الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار مع الدكتورة لاهاي عبد الحسين

سعدون هليل

2013 / 1 / 13
مقابلات و حوارات



الفكر في العراق.. ابعاده وآفاقه المستقبلية
حوار مع الاستاذة الدكتورة لاهاي عبد الحسين أجرى الحوار : سعدون هليل
الدكتورة لاهاي عبد الحسين، مفكرة وباحثة اجتماعية متميزة في علم الاجتماع. حاصلة على شهادة الدكتوراه من جامعة "بوتا" في الولايات المتحدة الامريكية عن رسالتها الموسومة بـ (التفاوت الجنسي في العراق)، لها مؤلفات ومشاركات كثيرة في مجال اختصاصها، فضلاً عن قيامها بترجمة الكثير من الكتب والمؤلفات من اللغات الاجنبية الى العربية، وتدريسها في جامعات عالمية معتمدة، فضلا عن الجامعات والكليات المحلية. كانت لها آراء متميزة ونافعة معتمدة من قبل الجهات التي ترشحها للمشاركة باللجان او الممارسات المطلوبة.
من مؤلفاتها وبحوثها: "اشكالية الدور الاجتماعي للمنظمات النسائية العربية"، " البعد الايديولوجي للعولمة" ، " الرؤية الاجتماعية للفارابي"،وكان سؤالنا الأخير عن كتابها المترجم " العرقية والقومية ، وجهات نظر أنثروبولوجية " للكاتب " توماس هايلاند اريسكين ".
ولتسليط الضوء اكثر على مكانة وشخصية الدكتورة لاهاي، اجرينا معها حواراً تضمن مجموعة من الاسئلة في مجال علم الاجتماع المعرفي ودور الدكتور علي الوردي وتأثيرة في علم الاجتماع.. ودور التعليم الجامعي في رقي المجتمعات..
وكان سؤالنا الاول:
• من موقعك الأكاديمي، أو من موقعك كباحثة في علم الإجتماع كيف يبدو لك واقع ومستقبل الفكر العربي في العراق مقارنةً بغيره من حقول التخصص وبالقياس الى ما أنجزه مثقفون عرب في بلدان عربية؟
بقدر ما يتعلق الأمر بالفكر ومساراته وآفاق تطوره سواء في العراق أم أي مكانٍ آخر من العالم، فإنّه يقف بمفترق طرق. لقد هزّت العولمة أركان كل ما كان سائداً، ولا يزال العالم يترنح تحت فعل تلك الهزة التي لم تتوقف بعد لتتيح المجال لإنتاج فكري متميز وأصيل. اليوم، يتساءل المختصون في كل مكان بالعالم عمّا هو مناسب وسليم. في الوقت نفسه، فإنّهم خائفون ويعتقدون باحتضار الآداب والثقافة والفنون وحتى العلوم. ولعل الدليل بنظرهم على ما يسوقونه من أفكار وتصورات متشائمة يكمن في التوق للعودة الى الآباء المؤسسين للبحث في أفكارهم وإعادة النظر في أعمالهم دون أنْ يبدو أنّ من الممكن تجاوزهم بشيء جديد وغير مطروق بمثل ما فعلوا هم في يومٍ من الأيام. ويقف كارل ماركس وأميل دوركهايم وأوكست كومت وماكس فيبر وجورج سيمل وتالكوت بارسونز وروبرت ميرتون وجورج هربرت ميد في مقدمة أولئك الآباء المؤسسين في مجال العلوم الإجتماعية، على سبيل المثال. وهاهو الفيلسوف الفرنسي المعاصر جان فرانسوا ليوتار يصف العالم في كتابه ذائع الصيت المعنون، ‘وضع المعرفة’، بالقول: إنّه متقطع ومتشظ ... إنّه عالم الأصوات الفردية، المحلية المنكفئة على ذاتها وليس عالم المدارس والآيديولوجيات القائدة ...’. بنظري، العراق جزء من هذه المعمعة الشاملة. المشكلة في العولمة أنّها تقوّي القوي وتضعف الضعيف وبخاصة إذا ما تلكأ الضعيف واستسلم ولم يحاول مما يسمح بتعميق الهوّة بين الطرفين. وقد يؤدي بنا هذا الى العودة الى تصنيفات ما قبل العولمة مثل دول الجنوب ودول الشمال، العالم المتقدم والعالم المتخلف، الى ما هنالك من تسميات وتوصيفات. لا وجود للأقدار إنّما هناك عمل ومحاولات قد تمكّن من أخذ مكان مناسب على الخارطة. لا زلنا ندور في دائرة المواقف والتصورات والآراء وردود الفعل. لم ننحت إيقونتنا بعد. حتى على مستوى الأطاريح العلمية التي تقدم في الجامعة للحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه، فإنّ ما يفعله الطلبة لا يزيد على محاولة تطبيق فكرة، صنعها آخرون، وأحياناً كثيرة، يستغني الطلبة حتى عن مستوى الحدّ الأدنى هذا، ويكتبون كما يشاؤون ويجدون من يوقع على أطاريحهم ويساهم بمنحهم الشهادة. هذا هو وضعنا هنا في العراق ولا يختلف الوضع جوهرياً في بلدان عربية أخرى.
• هل تعتقدين أنّ من ندعوهم فلاسفة أو مفكرين هم كذلك بالمعنى الإستراتيجي للكلمة، أم أنّ هناك مشتغلون في القضايا الفكرية والفلسفية؟
إنّ ما يدعون بالفلاسفة والمفكرين في بلدنا هم بالحقيقة مثقفون وكتّاب وأكاديميون مبدعون ودؤوبون إلا أنّهم بالتأكيد ليسوا بفلاسفة ولا مفكرين. لدينا ميل للتضخيم أو على العكس، ميل الى التصغير والتذليل مما يؤدي بنا الى استخدام تسميات لا تقع بدقة على مسمياتها. إبن خلدون فيلسوف ومفكر بحكم ما أنتجه من عمل فلسفي وفكري تميز برؤية شمولية واضحة ومسلمات فكرية محددة ومجموعة من الأفكار التفصيلية التي ساقها للتعريف بصورة المجتمع العربي الذي عاصره، مجتمع القرون الوسطى. في تاريخ إبن خلدون وكتاب المقدمة الذي قدمه بطريقة تشبه ‘البيان الشيوعي’، لكارل ماركس، من حيث أنّه أوجز تصوره النظري فيه تماماً كما فعل ماركس بتقديم تصوراته النظرية الخالصة لمجتمع المستقبل، قدم إبن خلدون مفهومين رئيسيين لتحليل الطبيعة التي يقوم عليها المجتمع العربي وهما ‘العصبية’ و‘الدين’. بنظره، كانت العصبية والدين هما اللحمتان التي إستند إليهما الحاكم العربي لقيادة الجحافل المتعطشة للتوسع والسيطرة والأستيلاء على بقاع واسعة من العالم المعروف آنذاك. لو كان لدينا من قدم عملاً بهذا الوزن لأنتزع صفة مفكر وفيلسوف إلا أننا لا نملك مثل هذا بعد. وهنا لا بدّ من الاشارة الى دور البيئة الاجتماعية والثقافية السائدة. فالبيئة السليمة التي تتنسم هواء الحرية تغذّي الإبداع وتدفع باتجاهه. ليس بالضرورة أنْ تكون البيئة الأجتماعية والثقافية الحاضنة مريحة، وإنّما الأهم أنْ تكون طليقة وسمحة. لقد برز فلاسفة عصر التنوير في أوربا إبتداء من القرن السابع عشر واشتغلوا في ظلّ ظروف أقل ما يقال فيها أنّها كانت صعبة معيشياً كما حدث مع كارل ماركس الذي لم يكن ليجد عملاً يعتاش منه وتوفيت زوجته جراء سوء التغذية. وهناك مؤسس علم الاجتماع الحديث المفكر الفرنسي أوكست كومت ممن عمل سكرتيراً بأجر يومي لدى سانت سيمون، رجل الارستقراطية الفرنسية حينها، وغيرهم. إلا أنّ أولئك المفكرين استفادوا من أجواء الحرية التي سمحت لهم بالتفكر والتأمل والإنتاج حتى تبلورت أعمالهم ووجدت ناشرين ومريدين وبالتالي أجيالاً من طلبة العلم لها. هنا في العراق، ينشغل المثقفون والكتّاب والأكاديميون بقوت يومهم ورواتبهم ومخصصاتهم والأهم من ذلك فإنّهم يتحسبّون لما يكتبون ويقولون مما يساهم بالحدّ من طاقاتهم الخلاقة لينتجوا ويطوروا ويتطوروا وبالتالي ليصبحوا مؤثرين في الأوساط التي يعملون فيها. لم نتحرر بعد من قبضة الأجهزة الأمنية التي تعمل بأشكال شتى بل وتجاهر وتعلن عن نفسها للتحرك مما ينذر بالعودة فعلاً الى فترات التقهقر والإنزواء.
• ما هو الخلل البنيوي الذي تعاني منه المؤسسة التعليمية في العراق؟
ينبغي أنْ توفر للجامعة التي يراد لها أنْ تعمل بنجاح ظروفاً وأنْ تكون عالماً قائماً بذاته، بمعنى أنْ تتمتع بالإستقلال الذاتي وتصان حرمتها بعيداً عن كل المؤثرات السياسية والآيديولوجية التي تسعى دائماً لاختراقها. فيما عدا ذلك، بالتأكيد، لابدّ من توفير مستويين من مستويات المستلزمات اللازمة وهما المستلزمات المادية وغير المادية. أما المادية فتبدأ بالكادر البشري المؤهل والملتزم تجاه مسؤولياته الأكاديمية. وكذلك الحال فيما يتعلق بالمباني والقاعات والمختبرات وما اليها. وتشمل المستلزمات غير المادية منظومة القوانين والأنظمة والتعليمات المصممة للمساعدة على العمل والإنتاج وليس مجرد إضافة أعباء وقيود تكبل الكادر التدريسي والطلابي على حدٍ سواء. بنظري، لا زال هناك تلكؤ كبير على المستويين المادي وغير المادي والطريق أمامنا طويلة. على صعيدٍ ذي صلة، أعتقد أنّ من الضروري العمل على الحدّ من تدخل وزارة التعليم العالي في شؤون الجامعات. فعمل الوزارة مثل عمل الدولة ينبغي أنْ لا يزيد على تسهيل الأمر دون التدخل في شؤون أثبتت أنّها ليست أكثر من معوقة. خذْ على سبيل المثال، العودة الى طريقة إستحصال التصاريح والموافقات الأمنية. إذْ لم يعد الأستاذ أو التدريسي قادراً على السفر للمشاركة في مؤتمر علمي أو ورشة دون الحصول على موافقة أمنية تتطلب مراجعات روتينية لا يسمح بها وقت الأستاذ والتي غالباً ما يضطر إليها لتكون على حساب المحاضرات والوقت الذي يفترض أنْ يقضيه أو تقضيه مع طلبتها وزملائها. وهناك مشاكل أخرى كثيرة، من بينها سيادة حالة من اللاإستقرار والترقب بدليل أنّ الغالبية العظمى من رؤساء الجامعات وعمداء الكليات لا زالوا يعملون (وكالةً) وليس (أصالةً) مما يعني أنْ يتوقع أيُّ من هؤلاء الإقالة من عمله بأي مناسبة ولأسباب ليست بالضرورة معروفة له أو لها. ويسهم هذا بالتأكيد بشيوع حالات القلق والتحسب والحذر الذي يقتل المبادرة ويجمد روح العمل ويحدّ من القدرة على العطاء.
• ما الأسس التي يجب اعتمادها بالنظام التعليمي في العراق الجديد؟
بنظري، لا يمكن لأي إصلاحٍ حقيقي أنْ يأخذ طريقه في مجال التعليم بالعراق دون البدء بالتعليم الإبتدائي. ولعل نقطة الإنطلاق تتمثل بالإرتفاع برواتب المعلمين والمعلمات في المدارس الابتدائية لأنّهم يشكلون الحاضنة الرسمية الأولى للطفل رصيد المجتمع وأمله في النهوض بعد العائلة التي تمثل الحاضنة غير الرسمية. هؤلاء هم الأهم. المعلمون والمعلمات على صعيد المدارس الإبتدائية. إنّهم يستلمون أشخاصاً يتكوّنون وحريٌ بنا أنْ نوفر لهم ظروف العمل المجزية والمناسبة. أضف الى ذلك، نحن بحاجة الى تطوير أو على الأقل، تبني فلسفات تعليمية ناجحة، تأخذ بالاعتبار الأساس الذي تنبني عليه سياسة التعليم في العراق. نحن بحاجة الى فلسفة تعليمية سليمة تشجع على التفكير والتحليل والإبتكار وليس فلسفة تقليدية بالية تشجع على التلقين وتجبر على التلقي وتمنع الخيال. ويأتي بعد ذلك ضرورة القيام بحملة وطنية شاملة لبناء المدارس المصممة وفق أحدث المواصفات حيث قاعات الدرس الواسعة والساحات وأماكن اللعب وممارسة الرياضات بأنواعها ومطعم الطلبة بأسعار مدعمة لضمان أنْ لا يذهب طالب الى قاعة الدرس وهو خاوي البطن وبالتالي معطل الذهن. نحن بحاجة الى أنْ نكون صريحين في أنّ المدرسة أو الجامعة ليست مجرد ميدانٍ للخطابة وساحةً لتعليق الرموز الدينية والمذهبية إنّما هي حصنٌ للعمل العلمي الموثق بالحجّة والدليل المادي القابل للقياس العلمي. ومن أراد غير ذلك يبدو أنّه أخطأ في طرق الباب. نحن بحاجة الى تشجيع النقد العلمي البنّاء الذي يساعد على تطور الفكر ويسمح بتجواله في أجواء صحية لا أنْ يكون وسيلة للسب والشتم والتجاوز على الآخرين أو تهديدهم والحطّ منهم.
• ما اثر فرضيات عالِم الإجتماع العراقي، ‘علي الوردي’، على الواقع العراقي، سلباً أم إيجاباً؟
لم يكن الغرض من فرضيات الدكتور علي الوردي أنْ تؤثر سلباً أو إيجاباً وإنّما كانت مجرد أفكار حاول التحقق منها وإختبارها مستخدماً المنهج التاريخي لتعقب تطور الشخصية العراقية وطبيعة المجتمع العراقي. لقد أحب العراقيون علي الوردي لأنّه كان أشبه ما يكون بأعماله المرآة لهم ليبصروا أنفسهم ويتأملوا في قيمهم وتحذلقاتهم ومقاييسهم. بالمناسبة، كانت دراسات وبحوث الوردي في هذا المجال جزءاً من الإهتمام الأكاديمي العالمي بالشخصية وطبيعة المجتمع الأنساني. أي أنّ الوردي لم يكن ليخوض لوحده وإنّما كان جهده جزءاً مما كان سائداً في الفترة التي أنتج فيها أهم أعماله وهي الستينيات والسبعينيات. نأى علي الوردي بنفسه من أنْ يكون مصلحاً أو داعية، إنّما هو عالم ومختص وضع إمكاناته ووقته وإهتمامه في خدمة رسالته الأكاديمية تلك، هنا في العراق.
• ما سر نجاح الوردي واخفاق الآخرون بدراسة بنية المجتمع العراقي إذ أستقطبت دراساته الجدل والخلاف؟
نعم، نجح الوردي ولكنْ دون الحاجة للقول، أخفق آخرون. لقد ظهر الوردي في زمانٍ غير زمانهم. نسبياً، كتب الوردي في ظلّ ظروف أقلّ هوناً مما جاء بعد ذلك وخاض في موضوعات كانت جديدة على المجتمع مما حدا بالناس الى استقباله وتلقف أعماله. وكان لأسلوبه السهل الممتنع والممتع في الوقت نفسه دور مهم في تقديم الوردي كنموذج للنجاح. كان الوردي مثقف العامة ممن حمل علمه الى بيوت الناس ومقاهيهم وسكن معهم واستمع اليهم وأستمعوا اليه. لقد بلغ الوردي ذروة إنتاجه في السبعينيات وتوقف عملياً بعد ذلك التاريخ. لم يكتب الوردي شيئاً عن الحرب العراقية الايرانية أو أحداث التسعينيات رغم أنّه لو كتب لأصاب كَبَدَ الحقيقة بما يمتلكه من حسّ سوسيولوجي عراقي عميق. بالنسبة للآخرين، فقد واجهوا ظروفاً مختلفة لعلّ من أبرزها القمع والاضطهاد وفي الأقل التطيّر السياسي والتعقب فضلاً عن الضغط والترهيب لجرّهم للعمل في أجهزة الدولة مما عنى أنّه كان مستحيلاً القيام بوضع أعمال علمية حيادية وغير منحازة. بالتأكيد، كان الوردي بطلاً، إستطاع التهرب من ضغط السلطة وجبروتها برغم محاولاتها كسبه بطرق متعددة منها أنْ يكون وزيراً أو سفيراً، إلا أنّه رفض وبإصرار، إنّما بطريقة كيّسة، لا تثير حنق الحانقين والمترصدين، وبذلك حافظ على كرامته. وهذه ميزة أخرى ميّزت الوردي وجعلت أعماله ثمينة لتساميها عن ضغوط المراحل الزمنية التي عاشها. ولم يغادر العراق. وهذه قضية أخرى مهمة. علي الوردي لم يغادر العراق ولم يتذمر في هذا المجال ولم يسعَ الى غير أنْ يكون معروفاً ومفهوماً هنا في أرض العراق التي تمنى فيها يوماً الموت للتخلص من أوجاعه الصحية وحاجته الى الدواء في التسعينيات من القرن الماضي. هكذا كان الوردي وفياً للعراق حتى الموت.

• هل يُعدُّ الوردي أحد المرجعيات الاجتماعية المهمة للباحث المعاصر في مجال علم الإجتماع؟
كما لا يستغني مثقف وطالب علم عن الاطلاع والاحاطة بالنظرية الماركسية كونها لازمة، يمكن القول، لا يستغني باحث أو مثقف بالشأن العراقي عن الاطلاع والاحاطة بأعمال الوردي. فقد سجل الوردي ملاحظات تنطوي على بصيرة عميقة وعبر عن آراء وأفكار وتقييمات علمية حيادية إرتقت اليوم الى مستوى الوثيقة على الأوضاع الاجتماعية للعراق في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. أما أنْ يكون الوردي أحد المرجعيات الاجتماعية المهمة، فليس بالضرورة. لقد طرأت الكثير من التغيرات وظهرت العديد من النظريات وتطورت الكثير من المقاربات التي تتطلب بحثاً من زوايا مختلفة وليس فقط زاوية واحدة. كما أنّ العولمة تفترض بحثاً بعقلية من نوع مختلف، أساساً. ينبغي علينا أنْ نحاذر من التعبد للأشخاص والعلماء والمفكرين مهما كانوا. إننا نعيش في عالم متغير ولا نكاد نلحق ما يجري فيه، لذلك فانّ من المهم أنْ نتطلع الى الأمام مع الاحتفاظ بالاحترام لما ساد في الماضي من إنجازات فكرية وعلمية. لقد مضى زمن المرجعيات الاجتماعية المهمة. إننا مطالبون اليوم بالانفتاح على إختصاصات متعددة. لم يعد التركيز على إختصاص واحد هو السليم بل لا بدّ لأكثر من إختصاص ويسمى هذا ‘مقاربة الاختصاصات المتعددة’، كأنْ يعمل طلبة الفلسفة وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والقانون معاً لأنّ الحقيقة تكمن في جانب من كل ما يمكن أنْ تجود به هذه العلوم وميادين المعرفة العلمية مجتمعةً.
• اصيب العقل العربي بمشكلات مزمنة كالانسياق وراء الوهم والخرافة والخلط بين العلمي وغير العلمي في مواجهة الحقائق بطبيعتها المحايدة، ما سبب ذلك؟
أعتقد أنّ العقل العربي مصاب بلوثة التفكير ‘القطعي والنهائي والمطلق’، وليس بالضرورة الوهم والخرافة والخلط بين ما هو علمي وغير علمي. وهذه إحدى النتائج التي ترتبت على التنشئة الدينية النمطية التقليدية المسلكية التي لا تشجع على التفكر والتأمل والتساؤل والتحليل، أي الربط بين الحقائق وليس مجرد إستحضارها ورصفها، أو في أحسن الأحوال، تصنيفها. على العكس من هذا، تجد العقل الغربي الذي يُدرّب على السؤال والاستفسار والنسبية والاحتمال. ويعود السبب في هذا الى دور النظام التعليمي السائد لأنّه الأداة الرئيسة. أمام التقدم المهول في عالم التكنولوجيا والاتصالات لم يعد صعباً الحصول على المعلومة ككم، إنّما الصعب، ما الذي يمكنك أنْ تصنع فيها. كيف تسخرّها لتجيب على أسئلتك وإشكالاتك. ما هي الفكرة التي تقف وراء ما تريد أنْ تعبر عنه بالكلمة أو الصورة أو العمل المنتج. إنْ لم تكن قادراً على تبرير إنتاجك بفكرةٍ غير مطروقة أو فكرة تثير في الأقل الرغبة في البحث عن المزيد من الأجوبة، فأنت فاشل، لا محالة. لعلّ هذا النوع من الجدب الفكري هو الذي يفسر سبب محدودية قدرتنا على الدخول في المهرجانات الفنية والثقافية والفوز فيها، فيما ينجح الآخرون، ممن أدركوا مفاتيح اللعبة. الإتيان بشيء جديد في مجال النظر الى الأشياء وليس مجرد تلقي الأشياء والأفكار.
• من هم أبرز من سبقوا الوردي واستبقوا فرضياته الاجتماعية المعروفة؟
لا وجود لمن سبق الوردي. فقد سبق الوردي الجميع. كان الوردي أول عالم إجتماع عراقي عاد الى العراق عام 1950 بعد أنْ أنهى دراسته الأكاديمية العليا في جامعة تكساس الأمريكية حيث نال شهادة دكتوراه فلسفة في علم الاجتماع. وكانت أطروحته في نظرية ومنهجية إبن خلدون. جاء بعد الوردي بأربع سنوات الدكتور عبد الجليل الطاهر والذي إشترك معه حينها بتأسيس قسم علم الاجتماع في كلية الآداب والتي كانت قد أنشئت عام 1949، في بغداد. تعاقب الآخرون بعد ذلك ومنهم عالِم الأنثروبولوجيا و‘شيخ الأنثروبولوجيين’ في العراق الدكتور قيس النوري، د. متعب مناف، أستاذ النظرية السوسيولوجية، د. شاكر مصطفى سليم صاحب الكتاب ذائع الصيت، "الجبايش" والذي إستند الى أطروحته للدكتوراه في مجال علم الأنثروبولوجيا التي حصل عليها من جامعة لندن عام 1957، في الستينيات؛ والأستاذان خلوف الجدعان ومصطفى سعيد ممن حصلا على شهادة الماجستير من جامعة شيكاغو الأمريكية وأنتجا أطاريح في مجال المشكلات الاجتماعية والتغير الاجتماعي في الستينات، أيضاً. وتتالى الآخرون في السبعينيات ومنهم د. عبد المنعم الحسني، أستاذ دراسات التنمية والنظرية والتخطيط، د. يونس حمادي، صاحب الكتاب المنهجي الأكثر تميزاً في مجال علم السكان، د. قحطان سليمان الناصري، عالِم الأنثروبولوجيا خريج جامعة كارديف البريطانية وأستاذ الجماعات والمجتمعات المحلية، د. علاء الدين البياتي، عالِم الأنثروبولوجيا صاحب كتابي الراشدية وشثاثة، وهما من الدراسات الأنثروبولوجية الأصيلة في العراق، الخ.

• كيف تنظرين الى مصطلح "الأمة العراقية"، الذي بات متناولاً بقوة بعد سقوط النظام المباد وبشكلٍ خاص في الأوساط الاعلامية والفضائيات؟
فلسفياً وفكرياً، يعود هذا المصطلح الى فكرة nation-state الأوربية المنشأ. واضح أننا تأخرنا كثيراً في تبني هذا المصطلح شكلاً ومضموناً. الأمة العراقية حسب فهمي لها أمة الجميع من عرب وأكراد وتركمان وإيزيديين وكذلك من الجانب الآخر من شيعة وسنّة ومسيحيين وصابئة ويهود بكل طوائفهم وإنتماءاتهم. اليوم، صارت هذه الفكرة قديمة. فالعالم يبحث عن إصطفافات جديدة تؤمّن مصالح الشعوب على نحوٍ أكثر فاعلية وبخاصة في مواجهة أنياب العولمة. وهذه الاصطفافات قد تكون اقليمية أو مناطقية كما هو الحال في الاتحاد الأوربي، منطقة اليورو، مجلس التعاون الخليجي، دول بلدان المتوسط، الخ. أما نحن فلا زلنا نجادل ونتعشق الماضي الذي لم نستفد فرصتنا فيه. لذلك، أجد نفسي وجدانياً، كما يجد كثيرون أنفسهم بأنّهم مع هذا المصطلح. شكراً للسيد مثال الآلوسي، رئيس حزب الأمة العراقية الذي بثّ الحياة في هذا المصطلح، وجعله مادة تتداولها وسائل الاعلام والفضائيات على نطاقٍ واسع كما جاء في السؤال.
• كيف تنظرين الى ما يسمى بـ‘النظرية النسوية’، اليوم؟
النظرية النسوية اليوم واحدة من أكثر النظريات إزدهاراً وتطوراً في كثير من مجالات العلوم الانسانية وغير الانسانية، أعني الطبيعية والتطبيقية. بدأت النظرية النسوية بجهود منظمات وأفراد إنتصروا الى قضية المرأة إلا أنّ الوضع تغير الآن، وإرتقت هذه النظرية الى مستوى عال من الانتاج العلمي والفكري. تبنى النظرية النسوية على أعمال الكثير من المفكرين لعلّ من أبرزهم كارل ماركس. على صعيد المؤسسات الأكاديمية في العالم الغربي، ظهرت النظرية النسوية الى جانب الماركسية في سبعينيات القرن الماضي. ومنذ ذلك التاريخ وهي تشق طريقها بنجاح حتى أصبحت اليوم تقرب الى مستوى اللازمة لكل باحث ومثقف بالشأن العام. لا تمثل النظرية النسوية إتجاهاً فكرياً واحداً إنّما تمثل العديد من الاتجاهات الفكرية، ومنها الى جانب الاتجاه الماركسي التقليدي، الاتجاه الاشتراكي، الاتجاه الراديكالي، الاتجاه النسوي الحديث، الاتجاه الليبرالي وغيره من الاتجاهات. اقتحمت النظرية النسوية الكثير من المجالات ومنها الأدب والفن والرواية بل وحتى الدراسات الدينية واللاهوتية وما اليها. كما أنّ النظرية النسوية اليوم لا تعنى فقط بقضايا المرأة بحدّ ذاتها وإنما بقضايا الانسان، ومن هنا جاء مفهوم ‘الجندر’، الذي يشير تحديداً الى التشّكل الاجتماعي والثقافي للإنسان مما يملي عليه أو عليها مواصفات محددة ويتوقع أنماطاً سلوكية معينة تحدّ من قدرة هذا وتشجع ذاك. النسوية اليوم حركة من أجل التغيير. إنّها نظرية تدعو الى التساؤل والتغيير والثورة على الأنماط الاجتماعية والثقافية الرتيبة السائدة في المجتمع والتي ساهمت في غمط الحقيقة عن الجنس البشري لآلاف السنين. لم تعد قضية المرأة قضية معزولة وتنطلق من منطلقات رومانسية متخلفة تكتفي بأتخاذ موقف إيجابي نصروي، إذا صحّ التعبير، بل تجادل في هذا المجال من أجل المساهمة لبناء مجتمع يقوم على أسس سليمة. أسس تحاذر من مغبة الثورة على النظام الذكوري التسلطي الأحادي لتستبدله بنظامٍ أنثوي قد لا يقل تسلطاً بل وشراسةً في السيطرة والهيمنة وبخاصة عند غياب الوعي والقدرة على إستحضار الدروس. المشكلة ليست في الرجل بحدّ ذاته، وإنّما، بالبناء الاجتماعي والثقافي الذي صنعه وصاغه ليكون متسلطاً وعديم الاحساس ولا يفهم إلا وجهة نظره الأحادية، القاصرة بالضرورة، لأحاديتها وتفردها وترفعها عن المشاركة. ويُخشى من حركةٍ نقيضة، تقدم نساء لا يحملن إلا عواطف الحقد والتحسّب والحيلة والتآمر على الآخر وبالتالي تنتج بديلاً مشوهاً ومختلاً لا يحلّ المشكلة بل يتفنن بصناعة ما هو أكثر رداءة منها.
• ما هي آخر نتاجاتك العلمية؟
صدر لي مؤخراً عن ‘عالم المعرفة’ الكويتية كتاب قمت بترجمته عن الانكليزية وهو بعنوان "العرقية والقومية: وجهات نظر أنثروبولوجية" من تأليف أستاذ الأنثروبولوجيا النرويجي الدكتور توماس هايلاند إيركسون. وأنا على وشك الانتهاء من ترجمة كتاب آخر بعنوان "تاريخ النظرية الأنثروبولوجية"، لنفس المؤلف. لدي مشاريع تأليف أخرى أركز فيها على تقديم مصادر يعتدّ بها لطلبة العلوم الاجتماعية على وجه التعيين لحاجتهم الماسة اليها. أما الأعمال البحثية الأخرى فموجودة على القائمة إلا أنني أود الانتهاء من هذه المسؤوليات المحددة لأتفرغ لعمل علمي من وزنٍ تنظيري مختلف.


• وماذا عن كتاب "العرقية والقومية"؟
هذا الكتاب كتاب منهجي مصمم لطلبة العلم والمختصين في مجال الدراسات العرقية والقومية. وقد تعرفت عليه أثناء قيامي بزيارة بحثية الى جامعة ‘فرايا’ الهولندية أو الجامعة الحرة في أمستردام ربيع 2009. وقد أشارت عليّ به زميلة أنثروبولوجية تعمل في قسم الأنثروبولوجيا في الجامعة المذكورة. وهو كتاب يقال أنّه الأوسع إستخداماً في الجامعات الأوربية. وقد خاطبت المؤلف للاستئذان بترجمته ووافقني على ذلك، متفضلاً. يتكلم الكتاب عن نهضة الوعي والجماعات العرقية في شتى أنحاء العالم ويظهر بالدليل العلمي الذي يقوم على دراسات أنثروبولوجية متخصصة فشل نظرية الحداثة التي سبقت نظريات العولمة بالتنبؤ بتلاشي الجماعات العرقية وإنصهارها ضمن بوتقة الكيانات القومية الشاملة الجامعة. ويؤكد الكتاب أيضاً على أنّ الوعي العرقي يرتبط بالتماس الاجتماعي وتوصيف الآخر. وأنّ الجماعة العرقية ليست بالضرورة موحدة ,إنّما يعتمد وجودها على عوامل شتى. على سبيل المثال، يمثل المهاجرون الجدد في العديد من البلدان الأوربية جماعة عرقية من وجهة نظر الأكثرية المهيمنة في المجتمع المضيّف. وكذلك الحال في السكان المحليين الأصليين ممن لا يمتلكون قوة أو دعماً سياسياً. وهناك الجماعات العرقية في المجتمعات التعددية التس ساهم الاستعمار الغربي بصنعها من خلال عمليات التغيير للبنية السكانية للمجتمع المستعمَر كما في أندونيسيا وجامايكا وغيرها من المجتمعات التي لم تعد متجانسة كما كانت في الماضي. بالتأكيد، هناك الجماعات العرقية ذات الأصول القومية كالفلسطينيين والسيخ والأكراد والتاميل السيريلانكيين وغيرهم. هناك الكثير مما يبحث القارئ الجاد عنه في هذا الكتاب بقدر ما يتعلق الأمر بالجماعات العرقية وتشكّلها وإنصهارها.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لاهاي عبد الحسين وثقافة البعث !
بوتان ( 2013 / 1 / 13 - 11:23 )
عرفنا الدكتورة لاهاي عبد الحسين من خلال مقالاتها التي كانت تنشرها جريدة الثورة العراقية الناطقة بأٍم حزب البعث الصدامي وكانت تبرر الساسات للنظام وتمجد ( قائد الضرورة ) والان تغير الحال وغيرت الدكتورة اتجاهها وتتحدث عن العلامة علي الوردي التي كانت سالبقا من اشد الكارهين والناقمين عللى البعث الحاكم تلميحا او صمتا وليس تصريحا خوفا على مصيره ومصير عائلته والان لانقول الا ( عش رجبا ,ترى عجبا ) .!!

اخر الافلام

.. الرد الإسرئيلي على إيران .. النووي في دائرة التصعيد |#غرفة_ا


.. المملكة الأردنية تؤكد على عدم السماح بتحويلها إلى ساحة حرب ب




.. استغاثة لعلاج طفلة مهددة بالشلل لإصابتها بشظية برأسها في غزة


.. إحدى المتضررات من تدمير الأجنة بعد قصف مركز للإخصاب: -إسرائي




.. 10 أفراد من عائلة كينيدي يعلنون تأييدهم لبايدن في الانتخابات