعضها يملك الثروات ، وبعضها محروم منها ليس أمامه غير بيع قواه العضلية والعصبية لكي يأتي لنفسه ولعياله باللقمة الجافة وبالملبس البالي الخشن ؟

هل يترك المثقفُ شعبه غافلاً ؟
كان لمفكرنا المصري الراحل د. زكي نجيب محمود تعريف للمثقف، يقول إنه من يدرك الفوارق الدقيقة ، والرقائق الرقيقة بين ما يبدو متشابهاً عند غيره من الناس. فالشخص العادي قد يعرف أن هناك مسلمين ومسيحيين، وربما يسمع عن وجود ما يسمى باللبراليين والماركسيين .... الخ لكنه قد لا يميز بدقة بين المسلم السني والمسلم الشيعي، ومن باب أولى فهو لا يُعني بالتمييز بين الشيعة الإمامية والشيعة الزيدية، والاثنى عشرية .. الخ. كذلك تراه لا يفرق بين مسيحي أرثوذكسي ومسيحي كاثوليكي وثالث من البروتستانت. وأما الماركسيون فهم جميعاً شيوعيون، لا فرق عنده بين ماركسي ستاليني وآخر تروتسكايت، وثالث ماويّ.
المثقف يعرف تلك الفروق، وعلى أرضيته المعرفية هذه يمكنه أن يسبر غور كل فريق، وأن يتفهم خطوطه الفكرية والسياسية، وأن يستبصر توجهاته وآفاقه الإستراتيجية، فيقيّم تلك الفروق التقييم العلمي الصحيح، مشيراً لشعبه بما يراه صواباً فيها أو خطأ. بل وينحاز طبقياً إلى الكادحين كما يطالب بذلك أنطونيو جرامشى وسارتر .
ولعل كل من يعمل عملاً ذهنياً متصلاً بالشأن العام في مصر قابل بهذا التعريف. بيد أن المشكلة تكمن في أن معظمهم ( ربما كسلاً أو تقية ) يعمد لتقليص دوره المفترض حين يواجه بأحداث فارقة مثل حركة 23 يوليو 1952، وهزيمة حزيران 6719، وغزو العراق للكويت 1989 وغزو أمريكا للعراق 2003 وأخيراً صعود التيارات الإسلامية بعد ثورات الربيع العربي2010. وهو ما يفسر ضعف إسهامات المثقفين المعرفية في التنظير لقضايا المصير هذه خاصة الحالّة منها وتسجيل رؤيتهم لها ومواقفهم منها.
اليوم تقف على رأس هذه القضايا ممارسات الأحزاب المدنية مثل التجمع والوفد والدستور والتيار الشعبي تجاه المنظمات الإسلامية مثل الأخوان المسلمين والتيارات السلفية وتنظيم القاعدة ومنظمة حماس التي تتقارب حيناً وتتقاطع أو تتنافر أحياناً دون أن تحتويها وحدة سياسية بله رؤية فكرية موحدة . وإن في تخبط مثقفي التيار المدني في التعامل مع تلك المنظمات لمؤد لا غرو إلى أوخم النتائج .
وكنوع من التدريب العملي فلندعُ مثقفينا لإجراء اختبار عاجل لقضايا ثلاث أولها توضيح مغزى معارضة السلفيين للإخوان في مسألة الدستور وما ستقود إليه المواجهة ، وثانيها تحليل وتقييم المراد "عملياً " بانتقاد "الظواهري" زعيم القاعدة للرئيس مرسى " الأخواني" مشككاً في موقفه من الجهاد لتحرير فلسطين، وفي جديته لإقرار حكم الشريعة في مصر، معلناً توجسه من إضمار مرسي لنية المشاركة في الحرب ضداً على إيران فضلا عما تسميه أمريكا الإرهاب [ أي التنظيمات الدينية المتطرفة وبينها طبعاً تنظيم القاعدة ] ويتعلق ثالثها بمعطيات الغضب الحمساوي (المكبوت حالياً) من رئاسة مصر التي صارت تبدي مظاهر الود تجاه العدو الإسرائيلي، بينما تتباعد كل يوم عن حليفتي حماس الإستراتيجيتين : سوريا وإيران .
وكتمرين عقلي مضاف ينبغي للمثقفين درس طبيعة تلك التنظيمات واستشراف مستقبلها على ضوء وصول بعضها إلى السلطة عن طريق الانتخابات بما يعني شرعيتها ! وفي خضم هذا الدرس سيكون على المثقف أن يوضح لنا موقفه من تلك الفكرة المضللة التي تزعم أن الديمقراطية هي مجرد انتخابات من دون وجود الأساس الفكري للديمقراطية ، والذي هو الاعتراف الصريح والفعلي بأن الشعب هو مصدر السلطات وبما يعني ترسيخ مبدأ المواطنة ( في حده الأدنى ) وتفعيل المساواة وتداول السلطة، ذاكراً أن الفاشستية والنازية والخومينية تسنمت عروشها بواسطة انتخابات كانت مجرد إجراءات شكلية تهتبل فرصة جهل الناس بمضامين الديمقراطية، لكي تثب على السلطة وثبةً لا تنزل بعدها أبداً عن صهوتها.
لنستعد معاً موقف المثقف القومي لإحدى تلك المنظمات – ولتكن حماس على سبيل المثال– في خطتها لتحرير فلسطين .. هل كان ذاك المثقف يتصور أن قادة حماس الذين يلتزمون بفرائض الدين، يمكن أن يسحلوا في الشوارع أخوة لهم مناضلين ضد ذات العدو، وأن يمثلوا بجثثهم، وأن يلقوا بهم أحياء مقيدين من أسطح العمائر؟! وهل التفت المثقف العربي لكون الإجابة عن هذا السؤال موجودة في الميثاق " الحماسىّ " المادة 27 ؟
فماذا تقول هذه المادة ؟
تقول كلاماً إنشائياً حول الأخوة والأبوة التى تحكم علاقتهم بمنظمة التحرير الفلسطينية، إلا أنها تؤكد رفضها لنهج المنظمة العلماني ( = الكافر ! ) داعية الله لها بالهداية والرشاد ! والمسكوت عنه في هذا النص واضح تماماً، ومعناه أن منظمة التحرير إذا لم تهتد ولم ترشد ( = أن تتبع خطى حماس ) فهي ضالة كافرة، وما جزاء الضلال والكفر إلا القتال والقتل والسحل! أما المادة التاسعة فتحدد بوضوح أهداف الحركة في إقامة دولة دينية غايتها نشر العقيدة بقوة السلاح، ليس في فلسطين حسبُ، بل وفي العالم بأسره، وهى في هذا تسير على هدى الشيخ سيد قطب الأخواني صاحب كتاب "معالم في الطريق" الذي دعا فيه الى محاربة روسيا وأمريكا وأوروبا واليابان والصين، وأفريقيا حتى يدخل أهلها في دين الإسلام (راجع معالم ....ص 98 ، 99 دار الشروق ط 15 – القاهرة 1992) ولأن حماس تعد نفسها جناحاً من أجنحة الأخوان المسلمين (المادة الثانية من الميثاق) فلا ُيستغرب منها إن اتبعت خطى مفكرها الراديكالي قطب، بل وأن تضع أفكاره موضع التنفيذ، دون التفات الي النتائج الكارثية التي سوف تتمخض عن هذا الإعلان الحماسي القطبي، والتي ستحيق حتماً بالشعب الفلسطيني أولاً ثم بالشعوب العربية من بعده. وهى لا تنسى في غمرة وهمها بأنها ستحقق النصر على دول العالم المعاصر بأسره – أن تذكّر بأن البلاد التي سوف تفتحها إنما ستكون ملكاً لدولتها (حق رقبة) وأما أصحابها الذين سيظلون أحياء بعد الغزو الحماسىّ فليس لهم من أرضهم إلا حق المنفعة (المادة11)
إن تفنيد دلالات مثل هذا الميثاق وغيره من أدبيات تلك التنظيمات ليعتبر من أولى وظائف المثقف الحقيقي ، بحيث يُعد الازورارُ عن نقده وتفنيده بمثابة تسليم الشعب غافلاً عما ينتظره جراء غياب الوعي السياسي المرتكز على ثقافة أصيلة لا غش فيها . وكلمة أصيلة هنا لا تعني بالضرورة الرجوع إلى السلف على نحو ما سنري في الفقرة التالية .
هل الأصالة هي السلفية ؟

السلفية Ancestralism اتجاه في الفكر الإسلامي خطابه قطعي صارم discourse Dogmatic يدعو إلى فهم الكتاب والسنة برؤية السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، الذين قصروا استنباط الأحكام على نص القرآن الكريم والأحاديث النبوية مستبعدين سائر الوسائط الفقهية التي تألقت مع ازدهار الحضارة الإسلامية كالقياس والاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة ...الخ وعليه فواجب المسلم المعاصر- بتوجيهات الفقيه السلفيّ - الابتعاد عن كل المدخلات الغريبة عن روح الإسلام وتعاليمه، ولا سبيل لذلك بغير التمسك بآلية النقل، والإعراض عن "شطحات" العقل ومزالقه. وبهذا الإقصاء للعقل فإن السلفية لا مندوحة تمثل أحد التيارات الإسلامية العقائدية الموروثة والتي قامت ضداً على الفرق الإسلامية الأخرى، خاصة المعتزلة أصحاب الاتجاه العقلي في الإسلام . وطبيعي أن تعتبر السلفية المعاصرة نفسها الاتجاه القويم الوحيد ( وتعبير "الوحيد" هو المؤسس لكل فاشية ) الساعي بكل الوسائل – بما فيها العنف - لإصلاح أنظمة الحكم والمجتمع والحياة بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية حسب ما يفهمونها وحدهم .
ولئن ظهر هذا المصطلح ( السلفية ) على يد الفقيه الحنبلي أحمد بن تيمية (ت1330) فإن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب (ت 1791) هو من قام بترويجه في منطقة " نجد " أواخر القرن الثامن عشر فتأسست على يديه الحركة الوهابية بمساندة دولة سعود الكبير حتى شتتتها جيوش إبراهيم باشا ابن محمد على عام 1818 ولكن مع قيام المملكة العربية السعودية 1932 استعادت الوهابية نفوذها حتى اليوم.
دعنا نقفز على التفرقة بين المسلم وغير المسلم في الحقوق، وممارسة العنف ضد النساء، وهدم الأضرحة والمعابد والتماثيل، وقطع آذان من لا يصلون بالمساجد، وضرب فاطري رمضان بالأحذية، والجلد وبتر الأعضاء وغير ذلك من تفاصيل الثقافة البدوية التي ُتبرر بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعيداً عن قوانين الدولة المعاصرة وميثاق حقوق الإنسان. ولنركز على بنية الأخلاق من وجهتي نظر البداوة والحضارة - وهو ما توسع فيه قبلاً ابن خلدون – لفهم علاقة الأخلاق بوتائر الإنتاج والسلوك .
فالتحضر معناه السكنى والعمل في الحضر( المدينة مقابل الريف والبادية) وفي اللغة الرومانية كلمة Civis تعني عملية التهذيب خاصة في علاقة المرؤوسين بالرؤساء . ونفس المعنى في الأدبيات العربية . جئ للخليفة العباسي المتوكل بالشاعر علي بن الجهم ليمدحه فقال الشاعر :
أنت كالكلب في الوفاء ِ / والتيس في قراع الخطوب . وحين اشمئز الخليفة من غلظة التعبير ، قالوا له : إنه لم يعرف التحضر بعد فأنظره عاما في بغداد . وبعد العام أحضروه ثانية فأنشد ابن الجهم قصيدة رائعة ً رقيقة ً مطلعها : عيون المها بين الرَصَافةِ والجسر ِ / جلبن الهوى من حيث ندري ولا ندري.
ومع استخدام جماعة الموسوعيين في عصر التنوير لهذه الكلمة ؛ استقر المصطلح على معنى جمّاع القيم المادية والمعنوية التي تشكل معا ً سمات مجتمع يتخذ من المدن مستقرا ً له في زمن معين، حيث تنتشر الحرف والصناعات وتزدهر التجارة ويتطور التعليم .
هكذا عرف التاريخ الحضارات القديمة في مصر الفرعونية وبابل وآشور وحضارة الفرس والصين وكريت والإنديز في أمريكا الجنوبية ... وفي العصور الوسطى ازدهرت الحضارة الإسلامية بجانب الحضارة البيزنطية . ولأن الحضارة بما هي عليه من خصائص وسمات تعتبر كائناً حياً فإنها بمثل ما تولد وتزدهر تذبل وتشيخ ثم تموت في النهاية مفسحة المسرح البشري لحضارة جديدة . واليوم يعيش معظم سكان العالم تحت شروط الحضارة الغربية الحديثة بأدواتها وأزيائها وطرز معمارها ومفاهيمها الاقتصادية والسياسية. وعبثاً يظن بعض الناس أنهم قادرون على بعث حضاراتهم التي خلفها الزمن وراءه . خذ مثلا ما يروج له السلفيون الإسلاميون من إمكانية ذلك ، بينما هم يسافرون بالسيارات والطائرات وليس بالجمال والخيول والحمير ، فهل هم قادرون على إعادة اقتصاديات الفئ والخراج وإعادة نظام العبيد والجواري مجتمعيا ً؟ وهل يمكن لمواطنيهم مسايرتهم في الاكتفاء بالطب النبوي وبكتاب القانون لابن سينا بديلا عن الطب المعاصر؟ وهل يحلون كتاب تذكرة داود الإنطاكي محل منجزات علم الفارماكولوجي ؟ وإذا احتاج واحدهم لعملية جراحية فهل يطالب الطبيب بضربه بالمطرقة على رأسه ليفقد وعيه، أم يقبل ببنج طبيب التخدير؟
إن الحضارة فعل تاريخي معقد يبدأ – كما يقول ماكس فيبر – بالانسلاخ من اعتماد البشر على موارد الطبيعة الجاهزة إلى محاولة السيطرة على تلك الموارد وإعادة إنتاجها بواسطة " العمل " المنظم الذي يقترن بتنظيم وتحديث مجمل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وعلى الصعيد السياسي الراهن برهنت معظم التيارات السلفية في مصر على براءتها من مرضين سياسيين خطيرين : الازدواجية والبرجماتية ، فالسلفيون بعامة قوم واضحون لا يلجئون إلى الكيل بمكيالين والمناورات الفظة والمساومات الرخيصة ، وهم ليسوا ممن يبنون مواقفهم على مقياس المنفعة يغيرونها حال تبينهم لمنافع أكبر، بل يتمسكون بمبادئهم حتى وإن كبدتهم وأرهقتهم . وتلك سجايا جديرة بالإشادة ، بينما – على صعيد الممارسة - ثمة متطرفون بينهم يستحقون النقد لمحاولاتهم الدءوب إجبار غيرهم على قبول أفكارهم والخضوع لرؤاهم حتى ولو كانت مستحيلة مثل فرض الجزية على الأقباط ، وهدم أبي الهول والأهرامات والمعابد الفرعونية باعتبارها أوثاناً ! مع إباحة الرق وتزويج البنات في سن الطفولة !
وأما من الناحية الفكرية فالسلفيون في مجملهم يعبرون عن ثقافة ذات طابع تقليدي ينزع نحو الشمولية، ويعتبر التعدد الثقافي خطأ مأسويا ً يؤدي إلى هلاك الأمة ( = المسلمين) دون التفات للمصطلح المؤسس للدولة الحديثة : المواطنة ، بما يعنيه من مساواة غير المسلم بالمسلم والمرأة بالرجل أمام القانون ، غير عابئين بما ينجم عن ذلك من أخطار أدناها نشر التباغض الأسري والمجتمعي، وأوسطها مقاطعة المجتمع الدولي لدولتهم تلك الدينية ، وأعلاها الزج بالشعب الواحد في أتون الحرب الأهلية التي حتماً تنتهي بالبلاد إلى كارثة التقسيم . فما هي جذور هذه الثقافة ؟
تلك الجذور تشير إليها مخايلاتٌ تاريخية تمجد عصر الفتوحات الكبرى من ناحية ، ومن أخرى تتألم لما أصاب العالم العربي الإسلامي من تفكك وانقسام أتاحا للعدو الخارجي أن يقتحم الحدود، وان يحل بعساكره داخل الديار بدء من الحروب الصليبية فالاستعمار الأوروبي ، وصولا ً إلى الهيمنة الأمريكية اقتصاديا ً وسياسيا ً وعسكريا ً في وقتنا الحاضر .
ولما كانت الثقافة هي مجمل المفاهيم ووتائر السلوك ، فإن إعادة إنتاج هذه الثقافة العربية ، بمكوناتها المؤسِسـة الأولى، يتطلب إعادة أنماط الإنتاج وأساليب العيش القديمة وهذا محال بالطبع، وحتى بفرض حدوثه فلا مندوحة من أن يكرر التاريخ نفسه عبر أمواج الصعود والهبوط . لنجد أنفسنا في النهاية كما نحن الآن ! كيف ؟
في البداية ثمة حاجة للتذكير بأن التاريخ لا يمضي خبط عشواء بمسيرة البشر، بل هو في معظمه ينطلق تبعاً لقوانين يمكن رصدها بمقاربات النمو والأفول الاقتصادي بحساب الموارد والإنفاق لفترات تاريخية ، وهو ما يعد أداة تحليل علمي لفهم أسباب صعود وسقوط القوى العظمى، ما بينها المؤرخ البريطاني بول كينيدي، أو صعود وانحسار الدول أي العصبيات الحاكمة كما يدعوها مؤرخنا عبد الرحمن بن خلدون ، أو الصراع بين الطبقات الذي كشف عنه علم الاجتماع الماركسي.
ودون دخول - ليس هذا مجاله - في صميم فلسفة التاريخ، فإن أحدا ً لا ينكر أن لكل كائن حي دورته التي تبدأ بالميلاد، وتثنى بالنشأة فالاكتمال، لتنتهي بالشيخوخة فالموت. ينطبق هذا على الأفراد والطبقات والدول والحضارات. إنما يعنينا في هذا المقام الإشارة الموجزة إلى دورة الحضارة العربية التي قامت أساساً على ثقافة فتح الأبواب المغلقة أمام سكان شبه الجزيرة، أولئك الذين توحدوا بفضل الدعوة الإسلامية، فأدركوا كم هم أقوياء بها ، وبالتالي كم هم على حق . ولقد تأكد لديهم هذا المعنى جرّاء الانتصارات الحربية الباهرة على الإمبراطوريتين العظميين (وقتها) الفارسية والرومانية، وكذلك نتيجة إقبال سكان البلدان المفتوحة دخولا ً في دين الإسلام أفواجاً لأسباب مختلفة ً. وهكذا أصبح للعرب إمبراطورية تمتد من جنوب أوروبا إلى جنوب غربي آسيا .
بيد أن القانون البيولوجي القاضي بأن كل امتداد في المكان يقابله حتما ً انفصال لبعض عناصره ( نمو الخلية يؤدي لانقسامها ) قد عمل في تطبيقه التاريخي على انقسام الإمبراطورية في عصرها الوسيط إلى ثلاثة مراكز: خلافة عباسية في بغداد، وخلافة أموية في الأندلس، وبينهما خلافة فاطمية في مصر والشام، ثم كان أن انقسمت هذه "الخلافات" – بنفس القانون - إلى دول ودويلات متصارعة على "الخراج" و"الفيء" مصحوبة بحركات اجتماعية وسياسية متمردة من جانب الفلاحين والصناع أرباب الحِـرف في كافة الأنحاء. وكان طبيعياً أن يؤدي هذا كله إلى الانقسام وانحسار عوامل القوة ، والسقوط في براثن القوى المعادية .
الماضي الذهبي إذن محض أسطورة ، والمطالبين بعودته كمن يقبل بتأبيد نتائجه الحالّة ! وبين هؤلاء تقف "الثقافة السلفية" في الصف الأول ، مشيحة بوجهها عن العصر بشروطه واستحقاقاته ، مستدبرة عصوراً ولى زمانها وامتنع على الناس العيش في ظلال أشباحها .
فما العمل إزاء أناس شديدي الإخلاص والنقاء لكنهم غير قادرين على اجتياز الهوة ما بين الماضي والحاضر ؟
في اعتقادي أنه ينبغي على المثقف ألا يضيق ذرعاً بالسلفيين فهم جزء لا يتجزأ من اللُحمة الوطنية ، بل يجب تشجيعهم على الانخراط بقوة في ممارسة السياسة العملية دون الاشتباك فكريا ً معهم ، لأن الفكر لا يتغير بالفكر وحده ، والأفكار لا تحدد وضع المرء على خارطة تقسيم العمل الاجتماعي، ولا تـُـمَوْضِعُ مكانته الإنتاجية، بل العكس هو الصحيح.. خذ مثلا أفرادا ً ينتج كل منهم سلعته على حِدة ( فهو بهذا الوصف صاحب عمل ولو كان صغيرا ) فلسوف ترى كلا ً منهم ذا فكر فرديّ مكتف ِ بذات صاحبه وبمشاكله، فإذا حدث وأن أفلس هؤلاء، واضطروا للعمل في مصنع لرأيتهم يتحدثون عن ضرورة العمل النقابي، والتأمينات العامة ، والأجور الموحدة، ورويدا ً ينشأ عندهم ما يعرف بالوعي المشترك .
ولما كانت جماهير السلفيين أغلبهم من الكادحين المنتمين للطبقات الدنيا ، فمن المرجح أن تحاول قيادات الاتجاه السلفي التعبير عن مصالح جماهيرهم هؤلاء ، وما أن يفعلوا حتى يتبين لهم أن القضايا الدينية ليست الشغل الشاغل والأوحد لمن يتبعونهم ، هنا يبدأ الواقع الفعلي في تثقيف القيادات والأتباع معا , فالمسألة كما بينّا آنفاً مسألة وقت ، ولا بد أن يأخذ السلفيون وقتهم . ولكن هل ينتظرهم التاريخ ؟

الباشا والبكباشى وثورة يناير
ولأن التاريخ هو الوعي بالتراث الذي هو حي بالضرورة في الحاضر، فإنه لا يتحقق هذا الوعي إلا من خلال الرصد المنظم لوقائع الأحداث الكبرى ومحاولة الكشف عن أسبابها والوقوف على نتائجها، ثم إظهار ما بينها من ترابط وتداخل بحيث تشكل معا ً ما يشبه القصة ذات المعنى والمغزى.
في هذا السياق كان القدماء يعتمدون آلية النقل [ = المرويات عن ذوي الثقة ] في كتابة الأحداث السابقة على وجودهم، وأمثلة ذلك هيرودوت اليوناني وتيتيوليفيوس الروماني والطبري وابن كثير والواقدي وعبدالرحمن بن خلدون وغيرهم من مفكري الإسلام. وفي الأحداث التي يعاصرونها كان هؤلاء المفكرون يعتمدون على مشاهداتهم ، ومثال ذلك تقي الدين المقريزي خاصة في كتابه "إغاثة الأمة بتفريج الغمة" الذي رصد فيه حوادث المجاعة في عهد الخليفة المستنصر الفاطمي. وكذلك البدر العيني صاحب كتاب "السيف المهند في سيرة الملك المؤيد" وأيضا ابن إياس الحنفي وعبدالرحمن الجبرتي.
أما عملية كتابة الأحداث الكبرى في مظهرها البياني، وترتيب هذه البيانات في شكل يقصد به إعادة بناء الفترة موضوع الدراسة فهي ما تسمى بـ "التأريخ" وصاحبها يسمى "المؤرخ" وقد يتسلح المؤرخ بفلسفة معينة تساعده على تفسير الأحداث، وفي هذه الحالة تتحول عملية "التأريخ" من رصد الأحداث بوصفها دراسة لفترة انتهت وماتت إلى جزء حي من نسيج الحاضر يشير إلى مستقبل متوقع. وتلك هي التاريخانية Historicity
ولهذا فإن مؤرخي العصر الحديث لا يستغنون عن الوثائق والشواهد المنطقية في تسجيل الأحداث سواء كانت معاصرة أو قديمة. ويقف في مقدمة هؤلاء برستيد وجيبون ووول ديورانت وهـ. ج. ويلز وبول كنيدي.
على أن الحد الفاصل في مسألة الرؤية التاريخية هو ما بدأ ظهوره في منتصف القرن الثامن عشر مع فيلسوف التاريخ هردر الألماني الذي شرح فكرة "الوحدة العضوية للتاريخ" ومعناها أن جميع الأحداث من البداية إلى النهاية مرتبطة ارتباط أعضاء الجسد بعضها بالبعض. بعدها صار التاريخ علما ًمن العلوم الإنسانية وبالتالي ظهرت النظريات الكاشفة عن كينونته والموضحة لإستراتيجيته وتكتيكاته والمستشرفة لغاياته وأهدافه . فما هي أهم تلك النظريات؟
أولها نظرية الحتمية التاريخية وبها يرى المؤرخ التقليدي أن التاريخ الجدير بالتسجيل إنما هو حسبُ تاريخ قيام الممالك ونشأة الدول، ثم الحروب بينها انتصارات وهزائم، فالمؤامرات والدسائس بين النخب الحاكمة... الخ، أما مصائر الناس العاديين فمسألة لا يصح أن يلتفت إليها ! وبهذه الرؤية التي تنزع عن غالبية البشر صفة الفاعلية ، فإن المؤرخ هذا حين يقدم أوراق اعتماده في بلاط علم التاريخ بوصفه سفيرا ً "للعظمة" ؛ لا يجد من يستقبله غير تلك الإمبراطورة البشعة الملقبة بـ "الحتمية"! وكيف لا، وقد سبقته أيديولوجيته [ بالأحرى وعيه الزائف] متضايفة إلى الأحداث التي يرويها، زاعما ًأن فهم تلك الأحداث غير وارد إلا برؤيته هذه .
ويترتب على تلك الرؤية المؤدلجة، أن تكون الحالة الراهنة نتاجا محتوما ً لماض تم تشكيله، وأن يكون المستقبل متضمَنا، لا محالة فيما هو قائم فعلاً، وهكذا يبدو التاريخ البشري وكأنه كتاب "قديم" ُسجلت على صفحاته ما جرى ويجرى منذ "البداية وحتى النهاية" [والعبارة الأخيرة عنوان كتاب المؤرخ الإسلامي: ابن كثير] وما دام الأمر كذلك فلا بد من وجود عين "كلية" ترصد بحيث ترى التاريخ ماثلا تاما ًفي لحظة سرمدية متعالية على زمان البشر الفانين.
وتلك رؤية للحق متسقة، يقبلها السواد الأعظم لما "توزعه" من تعاز للبائسين لكنها في نفس الوقت كانت تثير مشكلة أمام الحالمين بعالم أفضل، حيث برهنت حوادث كثيرة أن مثل هذا العالم الأفضل لا يتحقق بدون نضال يستلزم وجود إرادة حرة، تعي أن مصير المرء ُملك للمرء دون سواه ، دون أن ينفي هذا وجود إله قادر عليم ، وهو ما اعتمدت عليه المعتزلة في برهان التغالب والتمانع .
ولقد حاول العرب المسلمون الأوائل حل هذه المشكلة عمليا، عن طريق الفتوحات التي أقامت لهم إمبراطورية كبرى، وجلبت لهم ثروات طائلة، لكن المشكلة في مجملها – برغم مناظرات المعتزلة والأشاعرة - ظلت قائمة، على الأقل بالنسبة لسكان البلدان المفتوحة ممن حرموا من ثمار إنتاجهم، فصار شأنهم شأن عبيد الإمبراطوريات في الغرب القديم، والأقنان في عصر إقطاعه.
للخروج من هذا المأزق، اقترحت بعض الفلسفات العلمانية في الغرب، استبعاد فكرة الكائن العلوي ّالعليم بكل شئ، والمدبر لكل أمر، في حين قالت المعتزلة عندنا بتعطيل صفة العلم عند هذا الكائن [تنزيها ًله عن شبهة الظلم] لتخلص للإنسان إرادته، وتثبت له صفة الحرية، فتصح بذلك مسئوليته عن أفعاله يوم يكون الحساب. بيد أن مبدأ "السببية" المعترف به من الجميع، كان حريّا ً بأن يعيد هؤلاء وأولئك إلى رمال الحيرة المتحركة. ذلك أنه ما دام الحاضر معلولا ًبعلة هي أسبق منه بالضرورة، فلا مندوحة من القول بأن الماضي إنما يحكم الحاضر، وأن المستقبل محكوم بحاضر الأحداث، لكون هذا الحاضر سببا ًلما سوف يجئ، إذن فليرفع المناضلون رايات التسليم صاغرة ًأمام الحتمية عدوة الحرية الإنسانية. ويمثل هيجل هذا الاتجاه أدق تمثيل بفلسفته التاريخية القائلة إن "الفكرة الكلية" تحكم كل ما حدث ويحدث في التاريخ البشري "حيث الحقيقة هي الواقع".
*** ***
ثاني النظريات هي نظرية المادية التاريخية حيث ترى أن المجتمع البشري قام في البداية على مشاعية أدوات الإنتاج فقوارب الصيد والشباك والحراب المستخدمة في قنص الحيوانات وحتى أراضي الرعي كلها كانت ملكية عامة للقبيلة، ومن ثم كان توزيع الناتج من طعام وكساء يتم بالعدل والقسطاس، بيد أن اكتشاف الزراعة ما لبث حتى أطاح بأسس المشاعية القديمة تلك، مستبدلا بها الملكية الخاصة للأرض الزراعية، وبذلك تم تقسيم المجتمع إلى طبقتين: سادة هم ملاك الأرض ، وعبيد يعملون لديهم مقابل الطعام والمأوى . وقد وصل هذا النظام إلى قمته في الإمبراطوريات القديمة وأشهرها روما. على أن الصراع المستمر بين هاتين الطبقتين انتهى إلى إحلال نظام الإقطاع محله وبعد اكتشاف البخار وظهور الصناعة الحديثة على أيدي سكان المدن، جرى الصراع بين البورجوازيين والإقطاعيين على الثروة والسلطة فكان النصر حليفا ً للبورجوازيين.
وترى هذه النظرية أن كل بناء فوقي للمجتمع (= الفلسفة والقوانين والأعراف والأخلاق والفن والأدب ...الخ) كان بالضرورة معبرا ًعما هو موجود في البنية التحتية التي هي أنماط وعلاقات الإنتاج الواقعية والسائدة بالفعل، وهذا يفسر تبدل وتغير القيم والأفكار من عصر لعصر.
*** ***
وتأتي النظرية التآمرية للتاريخ ثالثاً ، وهي تنبع من هواجس ومخاوف البشر غير المعللة إلا بغموض الكون وتناقضات الحياة الظاهرة، وغالبا ًما تكون مقبولة عند العامة خاصة المهزومين منهم، إذ تتمحور فكرتها حول واقع المعاناة والضنك بحسبانه نتاج مؤامرة خفية نسجها الأعداء، من هم؟ سيقول بؤساء الأندلس في القرون الوسطى: إنهم المسلمون الغزاة! واليوم سنقول نحن: بل اليهود الصهاينة والماسونيون الخبثاء. أم لعله القدر الغاشم؟ وقد يصور بعضنا هذه المعاناة وهذا الضنك مستعيرا ً أسطورة سيزيف الإغريقي الذي عاقبته الآلهة بإجباره على رفع صخرة كبيرة من سفح جبل إلى قمته، وقبل أن يصل إلى القمة تهوي الصخرة من يديه إلى السفح ليعود لرفعها فتسقط وهكذا دواليك! لماذا تفعل به آلهة الأولمب هذا الفعل القاسي؟ لتعاقبه على جرم ارتكبه. فأي جرم ارتكبناه نحن؟
يقول السلفيون والأخوان إن هزيمتنا العسكرية في حرب 67 كانت عقابا من الله لنا أن سكتنا على الدكتاتور عبد الناصر وهو يعذبهم في المعتقلات، ولكنهم يتجاهلون تعذيبه للشيوعيين "الملاحدة" فهل كان الله ينتصف لهؤلاء أيضا؟ وما ذنب عامة الشعب المصري الذي لم يسمع لا بهؤلاء ولا بأولئك؟ بل وما ذنب الأجيال التي ولدت بعد موت الديكتاتور أن تعاني الفقر والإذلال والضياع؟!
واضح تهافت تلك النظرية وعجزها عن تقديم الأدلة والبراهين الكافية لاقتياد المتهمين إلى ساحة المحاكم !
***
في ظل أية نظرية إذن يمكن للباحث التاريخي أن يفسر اندلاع ثورة يناير 2011 ؟ وما هي جدارة نظريته وقدرتها على تقديم التفسير العلمي المقبول الكاشف عن نقاط النجاح من ناحية، ومن أخرى أوجه القصور جنبا ً إلى جنب البرهنة على تمكنها من تصنيف تلك الثورة في الخانة التاريخية الملائمة؛ بحسبانها حلقة من حلقات الثورة المصرية الحديثة التي بذرت بذرتها الأولى على يد الوالي محمد علي حين أدخل لأول مرة في مصر زراعة القطن؟
ذلك ما يحتاج لتفصيل.
***
عرضنا حتى الآن مختصراً لملامح أكثر النظريات شهرة في تفسير التاريخ، وكانت تباعًا: نظرية التدخل الإلهي، فنظرية المؤامرة التاريخية، ثم المادية التاريخية.
فأما الأولى فيتبناها في بلادنا أصحاب الأيديولوجيات الدينية وفي مقدمتهم جماعة الأخوان فتراهم يقيمون علاقة "تلازم في الوقوع" بين تعرضهم للاضطهاد وهزائم الوطن، قائلين إنه بعد كل تنكيل بالإخوان كان الانتقام الإلهي شاملا وعامّا، فعقب اعتقالات ناصر للإخوان في 54 وقعت هزيمة 56، وعقب اعتقالاته لهم في 65 جاءت هزيمة 67 الساحقة، وعليه تصبح ثورة الشعب في يناير 2011 تعويضاً لتعرَّضهم في عصر مبارك للمحاكمات العسكرية الظالمة؛ هكذا أسقط الله من أجلهم النظام بأكمله ! ولكن برهنت الأحداث التالية لتوليهم السلطة أن توظيف الدين لا يجدي حين يكون الأمر متعلقا ً بالتأهل التقني والوعي بحركة التاريخ.
..... ..... .....
إن تفسيراً للأحداث على هذا النحو إنما يتبنى نظرية "الإله محرك التاريخ" وآليتها "البداء" الذي اخترعه اليهود في العهد القديم! وبمقتضاه ليس لأحد أن يسأل لماذا ترك الإله اليهود القدامى للشتات وكانوا شعبه المختار؟! ولماذا حقق لإسرائيل النصر على العرب؟ ولم لم يعاقبها على قتل وتشريد الفلسطينيين، وسحق الأسري المصريين أحياء بدباباتهم؟! وكيف سمح الرب للجيش المصري أن يحقق نصر أكتوبر بينما كان الأخوان في المعتقلات والسجون؟! حيث الإجابة مضمرة في المبدأ نفسه: لقد بدا له أن يفعل هذا ولا يفعل ذاك، وهو مبدأ سقيم لا يصمد للمناقشة. لكن أصحابه ما فتئوا يروجون بين البسطاء أنهم على علم بإرادة الله التي قضت - حسب كلامهم – بمعاقبة من يضطهدهم بالذات، وتلك سذاجة سياسية لا يمكنها أن تغطرش على حقائق الحياة وواقعية الصراعات البشرية.
*** ***
وأما نظرية التفسير التآمري للتاريخ فنعثر علي نموذجها في مقالة الكاتب د. شريف الشاذلي المنشورة بجريدة القاهرة في 7 يونيو/حزيران 2011 معبرا ًعن فكرته حول عبثية الكون، باستعارة أسطورة سيزيف حيث تسقط الصخرة من يد محمد علي باشا قبل الوصول بها للقمة عقاباً له (على ماذا؟) ثم يعود عبد الناصر ليرفعها لتسقط منه للقاع بمؤامرة من سادة الأوليمب (من هم؟) وما يكاد السادات يرفعها من جديد حتى تهوي (لماذا؟) وأما مبارك الذي حملها لفترة فقد تركها تتدحرج مكتفيا بالجلوس في الظل (كيف؟) فماذا سيفعل سيزيف القادم بعد يناير؟ العلم عند سادة الأوليمب! وواضح من هذا العرض الرمزي لتاريخ مصر الحديث تهافت نظرية المؤامرة التاريخية مما يحتم استبعادها دون تردد.
***
النظرية الثالثة تعتمد على التحليل العلمي للظروف الموضوعية التي جرت الأحداث في ظلها، وهي ظروف لم يصنعها أحد بالذات، بل هي إنتاج للواقع الجغرافي، ودرجة نمو قوى وأنماط وعلاقات الإنتاج، وحالة النشاط الثقافي في مجمله. فمن تفاعل البشر مع هذه الظروف إيجاباً أو سلبا ًتولد الأحداث الكبرى وُيفهم مغزاها.
في ضوء هذه النظرية يمكن القول بأن ثورة يناير يمكن فهمها – حسبُ - بالرجوع إلى أوائل القرن 18 حين أدخل محمد علي زراعة القطن في مصر[وكان عملا ً ثوريا ًيوازي اكتشاف البخار في أوربا] حيث ترتب على تغيير نمط المحاصيل الزراعية المخصصة للغذاء إلى إنتاج المحاصيل القابلة للتصنيع، أن شيدت المحالج ثم مصانع الغزل والنسيج بجانب الصناعات التكميلية، ثم صناعة السلاح حيث احتاج الوالي لجيش عصري قوي يعزز محاولته للسيطرة على الأسواق القريبة لزوم تصدير الإنتاج الكثيف الناشئ، ومن هنا جاءت الفتوحات العسكرية لبلاد الشام والسودان والحجاز بل وأجزاء من أوروبا وصولا إلى مشارف عاصمة الدولة العثمانية ذاتها. والحال أن نظاما ًجديدا للتعليم المدني كان ضروريا ًأن يحل محل التعليم الديني التقليدي والذي كان ملائما ًلمتطلبات النمط الإنتاجي الراكد الجامد: نمط الإنتاج الآسيوي، ذلك النمط المسئول عن وقف نمو طبقة البورجوازية الصناعية وقمع ثقافتها المستهدفة إحداث التغيير في كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
إذن لقد ولدت البورجوازية المصرية – بثقافتها الحداثية الصناعية - على يد الوالي القادم من أوروبا، وبالطبع ما كان لأوروبا أن تسكت على هذا المنافس الخطير المهدد لمصالحها الإستراتيجية فكان أن وجهت ضربتها للأسطول المصري عام 1927 مجبرة الباشا على قبول معاهدة لندن 1840 لتدخل مصر بها دور الانكماش. وما تكاد تعاود الكرة بالثورة العرابية حتى تجهضها بريطانيا باحتلال البلاد 1882. لكن طبقة ملاك الأرض الزراعية وحليفتها طبقة الرأسمالية الجديدة ما لبثت حتى استعادت بعض قوتها إبان انشغال بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، فسيطرت على سوق الإنتاج والاستهلاك المحلي، وخوفا ًمن عودة بريطانيا بعد فراغها من الحرب – متحالفة ً مع سلطة القصر رأس ِالإقطاع - إلى تدمير الصناعة الوطنية المجددة راحت البورجوازية المصرية تعد لثورة هدفها إجلاء المحتل وتحجيم سلطة القصر.
هكذا اشتعلت ثورة 1919 بزعامة الوفد قائد الطبقات والطوائف الشعبية، لتظفر مصر باستقلال نسبي وبدستور ملائم وبحياة حزبية ولبرالية معقولة. غير أن الثورة هذه عجزت طوال العقود التالية عن تصفية الإقطاع بثقافته التراتبية لأسباب هيكلية في بنية البورجوازية المصرية أهمها تداخل مصالح الرأسماليين بمصالح الإقطاع، فكان ضروريا ًأن تتقدم شريحة من الطبقة الوسطى لإنجاز هذا الدور التاريخي شريطة أن تكون مزودة ًبالقوة. كانت هذه الشريحة هي ضباط الجيش [ الكولونيلات وليس الجنرالات ] من ذوي الأصول الشعبية الذين التحقوا بالكلية الحربية بعد توقيع معاهدة الاستقلال 1936 فيما احتاجت حكومة الوفد إلى مضاعفة أعداد الضباط الوطنيين حماية للأمن القومي تحسبا ًلنشوب حرب عالمية كانت نذرها تلوح في الآفاق.
تلك كانت مقدمات ظهور الجناح العسكري الوطني من الطبقة الوسطي، فطلاب الكلية الحربية الذين صاروا عام 1952 عقداء ومقدمين لم يتلكؤا عن الإطاحة بالنظام الملكي وتصفية الإقطاع، فنالوا بذلك تأييد الطبقات الشعبية دون تحفظ. بيد أن الحكام الجدد، ولأسباب هيكلية أيضا ً(كونهم عسكرتاريا مبدأها السمع والطاعة لا ترحب بالديمقراطية) ما لبثوا حتى أطاحوا بكل الانجازات اللبرالية التي سبق تحقيقها عبر ثورة 19، فألغيت الأحزاب ، وُقيد حق التفكير والتعبير، وفرضت الرقابة على الصحف والإذاعة، وفتحت المعتقلات للمعارضين، فوضعوا بذلك – ولو عن غير قصد - حجر الأساس للفساد الذي لم يزل ينمو حتى صار عملاق التجريف التنموي في العهد المباركي، في ظله ظهر ما أسميه بـ "الاقتصاد الريعي للفساد" تحتكر بموجبه الرأسمالية ُ الطفيلية ُ معظم َالناتج القومي، فكان ضروريا ًللطبقة الوسطى بكل شرائحها الصناعية والزراعية بقيادة شبيبتها من العاملين في ميدان الإنتاج المعرفي الحديث أن تفجر الثورة الثالثة مطيحة بالحكم الدكتاتوري وقاعدته الريعية الفاسدة.
والخلاصة أن تجربتي محمد علي وجمال عبد الناصر بحسبان سعي كلتيهما إلى الانفلات من ثقافة النمط الآسيوي للإنتاج للحاق بالثورة الصناعية الحديثة التي تنقل المجتمع المصري من مجتمع زراعي بالدرجة الأولي إلى فضاء المجتمعات الصناعية، إنما كان من شأنه (موضوعيا) الوصول بالمجتمع لنوع من الليبرالية السياسية - وهو ما نجحت فيه جزئيا ثورة 1919 - بيد أن إخفاق تجربتيْ الباشا والبكباشي قد حدث جراء وصولهما متأخرتين، إذ كانت الدول الغربية الكبرى (مركز النظام الرأسمالي) قد أحكمت سيطرتها على الأسواق العالمية، بما سمح لها أن تحدد شروط النمو لكل دولة من دول الأطراف، وما من شك في أن المركز المهيمن لم يكن يرى في طموحات محمد علي وعبد الناصر إلا تهديدا لمصالحه، ومن هنا جرى إجهاض التجربتين من خلال إنزال الهزيمة العسكرية بهما.
وكما ترى فإن هذه النظرية لا بأس بها لولا عدم قدرتها على استشراف المستقبل بمقتضى طبيعتها التي تعتمد على ما تحقق فعليا ً دون أن تمد بصرها إلى ما هو متخيل ، ودون أن تتخلص تماما ً من المنطلقات الأيديولوجية وعلى رأسها التيقن ( من أين جاء ؟ ) بأن المادة هي المعطى الأول بينما يأتي الفكر في المرتبة الثانية !
مجتمع ما بعد البورجوازية
فهل إذا ما جاءت مطالب ثورة يناير متواضعة قياسا ًلتجربتيْ الباشا والبكباشي دل هذا على إخفاقها ؟ لعل العكس هو الصحيح ، بل ربما كان هذا التواضع بالضبط هو ما سوف يقدر لها بسببه النجاح، فلقد تبنت يناير – دون قصد - نموذج مجتمع ما بعد البورجوازية ...
المصطلح صكه كاتب هذه السطور وقد اعتمده تقرير التنمية الإنسانية العربية برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للعام 2004 في الإطار 7-1 ص158) وجوهره " عناصر ومنظمات المجتمع المدني، أحزاب بغير وصاية، وصحافة لا تطالها المصادرة، ونقابات مستقلة عن الحكومة، وأندية وجمعيات ثقافية ومذاهب لا تُجرم بسبب أيديولوجيتها ، وتيارات فكرية وفنية وأدبية لا تخضع لإرهاب معنوي ، وسينما ومسرح يلبيان الحاجات المعنوية للشعب دون رقابة بطريركية ، ودستور لا تناقض مواده ميثاق حقوق الإنسان. كل هذا برعاية دولة عصرية لا تمايز بين عقيدة وأخرى، أو رجل وامرأة. دولة عصرية تفصل بينها وبين الدين كممارسة سلطوية، ولكن لا تفصل بينه وبين المجتمع كنبض من نبضاته، وتشوّف من تشوفات الروح فيه ". أ.هـ
.... .... .. ..
ربما يرى الماركسيون الأرثوذكس – بإصرارهم الدوجمائي على الخلط بين الاشتراكية ورأسمالية الدولة - أن إخفاق الثورات الشعبية في إزاحة طبقة البورجوازية عن مركز الصدارة مسألة مأساوية ، وفي هذا يكمن جمودهم ، فيترتب على ذلك أن يأتي صاحب كتاب "نهاية التاريخ وخاتم البشر" ليخرج لسانه للاشتراكيين مؤكدا ًعلى بقاء الرأسمالية أبد الدهر.
والحال أن التاريخ هو الذي سوف يخرج لسانه لفوكوياما قائلا : من مكمنه يؤتى الحذرُ، فالبورجوازية لها ما بعدها : مجتمع مدني متقدم ينهي الصراع بين الطبقات عن طريق الإصلاحات المستدامة ، وتشعيب الثقافة رفيعة المستوى (المناهضة للجمود) جنبا ًإلى جنب الوعي بضرورة التضامن والتكافل بين الأمم والشعوب في حضن الأمم المتحدة التي ُتعد جنينا ً لدولة الأرض الموحدة.
وهذه هي الثقافة التي ينبغي في ضوئها قراءة ثورة يناير المصرية ، حيث رفعت هذه الثورة – ضمن مطالبها الإنسانية – شعار العدالة الاجتماعية ، ولعلنا لا نتجاوز القصد حين نقول إن العدالة اجتماعية ليست إلا اسماً جديداً للاشتراكية . بيد أنها الاشتراكية التي لا تقوم على الحزب الواحد والتأميمات والمصادرة ( النموذج السوفييتي ) بل على التوافقات الاجتماعية في استهدافها اللحاق بمجتمعات الحداثة ، التي دشنت فعلا اقتصاديات المعرفة knowledge economy التي تقوم على الابتكار والتعليم المتطور وتكنولوجيا المعلومات وهي سمات المجتمع الحداثي . وهنا يمكن الاستشهاد بالمفكر الاقتصادي سمير أمين الذي يرى أن ما يميز المجتمعات الحداثية عن مجتمعات ما قبل الحداثة هو تحديد الأولوية بين السياسة والاقتصاد ، فمجتمع ما قبل الحداثة يجبر الاقتصاد على أن يكون تابعاً للسياسة . كالحذاء الصيني، إذ تعوق سياسة أصحابه القدمَ الحيةَ عن النمو، بل وتشوهها تشويهاً .. وأقصد بالحذاء الصيني في هذا المقام : الأيديولوجيا . أما المجتمع الحداثيّ فُمقتضيات الاقتصاد هي التي تشكل سياساته . والمغزى أن الاشتراكية الجديدة – المأمول انجازها - لن تكون محكومة بنموذج سابق التجهيز ، حتى وإن اقتضى مولدها في المستقبل تغيير الاسم التقليدي .
ويبقى بعد ذلك احتمال أن يأخذ يناير طريقاً مغايراً تماماً ارتداداً للوراء أو سقوطاً في الفوضى . فمصير البشر لا غرو رهين باختياراتهم ، وهذا هو سر البشرية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيتزا المنسف-.. صيحة أردنية جديدة


.. تفاصيل حزمة المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل وأوكرانيا




.. سيلين ديون عن مرضها -لم أنتصر عليه بعد


.. معلومات عن الأسلحة التي ستقدمها واشنطن لكييف




.. غزة- إسرائيل: هل بات اجتياح رفح قريباً؟ • فرانس 24 / FRANCE