الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنقلاب العسكري

آکو کرکوکي

2013 / 1 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


في أغسطس 1921، وفي أثناء تنصب فيصل أبن الشريف حسين ملكاً على عرش العراق، لم تك للمملكة الوليدة، أيُ نشيدٍ وطني!

إرتبكت الفرقة الموسيقية، الحاضرة لإحياء الحفل المتواضع، لِتتويج الملك، ولم تعرف ماذا تعزف الى أنْ حسمت أمرها في النهاية، بِعزف إنشودة (ليحفظ اللّة الملك)!

كل الأمورِ تَمَّ على عجلْ، فالملك الحِجازي، الذي تَوَجَ زيارتهُ الأولى للعراق، بِتربُعهِ على عرشهِ، ما كان لِيُصدق، إنه سيهنأ مرة أخرى، بالسُلطةِ وعرش الملوكية، بعد أنْ ذَاقَ حلاوتها لِوهلة، قبل أشهُرٍ قليلة في سوريا، حين فقدها لِصالح حصة الفرنسيين، مِن إتفاقية سايكس -بيكو.

لكن خدماته الجليلة، للتاج البريطاني، ولصديقه الحميم، ضابط الإستخبارات (المثلي)، توماس لورنس، لم تذهب هباءاً. ففي مارس /آذار من نفس العام، كان المجتمعون البريطانيون، في مؤتمر القاهرة، قد حسموا أمرهم، بتنصيبهِ مَلِكاً على ولايتي بغداد، والبصرة العثمانيتين.

أما قصة توزيع تركة الدولة العثمانية، الآيلة للسقوط، وإتفاقية سايكس بيكو، فلقد سبقت هذه الحادثة بكثير، بعد أن أتفقَ عضو البرلمان البريطاني، السير مارك سايكس مع ممثل الحكومة الفرنسية، مسيو فرانسوا جورج بيكو، في يناير 1916، على تقسيم غنائم الحرب، في الشرق الأوسط.

وعلى أثر إنتصار الحلفاء في الحرب، تركت كل مِن بريطانيا وفرنسا، مهمة تقسيم الأراض تلك للموظفين، والجنرالات، والمستشارين. فبمسطرةٍ ومقصٍ، حكمهما المصالح، والمزاج الشخصي من ناحية، ومصالح الحلفاء والدولة المستعمرة من ناحية أخرى، أختلقَ هؤلاء خرائط، ودول جديدة، في الشرق الأوسط، ماكان لها من وجودٍ من قبل. فأُخرِج للدنيا كلٌ من العراقِ، وسوريا، ومن ثم الأردن، وبعدها أو معها لبنان، وفلسطين، وإسرائيل، وبقية دول الخليج لاحقاً.

لم يكتفِ الملك الجديد بهذا وحسب، فسرعان ما ضم صوتهُ الى أصوات مُستشاريهِ العراقيين، في المطالبة بضم ولاية موصل العثمانية، الغنية بالنفط، الى مملكته الجديدة، فكان له ذلك، بعد جهدٍ مُضنٍ، أستمر زُهاء الخمس سنوات. ونشأ على أثر هذا العراق بحدودهِ الحالية (مِن زاخو الى الفاو).

لكن فرحة الملك الجديد لم تدم طويلاً، بعد أنْ أدَرَكَ مُتأخِراً، حقيقة ما أستملكهُ على عُجالة، وطبقاً للمِزاجية.
ففي 15 آذار 1932 وفي أواخر أيامه، كتب وقلبه يتفطرُ حزناً، قائلاً:

(إن البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الإجتماعية، ذلك هو الوحدة الفكرية، والملية، والدينية...في العراق أفكار ومنازع متباينة جداً، وتنقسم الى أقسام: 1-الشبان المتجددون 2-المتعصبون 3-السنة 4-الشيعة 5- الأكراد 6-الأقليات غير المسلمة 7-العشائر ...والسواد الأعظم الجاهل...وفي هذا الصدد أقول وقلبي ملآن أسى: إنهُ في إعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقيٌ بعد، بل كتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية).

بعد أن عَبرَ عن رئيهِ في شعبهِ، الذي هو (ليس بشعبٍ) بعد، طَرَحَ خُطة لإنقاذه، لخصها في إثنتي عشرة نقطة، لِبناء أُمتهِ الجديدة، فغدت كالتعويذة التي لا تفارق قدر العراقيين.

أبتدأ خُطته بالدعوة لزيادة قوة الجيش عدداً وعدة، وذيلها في النهايةِ، بطلب تحقيق العدل والنظام!

وكتب مُبرراً، لأهمية وأولوية بناء الجيش، قائلاً:

( بدأت بالجيش لأني أراهُ العامود الفقري لبناء الأمة...إنني لا أطلب من الجيش أن يقوم بحفظ الأمن الخارجي، بل أن يكون مستعداً لإخماد ثورتين تقعان في آن واحد، وفي منطقتين بعيدتين).

خلال السنين اللاحقة، تضخمت المؤسسة العسكرية العراقية بشكلٍ ملحوظ، مُستفيدةً من واردات النفط المحلوب من حقول كركوك. وخلال هذه الفترة، هيمن على مناصب الجيش ومفاصلهِ، الضباط العرب السنة.

قصة الملك من يومِ تنصيبهِ، الى رئيه في شعبه (اللأمة)، ووصفتهِ لبناء الجيش والأمة، هي بإختصارٍ شديد، قصة العراق الى يومنا هذا...أو قُل: مُشكلة العراقِ ليومنا هذا!

لربما كان واضحاً لفيصل، ومنذ لحظة الإرتباك التي أصابت الفرقة الموسيقية. بإنهُ في غياب الوطنِ يغيب النشيدُ أيضاً. والدولة التي عُزِف فيهِ أول مقطوعة موسيقية، مدحاً في شخصهِ، جاعلاً منهُ البديلَ للوطن، قد تم فصلهُ بإمتياز، على مقاسهِ ومزاجهِ ومذهبه وقومهِ، بجيشهِ، وشعبهِ، وحتى حدودهِ.

أما الشباب المتجدد والمتعصب، فلقد شاخَ وماتَ وأندثر. وأما السُنة، والشيعة، والكورد، والأقليات غير المسلمة، والعشائر، والسواد الأعظم الجاهل، فبقوا أحياءاً يُرزقون.

فهذا هو واقع العراق الذي يفقأ العيون، ويسطع كالشمسِ لأي راءٍ بصير.

دولة بلا شعب ولا أُمّة، وقِسمة بين الكوردِ والعربِ السُنةَ منهم والشيعة، وعلى هامشهم تعيش القوميات والأديان الأخرى غير المسلمة. وكلهم عشائر، وسوادهم الأعظم جاهل، بمبادئ الديمقراطية، والمساواة، والقانون، والأخلاق المدنية، والعلمانية، والحداثة، والنظام، والتعايش السلمي وتقبل الآخر.

وحريٌ بنا هنا ألا ندخل في سجالات التأريخ والتبريرِ، فنغرق مثلاً في جدل بيزنطي، حول كيف نشأت بدعة السنة والشيعة:

أمن الصراع على الخلافة، بين أهل البيت، والصحابة في يوم السقيفة، أم من مقتل الحسين في كربلاء؟
أمن صراع الصفويين والعثمانيين في المنطقة، أم نتيجة سياسات الحكم الملكي، أو الحكم الصدامي، لا بل مِن (الإحتلال) الأمريكي؟
أو هل يوجد هكذا مشكلة أصلاً؟

فكل هذا اللغظ الدائر، لن يُجدي نفعاً، ولن يُغير مِن الواقع شيئاً. وخاصة والإنقسامُ هذا قد عرف العنف المفرط، والإحتقان، وفقدان الثقة، ومازال مستمراً. وإن كل طائفة من هؤلاء تجمعها الجغرافية في منطقة معينة تعتبرها الوطن. وإن نتائج الإنتخابات كلها تترجم تلك الحقيقة بوضوحٍ ساطع. فمازال الكورديُ ينتخب الكوردي، ومازال الشيعيُ ينتخب الشيعي، وكذلك هو السنيُ الذي ينتخب السني، وهي صحيحة في باق الطوائف الأخرى. لذا يصير التبرير والإختلاف على هذه الحيثيات، لغواً فارغاً، لو تغاضى عن الواقعِ، ولم ينظر لهُ نظرة براجماتية وواقعية.

لا مراء على توفيق فيصل في تشخيص علة بلدهِ المفُتقر للوحدة الوطنية، ولم يخطئ حين أعتبر الجيش عماد الأُمة. لكنه لعمري، أقترف أفدح خطأ في حياة مملكته، حين أعتقد واهماً بإن القمع، والقسر عن طريق الجيش، سيبنون له أُمّة.

فالجيوش تسهم في بناء الأمم، حينما تستوعب أبناءها من مختلف الطوائف والملل، فتربيهم على الوطنية، وتضعهم أمام مُهمة الدفاع عن حدود الوطن ضد العدو الخارجي، لا الداخلي.

أحفاد وأقارب فيصل الأول صاروا من أوائل الضحايا لهذا الجيش، فدفعوا ثمن هذا الخطأ القاتل غالياً. فها هو هذا الوحش الكاسر الذي بُني لِقمع الشعب وحماية السلطة، ينقلب على العرش والدوله والحكومة، وللمرة الثالثة، فيقتل الملك وحاشيته، ويسحلهم في الشوارع ويقطعهم إرباً إرباً، ويوزع أطرافهم بين أزقة ومحلات بغداد.

فمنذ الإعلان عن تأسيسهِ رسمياً في بدايات 1921، ولحين حله في 2003 على يد الحاكم الأميركي بول بريمر. قام الجيش بالعديد من الإنقلابات الدموية، كان أهمها في (1936،1941،1958،1963،1968)، فأوصل في كل مرة، حاكماً ديكتاتورياً للسلطة، وتوجها أخيراً، بمنحه السلطة لصدام، على طبقٍ من ذهب. وكان له الدور المباشر في العديد من عمليات القمع الدموية، الواسعة النطاق، ضد شعبه، في الشمال والجنوب. وكل هذا دون ذكرٍ لهزائمه الذليلة في الكثير من الحروب الخارجية.

وكأن القدر يأبى إلا أن تعود تعويذة فيصل ثانية، ففي السنوات العشر الماضية، تم إعادة بناء 17 فرقة عسكرية، ليصل عديد جنودها الى مئات الألوف من العسكريين، وصارت مهمتها الأساسية قمع التمرد الداخلي، كما كان سابقاً. وفي زمن حكم المالكي، تمكن من التغلغل في جميع أنحاء العراق ما عدى أقليم كوردستان.

رئيس الوزراء العراقي، أخذ بتولي زمام هذا الجيش الجديد، مُستغِلاً منصبهُ كقائد عام للقوات المسلحة، عبر تعيين ضباط جيش سابقين موالين له، كقادة للفرق العسكرية، وعن طريق إنشائه لِوحدات عسكرية تابعة له شخصياً. ومن ثم قسم العراق الى مناطق عسكرية محددة، لكل منها قيادة للعمليات، فأناط القيادات تلك، السلطات الأمنية، والمدنية. وبذلك حول السيطرة على واردت النفط، والجيش، ووزارة الدفاع، والداخلية الى مفاتيح قوة سياسية له. حاله حال أغلب الحكام العراقيين السابقين، اللذين حكموا العراق بالحديد والنار والنفط.

فشل الجيش الجديد في فرض الأمن، وإقتلاع الإرهاب، وحماية الحدود. لأن هذه المهام، خارج سلم أولوياته. بل إن التدهور الأمني أعطاه زخماً أكبر للإنتشار، وفرض السيطرة على المناطق والمحافظات. فأصبح العراق وكأنه يعيش تحت ظل الأحكام العرفية، التي تفرض عادةً بعد الإنقلابات العسكرية، حيث ينتشر الجيش في الشوارع بدل الحدود، ويناط أليه ألكثير من السلطات الإدارية، والمدنية.

وأصبح المهمة الرئيسية للجيش، تنفيذ الإجندة السياسية للقائد العام للقوات المسلحة، وحسم خلافاته السياسية مع خصومه في الداخل. فأنقض عليهم، وأعتقلهم أو طردهم خارج العراق، وهجم على مجالس محافظتي ديالى وصلاح الدين، لإفشال قراراهم الدستوري بتشكيل أقليم فيدرالي. وحين بلغت خلافاته السياسية مع الأقليم حداً، جند لها الجيش. ولم يتردد في تهديد خصومهِ بإجراءات ((غير مسبوقة))، وفي تهديد المتظاهرين، بإستخدام القوة. فصار السؤال الذي يشغل الأذهان الآن:

ماذا لو بلغت الضغوط لتنحية المالكي حداً حرجاً؟

فهل سيرسل أعضاء البرلمان الى المنزل، ويوقف العمل بالدستور رسمياً، ويعلن البيان الأول لإنقلابهِ العسكري؟
وطبعاً فالضغوط على المالكي ودائرة حكمهِ، في طريقه الى التكاثف والإنفجار، وخاصة والملف السوري في طريقه للحسم، في غضون الأسابيع والشهور المقبلة. وكما دافع النظام السوري مدعوماً من إيران وروسيا والصين عن السلطة الى آخر رمق، وبكل الوسائل. فليس هناك مايدعو لئن لايحصل المثل في العراق، أعني الدفاع عن السلطة الى آخر رمق، وبكل الوسائل أيضاً.

المفارقة إنه وفي هذا الجو الصاخب، فإن الفرقة الموسيقية للأناشيد الوطنية في العراق، مازالت مُرتبكة لاتعرف ماذا تعزف، فبعد تسعون عاماً مضت، لم يتفق العراقيون بعد على علم ونشيد ووطن واحد، ومازال الأسى على شعب ((اللا أُمّة))، لايفارق قلب فيصل وهو قابعٌ في القبرِ. ومازال حكام الأمة المتفرقة تلك، يجربون وصفتهِ الفاشلة، في بناء الأمة والوطن، عن طريق القسر والقوة العسكرتين، فيصلون في كل مرة الى نفس النتائج الكارثية!

يقول آلبرت آينشتاين:
الحماقة هو أن تكرر نفس الشئ، مرة بعد أخرى، وبنفس الطريقة، وتتوقع نتائج مختلفة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحيه
عبد الرضا حمد جاسم ( 2013 / 1 / 6 - 08:30 )
الزميل اكو كركوكي المحترم
تهنئه بالعام الجديد وامنيات بتمام العافيه
لقطه جميله جدا بخصوص النشيد الوطني
العراق اليوم كما تفضلتم لا شيء وطني يلتم حوله الشعب فلا عيد وطني و لا علم و لا نشيد و ربما حتى خارطه
اكرر التحيه


2 - الأستاذ عبد الرضا حمد جاسم
آكو كركوكي ( 2013 / 1 / 6 - 11:33 )


شكراً لكم وتمنياتي لكم بعام جديد فيه كل السرور ودوام الموفقية

اخر الافلام

.. مقتل شخص وجرح آخرين جراء قصف استهدف موقعا لقوات الحشد الشعبي


.. فايز الدويري: الهجوم رسالة إسرائيلية أنها تستطيع الوصول إلى




.. عبوة ناسفة تباغت آلية للاحتلال في مخيم نور شمس


.. صحيفة لوموند: نتيجة التصويت بمجلس الأمن تعكس حجم الدعم لإقام




.. جزر المالديف تمنع دخول الإسرائيليين احتجاجًا على العدوان على