الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليون تروتسكي.. النظرية والممارسة

أشرف عمر

2022 / 1 / 18
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


ترجمة: أشرف عمر
إيسم كونارار
1- تروتسكي في القرن الحادى والعشرين

“طالما لازلت أتنفس، سأظل أناضل من أجل المستقبل”. كانت هذه العبارة، والتي كتبها ليون تروتسكي ذو الواحد والعشرين عاماً أثناء منفاه في سيبيريا، مرشداً لكل نضاله خلال الأحداث الهائلة التي عاشها في القرن العشرين.

طوال حياته، خاض تروتسكي الكثير من النضالات التي يشهد له الكثيرون أدواره المؤثرة فيها. فقد كان تروتسكي أحد المنظمين الأساسيين للانتفاضة المسلحة في روسيا في أكتوبر 1917، وبعد انتصار الثورة قاد تروتسكي الجيش الأحمر ليتصدى لأكثر من اثنى عشر من الجيوش الغازية من أوروبا. خاض تروتسكي أيضاً نضالاً هائلاً حتى خلال الفترات المظلمة في القرن العشرين، حيث عارض بقوة مجازر الحرب العالمية الأولى كما شن مقاومة شرسة ودؤوبة ضد صعود هتلر للسلطة في ألمانيا.

كانت جميع أفكار تروتسكي غرضها هو تغيير العالم من حوله. وبالرغم من اختلاف العالم اليوم عن الوقت الذي عاش فيه تروتسكي وطوّر أفكاره، إلا أن أفكار تروتسكي لازالت صالحة كمرشد عملى للنضال اليوم ضد الحرب والليبرالية الجديدة، حيث تناول تروتسكي قضايا هامة وقدم إجابات شافية على تساؤلات حية إلى اليوم مثل: كيف يمكن تحدي الرأسمالية في بلدان لا تشكل الطبقة العاملة أغلبية من السكان فيها؟ وما هي العلاقة بين النضال من أجل الإصلاحات السياسية والنضال من أجل العدالة والمساواة الاقتصادية؟ ماذا تعني “الأممية” بالنسبة للنضال العالمى اليوم؟ وكيف ينجح الثوريون في توسيع نفوذ أفكارهم في أوساط الحركة والنضالات المختلفة؟

وبالرغم من أن الكثيرين اليوم ممن يطمحون للتخلص من الرأسمالية يرون الاشتراكية مرتبطة بشكل وثيق بالنموذج المخيف للستالينية في الاتحاد السوفيتي السابق، إلا أن تروتسكي كان في صدارة الاشتراكيين الذين عارضوا صعود ستالين بكل حزم، وكان الأول في تطوير نقداً ماركسياً لظاهرة الستالينية. ونضال تروتسكي ضد ستالين، والذي دفع حياته ثمناً له، إنما يثبت أن هناك تراثاً مختلفاً تماماً للاشتراكية.. تراثاً قائماً على قوة ونضال الجماهير الثورية في العالم.

2- كيف أصبح تروتسكي ثورياً؟

وُلِدَ ليف دافيدوفيتش برونشتين (وهوالإسم الحقيقى لليون تروتسكي) عام 1879 في قرية أوكرانية صغيرة، وانحدرت أسرته الفلاحية من أصول يهودية، فيما استعار إسم تروتسكي لدى هروبه لأول مرة من منفاه في سيبيريا.

كانت العبودية قد أُلغيت قبل ميلاد تروتسكي فقط بعشرين عاماً، بينما ظلت روسيا قابعة تحت السيطرة الكاملة للقيصر والكنيسة الأرثوذكسية. وعلى الرغم من اعتماد روسيا بشكل كبير على الزراعة، إلا أن الصناعة كانت تنمو سريعاً في المدن آنذاك.

كانت روسيا القيصرية هي الأشرس في معاداة السامية قبل صعود النازية في ألمانيا على يد أدولف هتلر، حيث كانت الدولة الروسية تدبر أبشع المذابح بحق اليهود. كان اليهود الروس أيضاً محرومون من تملك الأرض في الكثير من المناطق في روسيا، وكان ذلك هو السبب وراء استقرار عائلة تروتسكي في أوكرانيا.

في ذلك الوقت، كانت حركة “الناروديين” (أصدقاء الشعب) هي التي تتصدر مقاومة الدولة القيصرية القمعية، وكانت الحركة تعتمد بالأساس على نضال الفلاحين في القرى. لكن عندما كانت محاولات الناروديين المستمرة لتحفيز الفلاحين للنضال تبوء بالفشل، لجأت الحركة لأساليب المقاومة العنيفة والتآمرية لمجابهة دولة القيصر. وفي عام 1881، حاول الناروديون اغتيال القيصر، آملين أن تكون عملية الاغتيال بمثابة الشرارة التي تشعل موجة من النضال في أوساط الفلاحين. لكن على العكس من ذلك، لم تؤدِ العملية إلا إلى مزيد من القمع والاستبداد من جانب الدولة.

وعلى الرغم من القمع العنيف، شهدت الفترة من بين عامى 1895 – 1896 موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات. ففي عام 1896، رفض مئات الطلاب تأدية قسم الولاء للقيصر، كما دخل حوالى 30 ألف عامل في إضراب عن العمل في قلب العاصمة سان بطرسبورج. كان ذلك الإضراب هو الأول من نوعه من حيث ضخامة عدد المشاركين فيه، مما دشّن ميلاد قوة اجتماعية جديدة في مواجهة القيصر – الطبقة العاملة الحضرية.

في نفس العام، انضم تروتسكي الذي كان الذي كان يبلغ 17 عاماً آنذاك، إلى حلقة من الثوريين أسسها فرانز شيفجوفسكى، وبالطبع كان والد تروتسكي قلقاً للغاية فلم يكن ذلك ما كان يرجوه لإبنه.

وبعدها أصبح تروتسكي نارودياً، تعرف في تلك الحلقة الثورية على زوجته الأولى، ألكساندرا سكولوفسكايا، والتي كانت ماركسية. وبعد بضعة أشهر اعتنق تروتسكي الماركسية هو الآخر.

إن الفكرة الأساسية في الماركسية هي أن نمو الرأسمالية يخلق طبقة عاملة يصير لديها القوة للإطاحة بالنظام الرأسمالي ومن ثم بناء مجتمع ثوري جديد يقوم على المساواة والحرية، وهكذا أطلق ماركس على العمال: حفاري قبور الرأسمالية. كما جادل ماركس أيضاً بأن تحرر المستغَلين لا يمكن أن يحدث بالنيابة عنهم، بل أن تحرر الطبقة العاملة يكون بفعل الطبقة العاملة نفسها.. صار ذلك هو المبدأ الذي استند إليه ليون تروتسكي طيلة حياته.

بدأت مجموعة تروتسكي في النشاط بين صفوف العمال في المصانع، حيث قامت المجموعة بتوزيع الأدبيات والمنشورات الثورية وتجنيد العمال إليها، وسرعان ما تجاوزت عضوية المجموعة 200 عضواً. وسرعان ما التفتت الشرطة السرية لتلك المجموعة الآخذة في النمو، لتلقي القبض على تروتسكي وعدد كبير من رفاقه في عام 1898.

قضى تروتسكي عامين في السجن، قرأ فيهما الكثير من الكتب والتي تضمنت بعضاً من أعمال الثوري الروسي فلاديمير لينين، وخلال فترة السجن تزوج تروتسكي من ألكساندرا ثم أُرسِلا سوياً إلى المنفي في سيبيريا، حيث كان تروتسكي يكتب الكثير من المقالات السياسية والأدبية. وعلى الرغم من الإحباط الكثيف الذي ألقى بظلاله على تروتسكي أثناء منفاه، إلا أنه قد صار خلال تلك الفترة ثورياً ملتزماً وماركسياً متماسكاً.

3- أى نوع من الأحزاب؟

نجح تروتسكي في الهرب من منفاه في سيبيريا في عربة من القش في عام 1902، وبمساندة بعض الرفاق في أوروبا استطاع الوصول إلى لندن حيث مكث هناك بالقرب من لينين وعدد آخر من الثوريين الروس البارزين الذين كانوا يعملون لتحرير جريدة الإيسكرا (الشرارة). شاركهم ليون تروتسكي في الكتابة للإيسكرا التي استهدفت بالأساس الوصول للنشطاء في داخل روسيا.

كانت مجموعة تحرير الإيسكرا جزءاً من حزب العمال الاشتراكى الديمقراطى الروسى الذي كان قد تأسس في عام 1898 في اجتماع حضره تسعة نواب فقط. ولكن بحلول عام 1902 كان الحزب ينمو بشكل ثابت سواء من حيث الحجم أو التأثير السياسى بين الجماهير.

لكن الحزب الاشتراكى الديمقراطى قد شهد انشقاقاً في المؤتمر الذي انعقد بعد ذلك بعام واحد فقط. عبَّر الكثيرون من مندوبي المؤتمر عن دهشتهم البالغة عندما انشق الحزب على بعض التفاصيل التنظيمية التي بدت بالنسبة إليهم تافهة في ذلك الوقت. قاد لينين في ذلك الانشقاق شقاً من الحزب (البلاشفة)، بينما اتبع تروتسكي وجهة نظر الشق الآخر (المناشفة).

تمحورت الخلافات التنظيمية داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي حول طبيعة عضوية الحزب، تلك النقطة التي عكست وجهات نظر أكثر اختلافاً فيما يتعلق بطبيعة ودور الحزب نفسه. كان لينين يُصر على ضرورة بناء منظمة ثورية شديدة الانضباط والمركزية من الثوريين. أما تروتسكي فقد رأى أن النموذج الذي يدعو إليه لينين سوف يؤدى إلى ظاهرة “الاستبدالية”، حيث يتم استبدال النشاط الذاتى للطبقة العاملة بالحزب المركزي، والذي يتم استبداله هو الآخر بقيادة الحزب نفسه. وفي المقابل، أيّد تروتسكي نموذج الحزب الجماهيري الواسع على غرار الأحزاب الاشتراكية العريضة في أوروبا الغربية، لاسيما الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني.

كانت وجهة نظر لينين في ذلك الوقت لا تزال قيد التطوير، وفي مراحلها الأولى أيضاً، فلقد تشكلت إثر اضطرار الثوريين للعمل في ظروف سرية تامة وفي إطار غير شرعي لتجنب الهجمات والضربات الأمنية من قبل الشرطة القيصرية. وبشكل عام، بنى لينين وجهة نظره على واقع أن العمال لا يتملكون وعياً موحداً، بل متفاوتاً ومتناقضاً، فبعض العمال لديهم أفكاراً ثورية، وبعضهم لديه أفكارأً رجعية، والكثيرون منهم لديهم خليطاً بين هذا وذاك. لذا فإن على الحزب أن يجمع الثوريين بين عضويته كي يستطيع أن يؤثر في الآخرين.

حظت مجموعة لينين بتأييد أغلب مندوبي المؤتمر، لذا أُطلق عليها البلشفية، وتعني الأغلبية. وبالرغم من أن تروتسكي قد التزم جانب المناشفة (الأقلية) في البداية، إلا أنه قد تركهم بعد عام واحد فقط، وقد أمضى العقد التالى يحاول توحيد كلتا المجموعتين معاً.

توقع الكثيرون أن يتم التوحيد في وقت سريع، إلا أن الانشقاق الرسمى لم يتم حتى عام 1912، بينما كان الطرفان يعملان سوياً دون شقاق في الممارسة العملية حتى ثورة 1917. في عام 1903 بدت كل الاختلافات التي قادت الحزب للانشقاق باهتة وغير ذات أهمية. وفي الحقيقة، اقتضى الأمر سنوات طويلة من الثورة والثورة المضادة والحرب، بين السنوات من 1903 وحتى 1917، كي تتضح تلك الاختلافات بشكل كامل وتبدو متماسكة في عيون الجميع.

طوال تلك السنوات، أصبح تروتسكي خطيباً مبهراً وكاتباً مؤثراً ومفكراً ثورياً هائل النفوذ، لكن في عام 1917 لم يكن لديه تنظيماً ثورياً منغرساً بين صفوف الجماهير ليربط بين كل تلك الإسهامات الهامة وبين استراتيجية أوسع لترشد الثورة إلى الانتصار. التحق تروتسكي بالحزب البلشفي في يوليو 1917، معترفاً بأن عدم انضمامه للبلاشفة في وقت مبكر كان أكبر خطأ ارتكبه في حياته.

4- 1905 وتشكيل أول مجلس عمالي في التاريخ

يظن الكثيرون أن الثورات تندلع بواسطة مجموعات من الثوريين الذين يخططون لكل شيء في الثورة. لكن في الحقيقة، يصنع الناس العاديون هذه الثورات أو التحركات الجماهيرية العملاقة، أحياناً بعد سنوات طويلة من الغضب والمعاناة.

في روسيا، وبحلول يناير 1905، كان الغضب الشعبى قد تصاعد بشكل غير مسبوق ضد القيصر والنتائج الكارثية للحرب ضد اليابان. بدأت الشرارة بمظاهر قادها الأب جابون (الراهب والعميل للأمن في نفس الوقت) لمطالبة القيصر ببعض الإصلاحات، فيما كان رد فعل القيصر هو أن أمر جنوده بإطلاق النار على المتظاهرين، لتُعرف تلك المذبحة بإسم “يوم الأحد الدامي”.

دشنت المذبحة عاماً كاملاً من النضالات الجماهيرية في روسيا؛ فخلال الشهرين التاليين اجتاحت الإضرابات كافة ربوع روسيا ليشارك فيها أكثر من مليون عامل في حوالى 120 بلدة. كان عدد العمال المضربين خلال شهرى يناير وفبراير 1905 يفوق إجمالي عددهم خلال العشر السنوات السابقة. وعلاوة على ذلك، أثارت إضرابات العمال في 1905 حركة واسعة للفلاحين في الريف، بالإضافة إلى تمردات واسعة في صفوف الجيش والبحرية، والتي كان من أبرزها: تمرد الجنود على متن البارجة “بوتميكين”.

وفي بداية أكتوبر، تحول إضراب لعمال السكك الحديدية إلى إضراب عام على امتداد الإمبراطورية الروسية. وعندما وصلت أنباء الإضراب إلى تروتسكي، هرع إلى روسيا في 14 أكتوبر، أي بعد يوم واحد من تشكيل أول مجلس عمالي في تاريخ روسيا – سوفييت بطرسبورج لمندوبي العمال.

كان السوفييت يمثل شكلاً تنظيمياً ديمقراطياً من نوع جديد يبنيه العمال بأنفسهم، حيث كان العمال ينتخبون ممثليهم الذين يتناقشون ويتباحثون ويصوتون على كافة القرارات اليومية. كانت الحاجة إلى تنظيم الإضراب العام هي ما دفعت العمال لإنشاء السوفييت، والذي كان يضم 562 مندوباً من 147 مصنعاً في مدينة سان بطرسبورج. وتطورت مهام السوفييت سريعاً من التنسيق بين المواقع العمالية في إضراباتها، إلى تنظيم عملية توزيع الطعام لسكان المدينة واتخاذ القرارات الخاصة بتسليح العمال في مواجهة اعتداءات قوات الأمن والمرتزقة.

لقد وحَّد السوفييت المطالب الاقتصادية والسياسية للجماهير بشكل مبهر في شعارات بسيطة. وكما كتب تروتسكي: “منذ أن أطلقت الحرب صرختها، صار شعار 8 ساعات وبندقية يسكن قلوب كل عمال بطرسبورج”. ولقد نجح سوفييت بطرسبورج بالفعل في أن يضرب بجذوره في كل روسيا متحدياً بذلك سلطة الدولة القيصرية، فيما أطلق عليه تروتسكي “جنين الحكومة العمالية”. وفي خلال ثلاثة أشهر فقط، أنشأ العمال ما بين 40 إلى 50 سوفييت عبر روسيا، إلا أن أياً منهم لم يصل إلى قوة سوفييت بطرسبورج.

كانت الثورة الروسية في 1905 هي الأولى التي تضمنت كل تلك الإضرابات الجماهيرية، والأولى التي تشهد بناء المجالس العمالية. وفي كافة الثورات الجماهيرية اللاحقة، كان العمال ينظمون أنفسهم في أشكال مشابهة، حيث يؤسسون تنظيماتهم الديمقراطية والتي من خلالها يستطيعون تنظيم صفوفهم وإدارة النقاشات فيما بينهم حول ما يمكن فعله. في روسيا كانت تلك المجالس تُدعى “سوفيتات”، وفي الثورة الإيرانية 78- 1979 كانت تُدعى “مجالس شورى”، وفي شيلي 72- 1973 كانت تُدعى “الكوردونات”.

أدرك تروتسكي، أكثر من جميع الثوريين في عصره، الأهمية الاستثنائية للسوفيتات، وقد انخرط بكل حماسة في أنشطتها. وفي المقابل، كان الكثيرون من البلاشفة ينظرون في البداية بكثير من الشك والريبة لتلك التنظيمات العمالية الوليدة.

وفي عُمر لا يتجاوز 26 عاماً، أصبح ذلك الشاب المندرج من أصول يهودية في بلد تنتشر به معاداة السامية – تروتسكي – رئيساً منتخباً لسوفييت بطرسبورج ومتحدثاً رسمياً له ومحرراً للنشرات التي يصدرها. استمر السوفييت فقط لمدة 50 يوماً، وخلال تلك الفترة كان تروتسكي أحياناً ما يدعو العمال للتقدم، وفي أحيان أخرى كان يدعو العمال للتراجع التكتيكي، لكنه كان يحذر على الدوام من الانخداع في الوعود الزائفة للقيصر. قام تروتسكي بتسويد الكثير من بيانات السوفييت بما فيها نداءات العمال للفلاحين من أجل النضال ضد القيصر، كما شارك تروتسكي بكل دأب في تسليح العمال من أجل التصدي لمجازر القيصر بحقهم.

كتب تروتسكي لاحقاً ليصف إحساسه الشخصى خلال تلك الأحداث الثورية قائلاً: “تبدو الثورة كالفوضى المجنونة فقط لأولئك الذين تزيحهم الثورة وتطيح بهم، لكن بالنسبة لنا فالأمر مختلف بالكلية، فلقد كنا في القلب من الأحداث التي نطمح إليها بالرغم من أنها الأحداث الأكثر عصفاً”.

لقد صقل الانخراط في عمل السوفييت قدرة وثقة ليون تروتسكي لتحوله من شاب متمرد يافع إلى قائد ومفكر ثوري. في النهاية، انهزمت الثورة في ديسمبر 1905 وألقي بتروتسكي في السجن. استطاعت الإمبراطورية القيصرية أن تصلب عودها مجدداً في ذلك الوقت، لكن روسيا لم تعد كما كانت في الماضي، حيث أدرك العمال قوتهم الحقيقية وتعلموا كيف ينظمون صفوفهم بطرق جديدة.. لقد تركت الطبقة العاملة الروسية بصمتها المميزة على التاريخ.

5- الثورة الدائمة

طوَّر ليون تروتسكي، من خلال الخبرة الهائلة لثورة 1905، نظريته الشهيرة والمعروفة بـ “الثورة الدائمة”، تلك النظرية التي تعد واحدة من أهم إسهامات تروتسكي في النظرية الماركسية الثورية، والتي لا غنى عنها في الإجابة على التساؤلات الخاصة بالثورة والتحرر في بلدان العالم المتأخر.

فتحت ثورة 1905 الباب أمام عدد هائل من السجالات بين الاشتراكيين في روسيا وعبر الحركة الثورية في العالم كله. وحتى قبل اندلاع تلك الثورة، كان الثوريون يتسائلون: أين يمكن أن تندلع الثورة؟ فيما لم يتوقع أحد أن تبدأ من روسيا؛ فلقد كانت روسيا شديدة التأخر اقتصادياً وسياسياً، مقارنةً بدول أوروبا، وكانت تقبع تحت السيطرة الأتوقراطية للقيصر بينما كان الفلاحون يشكلون أغلبية السكان فيها.

وبشكل عام، كان الاشتراكيون في العالم كله يتفقون على أن روسيا سوف تتَّبع خطوات أوروبا، حيث أنها ستشهد، أولاً قبل أى شيء، ثورة برجوازية – على غرار الثورة الفرنسية 1789 – لبناء قوى المجتمع الرأسمالي، كشرط موضوعي مسبق على الثورة الاشتراكية.

وبدون أي استثناء، كان جميع الماركسيين الروس يرون أن الثورة القادمة ستنحصر مهمتها في إزاحة الأوتوقراطية القيصرية وتمهيد الطريق للتطور الرأسمالي، وهكذا كان النقاش يدور حول تلك القوى التي من المفترض أن تقود مثل هذه الثورة.

جادل المناشفة بأنه من الضروري بناء تحالف بين العمال والليبراليين الذين يمثلون الطبقة الرأسمالية سياسياً. أما لينين والبلاشفة، فقد رفضوا الطرح المنشفي، مشيرين إلى الجبن السياسي الذي يتميز به الليبراليون في الصراع مع القيصرية. وفي المقابل جادلوا – أي البلاشفة – حول ضرورة إقامة ذلك التحالف ليس بين العمال والليبرالية، بل بين العمال والفلاحين لقيادة الثورة.

اتخذ تروتسكي، مستنداً إلى خبرة ثورة 1905، موقفاً مختلفاً عن كلٍ من الطرفين، فقد جادل بأن الثورة في روسيا يمكنها أن تصبح ثورة اشتراكية تحت قيادة الطبقة العاملة. لقد أشار ماركس في أكثر من مرة خلال موجة الثورات عبر أوروبا 1848، إلى أن الطبقة الرأسمالية قد كفت منذ زمن أن تكون طبقة ثورية. وقد بنى تروتسكي وجهة نظره باتساق تام مع خبرة ماركس واستنتاجاته، وهكذا جادل بأن الطبقة الثورية الوحيدة التي يمكنها قيادة الثورة بحسم في روسيا هي الطبقة العاملة.

لقد كان تروتسكي متفقاً بشكل كامل مع وجهة نظر لينين للرأسماليين الروس الذين، بالرغم من مطالبتهم المحدودة بالإصلاحات، إلا أن خوفهم من النضالات العمالية كان أكبر كثيراً من كراهيتهم للقيصر كما أثبتت ثورة 1905. وبناءاً على ذلك، كان تروتسكي ينتقد بشدة الفكرة القائلة بأن على ثورة روسيا أن تحذو حذو أوروبا، أي أن تقوم بإنجاز الإصلاحات السياسية بشكل كامل في إطار الدولة الرأسمالية.

انطلق تروتسكي من تحليل تطور الرأسمالية في روسيا ضمن السياق العالمي؛ فلم تتطور الرأسمالية في روسيا بنفس الطريقة التي تطورت بها في فرنسا أو بريطانيا – من المنغلقات الحرفية إلى الورش إلى المصانع العملاقة. بل أن روسيا، في سياق التنافس الاقتصادي والعسكري مع دول أوروبا المتقدمة، قد قفزت لتمتلك بعض من أهم الصناعات المتقدمة في العالم، حتى بالرغم من التأخر الاقتصادي العام الذي عانت منه.

أطلق تروتسكي على ذلك النمط من التطور إسم “التطور المركب واللا متكافئ“، فهو تطور مركب لوجود وامتزاج أكثر من مرحلة للتطور الاجتماعي في نفس الحقبة، وهو أيضاً لا متكافئ نظراً لأن المناطق المختلفة تتطور نحو الرأسمالية بمعدلات مختلفة ومتفاوتة. يمكننا ملاحظة هذا النمط من التطور في الكثير من البلدان المتأخرة اقتصادياً اليوم؛ فهناك على سبيل المثال الملايين من الفلاحين الذين يستخدمون أدوات شديدة التأخر في حرث الأرض جنباً إلى جنب مع تطور غير مسبوق في التكنولوجيا، وهناك من يعيشون في أحياء عشوائية أو مساكن من الصفيح جنباً إلى جنب مع المصانع الضخمة والمتطورة.

رأى تروتسكي أنه على الرغم من أن الكثير من الفلاحين سيؤيدون ويدعمون النضال من أجل التغيير (ناضل تروتسكي بكل دأب خلال ثورة 1905 للوصول إلى الفلاحين ودفعهم إلى الموجة الثورية)، إلا أن بعثرتهم في الريف وطبيعة إنتاجهم الفردي المنعزل سيقفان عقبة أمام انخراطهم في القلب من النضال من أجل الثورة الاشتراكية.

إن النمط الذي تطورت به الرأسمالية في روسيا ساهم في تمركز كتل هائلة من العمال في مراكز صناعية عملاقة في المدن، وأولئك العمال هم من شكلوا رأس الحربة الجماهيرية في ثورة 1905.

كان العمال هم الوحيدون القادرون على قيادة النضال ضد القيصر من أجل الحرية السياسية، لكن كان عليهم أيضاً النضال ضد الرأسماليين من أجل القضاء على الاستغلال الواقع عليهم. وهذا يعني أن النضال العمالى لم يكن فقط من أجل انتزاع بعض بعض الإصلاحات الديمقراطية ضمن الحدود الضيقة للرأسمالية، بل نضالاً من أجل السلطة العمالية.

كان تروتسكي على إدراك تام، بأن العمال يمثلون أقلية من السكان في روسيا، ولذا فقد تمسك تروتسكي بأن انتصار الثورة وبناء المجتمع الاشتراكي في روسيا سيتوقف بالتأكيد على الظرف العالمي وانتشار الثورة لبلدان رأسمالية أكثر تقدماً. وكما سنرى في الفصول القادمة، فقد استند تروتسكي طوال حياته إلى مبدأ “الأممية“، والأممية ذاتها هي انعكاس نظري وسياسي لتطور الرأسمالية إلى مرحلة الإمبريالية وكذلك الاعتماد الاقتصادى لمناطق مختلفة من العالم على بعضها البعض – فيما نطلق عليه اليوم “العولمة الرأسمالية”.

أما اليوم، فالرأسمالية تسيطر بالفعل على كل بلدان العالم، إلا أن العمال لا يزالون يمثلون أقلية من السكان في بعض البلدان المتأخرة. وهنا تشير نظرية الثورة الدائمة إلى أن العمال، حتى برغم قلة عددهم في تلك البلدان، يظلون هم القوة الأساسية للتغيير الاجتماعي والسياسي؛ فالعمال لديهم القوة الجماعية لإنزال الهزائم بالرأسمالية، كما أن نضالهم بإمكانه أن يمنح ثقلاً سياسياً وتنظيمياً هائلاً لكفاح الأقليات المضطهدة والعمال الزراعيين والمهمشين، إلخ. أوضح تروتسكي أيضاً من خلال نظرية “الثورة الدائمة” كيف يمكن أن ينضج نضال العمال من أجل الإصلاحات الديمقراطية إلى نضالاً مباشراً من أجل الاشتراكية.

لم يدعِ تروتسكي على الإطلاق أن ذلك سوف يحدث بشكل حتمي. ولكنه أوضح، كما أشار المناضل الاشتراكي الثوري تونى كليف، أن الإمكانية مطروحة لدمج النضال من أجل الديمقراطية بالنضال من أجل الاشتراكية، لكن هذه السيرورة يمكن إيقافها بواسطة أولئك الذين يدعمون الدولة البرجوازية وأجهزتها.

عرفت روسيا الديمقراطية لأول مرة في تاريخها في المجالس العمالية (السوفيتات)، وذلك دون أن تمر عبر الديمقراطية البرلمانية للرأسمالية. وهكذا كانت فكرة تروتسكي هي أن الثورة الاشتراكية في روسيا ممكنة حتى من دون العبور من خلال المراحل التي مرت بها الرأسمالية في البلدان الغربية المتقدمة. ولكن هذه هي الخطوة الأولى فقط، فالمجتمع الاشتراكى لا يمكن أن يستمر في وضع مستقر إلا مع انتشار الثورة في أرجاء أخرى من العالم، لاسيما البلدان المتقدمة. أما الثورة الروسية في 1917، فقد كانت بمثابة المسرح العملي لاختبار نظرية تروتسكي حيث أثبتت صحتها على الجانبين: الإيجابي والسلبي.

6- اختبار الحرب

في يوليو 1914، انطلقت الأبواق لتعلن بداية الحرب العالمية الأولى، ظاهرياً بسبب اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانز فيرديناند، ولكن كان السبب الحقيقيى وراء تلك الحرب، والتي هي واحدة من أكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية، هو التنافس الهمجي للصوص الرأسماليين وحاجتهم الدائمة للتوسع. راح ضحية تلك الحرب حوالى 10 ملايين إنسان، منهم 1,7 مليون روسى و1,8 مليون ألماني. كانت تلك الحرب هي الأولى التي أعادت تشكيل اقتصاديات ومجتمعات كاملة عبر العالم.

دشن حكام الدول المتحاربة، من أجل تدعيم أوضاعهم في الحرب، موجة من القومية المتعصبة، وهكذا انحدرت أوروبا إلى حمامات دم بشعة، فيما وصفه تروتسكي بـ “العواء الوطني للذئاب الرأسماليين”.

قبل بدء الحرب، تجمعت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية فيما عُرف بالأممية الثانية (كانت الأممية الأولى في عهد ماركس)، لتعلن عن معارضتها الجماعية لهذه الحرب الإمبريالية. لكن عندما شُنت الحرب، انساقت نفس تلك الأحزاب وراء حكوماتها وأيّدت إعلان الحرب، أما الاستثناء الوحيد فقد كان الاشتراكيين الروس، وبالأخص الحزب البلشفي، وعدد ضئيل آخر من المناضلين الاشتراكيين في أوروبا والذين خاضوا حملة شعواء لمناهضة الحرب.

ومع بداية الحرب، كان تروتسكي يعيش في فيينا بعد نجاحه في الهرب للمرة الثانية من منفاه في سيبيريا. وبعدما هددته الحكومة النمساوية بالاعتقال، اضطر للانتقال إلى سويسرا التي اتخذت موقفاً محايداً من الحرب آنذاك. حينها كتب تروتسكي كراسه الشهير “الحرب والأممية” والذي يُعتبر أول ما كتبه ثوري روسي لمناهضة الحرب. تضمن الكراس هجمة شرسة على خيانة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني – أكبر أحزاب الأممية الثانية – لتأييده للحرب، ذلك الموقف الذي نزل كالصاعقة على لينين وتروتسكي.

كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني بمثابة ماكينة ضخمة في العمل أثناء فترات الانتخابات البرلمانية، وساعده في ذلك الأعداد الهائلة التي ضمها في عضويته، وبتأييده للحرب كان الحزب يستكمل مسيرته في العمل ضمن إطار الرأسمالية نفسها.

أخذ الكثيرون من أعضاء ذلك الحزب في الدفاع عن موقفه المخزي من الحرب بدعوى أن ألمانيا أكثر تقدماً من روسيا القيصرية بمراحل عديدة. لكن ذلك استثار تروتسكي الذي أشار بوضوح إلى أن تدخل قوى إمبريالية في روسيا لن يؤدى سوى إلى عرقلة نضال الجماهير الروسية ضد سلطة القيصر.

لم يكتف تروتسكي فقط بمناهضة الحرب، بل عمد إلى دراسة طبيعة القوى التي قادت لاندلاع الحرب. رأى تروتسكي أن القوى الاقتصادية للرأسمالية قد نمت بشكل يتجاوز حدود الدولة القومية، وهكذا صارت الحرب أحد السمات الرئيسية للرأسمالية حيث تتدافع الدول المسلحة من أجل مزيد من السلطة والنفوذ في سوق عالمي متكامل. فيما دعا تروتسكي بكل حزم إلى السلام على أساس الثورة الجماهيرية وحق الأمم في تقرير مصيرها.

قطع تروتسكي صلته بالحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، والذي كان الحزب الأهم في الأممية الثانية حتى ذلك الحين، كما قطع صلته بالكثير من الأصدقاء والرفاق القدامى الذين أيدوا حكوماتهم في الحرب، وقد كان الأمر يبدو، كما كتب تروتسكي، كـ “عزاء لأصدقاء أحياء”. وفي المقابل نسج تروتسكي صداقات وعلاقات سياسية استمرت طويلاً مع بعض الرفاق الذين عارضوا الحرب بلا هوادة في أوروبا.

خلال الحرب، اتسعت الفجوة بين البلاشفة الذين اتخذوا موقفاً صارماً في مناهضة الحرب من جانب، وبين المناشفة الذين ارتموا في أحضان الإصلاحية من الجانب الأخر. وعلى الرغم من أن تروتسكي قد انتقد المناشفة بكل حدة على خلفية موقفهم تجاه الحرب، إلا أنه لم يكن مستعداً بعد للانضمام للبلاشفة.

ساهم تروتسكي بشكل كبير في المحاولات الأولى لتجميع الثوريين المناهضين للحرب عبر العالم في مؤتمر انعقد في سبتمبر 1915 في زيمرفالد بسويسرا. وعلى الرغم من قلة عدد مندوبي المؤتمر (فقط 38 مندوباً)، إلا أن الأمر كان ذا أهمية فائقة لتجميع المناضلين الاشتراكيين المناهضين للحرب بالأخص من الدول المتحاربة وبعض الدول المحايدة.

كان كل من لينين وتروتسكي على قناعة تامة بأن موقف الأممية الثانية من الحرب، وعلى رأسها الحزب الاشتراكي الألماني، قد جعل محاولة إصلاح تلك الأممية وهماً. إلا أن مؤتمر زيمرفالد قد شكّل نقطة بداية لتجمع أممي جديد مبني على رفض الحرب، وعلى الثورة الجماهيرية والانحياز للطبقات العاملة باختلاف قومياتها.

كان تروتسكي يعيش في ذلك الحين في باريس حيث كان عمل صحفياً في تغطية الحرب، بجانب نشاطه في تحرير إحدى الصحف الاشتراكية. وفي أكتوبر 1916 تم ترحيله إلى إسبانيا، ثم إلى نيويورك، وحينها كتب: “لقد تركت أوروبا غارقةً في الدماء.. لكنني تركتها بأمل واثق في ثورة قادمة”.

7- الثورة الروسية 1917

في فبراير 1917، كانت مظاهرة النساء المضربات عن العمل في سان بطرسبورج – والتي سُميت ببتروجراد أثناء فترة الحرب – قد أشعلت الثورة التي أطاحت بالقيصر ودفعت بحكومة مؤقتة، سيطر عليها الليبراليون الرأسماليون، لتولي السلطة. أما لينين، والذي قد عاد إلى روسيا من منفاه في أبريل من نفس العام، فقد وصف روسيا في ذلك الوقت بالمجتمع “الأكثر حرية”، حيث يتناقش العمال والجنود العاديون في كل شيء ويتباحثون فيما يمكن فعله وينظمون صفوفهم بدقة، إلخ.

إلا أن الحكومة المؤقتة لم تكن مستقرة على الإطلاق، فصحيح أن الثورة قد نجحت في التخلص من القيصر، لكنها لم تكن قد حلت بعد المشاكل العويصة التي عانت منها الجماهير الروسية، حيث انتشار الفقر، وسيطرة كبار الملاك الإقطاعيين على الأراضي، والحرب التي عزمت الحكومة المؤقتة على الاستمرار فيها، والاضطهاد الواقع على الأقليات القومية، فضلاً عن استغلال الرأسماليين لجماهير العاملين والمنتجين.

واستناداً إلى خبرة 1905، أعاد العمال بناء السوفيتات كمراكز حيوية لتنظيم أنفسهم ولإدارة النقاشات الديمقراطية فيما بينهم ولاتخاذ القرارات. وهكذا تولدت في روسيا حالة من “السلطة المزدوجة”، حيث التوازي بين مركزين مختلفين للسلطة: الحكومة المؤقتة من جانب، والسوفيتات العمالية من جانب آخر. والصدفة الطريفة هنا أن كلاً منهما كان يتواجد في نفس المبنى.

وحينما عاد تروتسكي من منفاه إلى روسيا في مايو 1917، أدرك أن كافة الخلافات السياسية بينه وبين لينين قد اختفت تماماً، بحيث أصبحا على اتفاق كامل فيما يتعلق بكافة القضايا الأساسية التي تواجه الثورة. أما لينين الذي عاد في أبريل، فقد صعق الجميع باقتناعه بفكرة تروتسكي حول حاجة الثورة للاندفاع إلى الأمام مباشرةً باتجاه الاشتراكية. لقد أدرك تروتسكي أهمية دور الحزب الثوري، والذي كان الحزب البلشفي هو التجسيد الأمثل له في الثورة، تلك النظرية التي طالما جادل بها لينين وطورها. وسرعان ما انضم تروتسكي ومؤيدوه رسمياً للحزب البلشفي في يوليو 1917 بعد فترة من العمل اللصيق مع لينين والبلاشفة، كما تم انتخاب تروتسكي فور انضمامه للبلاشفة إلى اللجنة المركزية بالحزب.

ضمت السوفيتات، تماماً كما في العام 1905، عدداً من الأحزاب السياسية، وعندما عاد تروتسكي إلى روسيا كان المناشفة والاشتراكيون الوسطيون يحوذون تأييد أغلبية مندوبي السوفيتات، كما وافقوا على الانضمام للحكومة المؤقتة التي سيطر عليها الرأسماليون الليبراليون. رأت الحكومة في ذلك خطوة جيدة من أجل زيادة مصداقيتها أمام الجماهير وأيضاً من أجل احتواء مطالب الجماهير واستيعاب غضبهم. وفي اليوم التالي لعودته من المنفى، توجه تروتسكي للسوفييت وأخذ ينتقد الحكومة المؤقتة بشدة، مشيراً إلى أن انضمام المناشفة والاشتراكيين الوسطيين للحكومة لن يحل المشاكل الأساسية التي تواجه الثورة.

أما لينين، فقد جادل بأن على الثوريين البلاشفة أن “يشرحوا بصبر ودأب” للعمال ضرورة دفع الثورة إلى مراحل أكثر تقدماً. أما العمال والجنود، بالأخص في بتروجراد، فقد كانوا – تحت ضغوط الحرب المستمرة والاستغلال والفقر – على وعي تام بأن الثورة في حاجة إلى استكمالها بثورة اشتراكية. لكن في نفس الوقت، علقت الأغلبية من سكان روسيا كل آمالها وطموحاتها في الثورة على جهود الحكومة المؤقتة. ولعل ما حدث في يوليو 1917 كان مثالاً واضحاً على ذلك، حيث عمل لينين وتروتسكي على إيقاف محاولة غير ناضجة للاستيلاء على السلطة في بتروجراد، مشيرين إلى أنه يمكن للعمال والجنود الاستيلاء على السلطة بالفعل في العاصمة، لكن باقي سكان روسيا لن يكونوا على استعداد لذلك حيث أنهم لم يدركوا بعد ضرورة هذه الخطوة.

تلك الأيام العصيبة من يوليو 1917، تلتها حملة أمنية واسعة لملاحقة واعتقال البلاشفة، والكثيرون منهم تم الزج بهم في السجون، كما صدر بالفعل أمراً باعتقال لينين واثنين آخرين من القادة البلاشفة. أما تروتسكي فقد حرر خطاباً للحكومة يتساءل فيه لماذا لم يصدر أمراً باعتقاله بينما يتفق هو بشكل كامل مع لينين في الدعوة لاستيلاء السوفيتات على السلطة السياسية. بعد ذلك بأسبوعين فقط، قامت الحكومة المؤقتة – التي من المفترض أنها حكومة الثورة – باعتقال تروتسكي في نفس السجن الذي اعتقله في القيصر بعد هزيمة ثورة 1905.

استمرت الحكومة أيضاً في وضعها غير المستقر. وبينما لم يرض الكثيرون من العمال والفلاحين والجنود عن أدائها، لم تكن قوى اليمين أيضاً راضية. هكذا نظم الجنرال القيصرى كورنيلوف انقلاباً عسكرياً في أغسطس 1917، وفي مواجهة الانقلاب قاتل البلاشفة للدفاع عن الثورة حتى في الوقت الذي كانت الحكومة تلاحقهم وتزج بهم في في السجون.

أُجبرت الحكومة على إطلاق سراح البلاشفة من السجون لتلقى مساندتهم في التصدي لكورنيلوف. ومن خلال الدور الجبار الذي اضطلع به البلاشفة في هزيمة كورنيلوف، فقد أثبتوا للجماهير أنهم الفصيل الأكثر نضالية في الثورة وأنهم الأقدر على الدفاع عن مكاسب الثورة بل واستكمالها أيضاً، وبالفعل انهزم كورنيلوف حتى بدون إطلاق نار. وفور إطلاق سراحه، ذهب تروتسكي للسوفييت ودعا لسحب الثقة من القيادة المنشفية للسوفييت. كانت استجابة مندوبي السوفييت واسعة، وصوتت الأغلبية لصالح دعوة تروتسكي، كما أصبح البلاشفة منذ ذلك الحين حزب الأغلبية في السوفيتات وانتُخب تروتسكي رئيساً لسوفيت بتروجراد.

أثبت انقلاب كورنيلوف أنه لا خيار بين الدفع في طريق الثورة الاشتراكية أو بين دعم الحكومة الانتقالية، فلقد كان الضعف البالغ الذي بدا على الحكومة يعنى أنه إذا لم تتقدم الثورة وتستكمل أهدافها سريعاً فسوف تواجه الثورة المضادة بكل شراسة.

في تلك الفترة، انتعشت سلطة السوفيتات بشكل كبير بين صفوف الجماهير، وكان عمال المصانع والوحدات المسلحة بالجيش دائماً ما تسأل السوفيتات عما يمكن فعله. لقد أصبحت السوفيتات شيئاً فشيئاً هي الجهاز الأساسي لاتخاذ القرار في روسيا.

في أكتوبر 1917، كان تروتسكي بمثابة المنظم الرئيسي للانتفاضة المسلحة التي قاد فيها البلاشفة السوفيتات للاستيلاء على السلطة السياسية. لم تشهد الانتفاضة أية إراقة للدماء في العاصمة بتروجراد التي حاذ فيها البلاشفة تأييد وثقة الجماهير. وفي حين أراد لينين أن يطلق الحزب البلشفي، الذي يمثل الأغلبية في السوفيتات، الدعوة للانتفاضة المسلحة بنفسه، نجح تروتسكي في إقناعه بضرورة إطلاق الدعوة وتنظيم الانتفاضة من قِبل السوفيتات وليس الحزب.

وبينما تشكلت في بتروجراد “اللجنة العسكرية الثورية” التابعة للسوفييت والتي ترأسها تروتسكي وضمت الكثير من البلاشفة بالإضافة إلى بعض الاشتراكيين اليساريين والفوضيين، كان ليون تروتسكي مسئولاً عن توقيت الانتفاضة المسلحة والتحديد التفصيلى للاستيلاء على مواضع سلطة الدولة.

كان كارل ماركس يصف الانتفاضة بأنها “فن”، فهي تحتاج للكثير من الإبداع والمرونة لكن أيضاً الانضباط والتنظيم المُحكم. كان تروتسكي هو التجسيد العملي لهذا “الفن” من خلال الدور الذي اضطلع به في أكتوبر 1917.

لكن الثورة ذاتها لم تكن ممكنة لولا الآلاف من العمال والجنود، ولولا أعضاء الحزب البلشفي المنغرسين في مواقع العمل والأحياء والجيش أيضاً، والذين كانوا ثابتين على خطهم السياسي ومنضبطين داخل حزبهم الثوري للنضال من أجل الثورة لسنوات عدة، في فترات الصعود وحتى في فترات الهبوط والهزائم.

8- بشائر المجتمع الجديد

من رحم ثورة أكتوبر، وُلِدَت دولة جديدة مبنية بالأساس على التنظيمات الجماهيرية الأكثر ديمقراطية في روسيا – السوفيتات – وبعدما رفض تروتسكي تولي منصب رئاسة الدولة، أصبح القائد الثوري فلاديمير لينين قائداً للدولة، ذلك المنصب الذي أُطلق عليه حينها “رئيس مجلس مفوضى الشعب”.

وبالرغم من الانتشار الرهيب للفقر في كل روسيا، وكل التهديدات التي وقعت تحت ضغطهما الدولة العمالية الجديدة، إلا أن الثورة الروسية قد كشفت النقاب عن النموذج الأكثر تحرراً وديمقراطية في العالم.

تمكن العمال من السيطرة على المصانع ومواقع الإنتاج، بينما صودرت أراضي الإقطاعيين وكبار الملاك وتم توزيعها على من يفلحها. في ذلك الوقت تولى تروتسكي مهمة التفاوض من أجل التوصل لمعاهدة السلام مع ألمانيا لإنهاء الحرب، وبعد جولات من التفاوض والضغط انتهت الحرب العالمية الأولى.

كان تروتسكي يجادل دائماً بأن “الطريقة المثلى لتقييم أي مجتمع هي طريقة تعامل هذا المجتمع مع المرأة”. ولقد عانت المرأة في روسيا القيصرية الكثير من أشكال الاضطهاد، والكثيرون كانوا ينظرون للمرأة باعتبارها ملكية خاصة للرجل. أما في ظل الحكم الثوري للسوفيتات فقد تحول الموقف بشكل كامل ليصبح لدى المرأة كامل حقوق المواطنة وحق التصويت، كما أن روسيا الثورية كانت البلد الأول في العالم الذي يعترف بحق المرأة في الإجهاض، والذي تشغل فيه المرأة منصب الوزيرة والسفيرة.

لقد كانت للثورة بصمتها المميزة في كل نواحي الحياة في روسيا، ففي مجال التعليم على سبيل المثال، تضاعفت أعداد المدارس، كما أطلقت الدولة السوفيتية الكثير من الحملات للقضاء على النسبة الكبيرة للأمية. تم إلغاء رسوم الدراسة في الجامعات، كما اعتنى لينين وتروتسكي بشكل خاص بإنشاء المكتبات العامة.

ظل تروتسكي طوال حياته مهتماً بكل ما يخص الأدب والفن والثقافة، وكما نجحت الثورة في إحداث تغيير جذري في العلاقات الاقتصادية، فقد دشنت أيضاً نهضة هائلة في الفن والأدب والسينما، إلخ.

كان فيكتور سيرج، الفوضوي الذي انضم إلى البلاشفة أثناء الحرب الأهلية، قد عبّر عن انتعاش الفنون بعد انتصار ثورة أكتوبر، وحتى خلال الحرب الأهلية: “ولقد كان ذلك بسبب أن المدينة الحمراء تعاني وتقاتل للدفاع عن نفسها، لذا فإن هناك ثمة يوماً للراحة والفن، فيصبح هذا اليوم ملكاً للجميع”.

وبالرغم من خراب الاقتصاد الروسي بسبب الغزو والحرب الأهلية، الأمر الذي وضع العراقيل أمام إنجازات الثورة، إلا أن روسيا السوفيتية قد ظلت المجتمع الأكثر عدلاً وديمقراطية الذي شهده العالم في ذلك الوقت.

9- تسليح الثورة

عقب انتصار ثورة أكتوبر، بدأت العديد من القوى في الهجوم ضد النظام البلشفي الجديد. فبعد شهر واحد من الانتفاضة المسلحة بدأ أنصار النظام القيصري في التحرك، وفي نفس الوقت بدأ القوزاق (أغنياء الفلاحين) في حشد قواهم لمجابهة البلاشفة.

ولم تواجه الدولة العمالية الوليدة الهجوم الداخلي فحسب، بل واجهت أيضاً غزواً خارجياً من معظم القوى الإمبريالية في العالم. ففي النصف الأول من العام 1918، توجهت جيوش أكثر من 12 دولة رأسمالية، بما فيها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة واليابان، بقصد سحق السلطة السوفيتية في روسيا.

في يناير 1918، أعلن القائد الثوري فلاديمير لينين، رسمياً عن تأسيس جيش العمال والفلاحين – الجيش اللأحمر – وبعد شهرين تم تعيين ليون تروتسكي قائداً له بجانب منصبه كرئيس لمجلس الحرب. لم يكن لدى تروتسكي وقتها أي خبرة عملية بالعسكرية، حتى بالرغم من قراءته الكثيفة للكتابات العسكرية واشتغاله بالصحافة في تغطية أحداث الحرب العالمية الأولى في منطقة البلقان.

كانت مهمة تروتسكي شاقة ومهولة، فقد كان عليه أن يحمى حدوداً بطول خمسة آلاف ميل بقيادة جيشاً هزيلاً وكأنما يبنيه من الصفر. وحتى إذا أراد تروتسكي أن يستخدم الجيش القيصرى القديم لما كان استطاع أن يفعل، فلقد انهار الجيش القيصري بالكامل تقريباً. فمن إجمالي 9 مليون جندي، تبقى 40 أو 50 ألفاً فقط للدفاع عن الثورة في 1917، فلم يعد الجنود يحتملون القتال بعد ثلاث سنوات من الحرب العالمية. لكن في نفس الوقت كان بعض جنرالات القيصر يعدون العدة للهجوم على الثورة، بينما كانت الفوضى مستشرية في هيكل الجيش.

كانت الجماهير قد سأمت من الحرب، وكان من أهم أسباب نجاح البلاشفة ونمو شعبيتهم هو معارضتهم على طول الخط للحرب الإمبريالية التي يخوضها القيصر، وقد عبّروا في ذلك عن آمال الملايين من العمال والفلاحين الروس. كان على تروتسكي أن يعيد تنظيم الجيش، ولم يكن ليقدر على ذلك إلا إذا وضع أولئك المؤمنين بالثورة في القلب من هذا الجيش، أولئك الذين يقاتلون للدفاع عن شيء لديهم يقين قاطع به.

وفي أولى خطوات تأسيس الجيش الأحمر، بدأ تروتسكي بدعوة المتطوعين للانضمام، ولقد تشكل القلب الصلب للجيش من العمال المؤمنين بضرورة الدفاع عن الثورة. وبحلول أبريل 1918، كان هناك حوالى 200 ألف متطوعاً قادراً على القتال ومؤمناً به.

لكن أعداد المتطوعين كانت لاتزال أقل بكثير مما يلزم لصد كل تلك القوى الإمبريالية هائلة التسليح التي كانت تزحف بأقصى سرعة لسحق سلطة السوفيتات، لذا كان على تروتسكي تجنيد المزيد لبناء الجيش، وقد جلب ذلك أعداداً كبيرة من الفلاحين الذين أربكوا الجيش سياسياً وتنظيمياً أيضاً. فقد كان الكثير من الفلاحين الذين يتبنون موقفاً متناقضاً من البلاشفة، صحيح أنهم كانوا فرحين بمصادرة أراضي كبار الملاك والإقطاعيين وتوزيعها عليهم، إلا أنهم كانوا يعارضون طلب الحكومة السوفيتية لمحاصيل الحبوب من أجل سد عجز الغذاء في المدن.

وفي ظل تلك الظروف الصعبة التي أحاطت بتأسيس الجيش الأحمر، كان على تروتسكي أن يصر على ضرورة الالتزام الصارم داخل هذا الجيش. لكن مع تأسيس الجيش الأحمر، وعلى النقيض التام من الهيكل والطابع الاستبدادي للجيش القيصرى، كان من حق الجنود أن يقوموا بانتخاب ضباطهم. تم ذلك فقط لمرة واحدة، وفيما بعد كانت هناك ضرورة أكيدة لمركزة عمل الجيش على أكثر من جبهة للقتال. إلا أن تروتسكي كان حازماً تمام الحزم في احترام الجنود، وواجه أي إساءة من أي ضابط لأي من الجنود، حتى إن كانت إساءة شفهية، بكل حسم وصرامة.

ونظراً لافتقاد الجيش الأحمر لأي فترة سلام يمكن استغلالها في المزيد من التدريب أو تطوير التاكتيكات العسكرية، فقد كان الجيش يفتقر إلى المهارات التقنية وحتى إلى الخبرة العسكرية، وكان ذلك هو السبب وراء لجوء تروتسكي لبعض الضباط من الجيش القيصري القديم كأخصائيين عسكريين في الجيش الأحمر، لكن في نفس الوقت كان هؤلاء يعملون تحت الرقابة اللصيقة من مسئولين سياسيين تم تعينهم في الجيش الأحمر بشكل خاص لهذه المهمة. دعا تروتسكي أيضاً الكثيرين من الشيوعيين في الحزب الشيوعي السوفيتي (البلشفي سابقاً) للانضمام للجيش الأحمر حيث يعملون على تشجيع الجنود وتثقيفهم سياسياً.

لقد لعب تروتسكي أكثر الأدوار حيوية خلال فترة الحرب الأهلية، وقد كتب تروتسكي في وقت لاحق واصفاً تلك الفترة، حيث قضى أكثر من عامين في “قطارالحرب” الذي يحمله إلى الجبهة ليتفقد أحوال الجيش ويتحدث إلى الجنود ويضع استراتيجيات القتال، إلخ.

ولأكثر من مرة كانت الثورة في مهب رياح الحرب الأهلية. في 1919 على سبيل المثال، احتلت قوات الجيش الأبيض المعادي للثورة إحدى المدن التي تبعد فقط حوالي عشرة أميال عن العاصمة بتروجراد. كان باستطاعة سكان العاصمة أن يلاحظوا دبابات العدو على مرمى البصر، حينها أراد لينين الانسحاب من المدينة في حين أصر تروتسكي على البقاء وشن حرب عصابات إذا تطلب الأمر. حتى أن تروتسكي اضطر وقتها لامتطاط حصاناً ليلحق بالجنود المرتدين وليقنعهم بضرورة الاستمرار في القتال والدفاع عن العاصمة. وفي النهاية نجح الجيش الأحمر في إحراز انتصاراً حاسماً.

وفي مواجهة كل الأعداء، انتهت الحرب بانتصار الجيش الأحمر في 1920. كان ذلك إنجازاً جباراً ساهم فيه ليون تروتسكي بشكل مباشر، لكن الفضل في ذلك يرجع بالأساس لإصرار وتضحية وشجاعة عشرات الآلاف من المناضلين والثوار الذين قاتلوا بتفانٍ بالغ وأقنعوا غيرهم بالقتال دفاعاً عن الثورة.

لكن ضريبة الانتصار كانت أن راح ضحية الحرب الآلاف من أفضل الشيوعيين وأكثر العمال إخلاصاً وخبرةً سياسيةً، علاوة على الدمار الواسع الذي لحق بالصناعة والاقتصاد الروسي.

10- نشر الثورة

جادل تروتسكي طويلاً بأنه لا يمكن فهم هذا العالم إلا ضمن نظام عالمى متكامل، كما أنه، ولينين، تمسكا دائماً بضرورة انتشار الثورة عبر العالم، بالأخص في الدول الأوروبية المتقدمة، كشرط أساسي لانتصار الثورة الروسية.

لقد أدت الأزمة الاقتصادية والسياسية العنيفة التي تسببت فيها الحرب العالمية الأولى، بجانب الإلهام الجبار للثورة الروسية، إلى تطورات هائلة في الحركات الثورية عبر العالم في الفترة من 1918 إلى 1920. في نوفمبر 1918، انهارت الإمبراطورية الألمانية وقد شكل “مندوبي الشعب” حكومة جديدة لإدارة شئون البلاد. وفي المجر نجح الثوار في تأسيس حكومة سوفيتية استمرت لفترة قصيرة من الزمن. وفي إيطاليا، شهدت الفترة من 1919 – 1920، والتي عُرفت بالسنوات الحمراء، نضالات جماهيرية للعمال واحتلال واسع للمصانع. أما في اسبانيا، فقد اجتاحت الحركة الثورية كافة أرجاء البلاد، حتى أنه في فالينسيا 1918 قام الثوار بتسمية بعض شوارع المدينة “لينين” و”ثورة أكتوبر”، إلخ.

وحتى بريطانيا قد شهدت موجة عملاقة من الإضرابات العمالية عبر البلاد، كما شهد الجيش البريطاني بعض الاضطرابات والتمردات، وفي نفس الوقت واجهت بريطانيا مقاومة جاهيرية في مستعمراتها، بالأخص في الهند ومصر علاوة على حرب العصابات التي قدّت مضجعها في أيرلندا. وبالإضافة إلى كل ذلك، اجتاحت الإضرابات العمالية مناطق واسعة في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا.

كان ذلك هو السياق الذى قرر فيه البلاشفة تأسيس منظمة أممية لتوحيد كافة الأحزاب الاشتراكية الثورية عبر العالم (الأممية الثالثة التي عُرفت بإسم الكونترن). ففي نفس الوقت الذى يؤسس فيه البلاشفة الجيش الأحمر للدفاع عن الدولة الثورية حديثة النشأة في مواجهة القوى العالمية التي سعت لتدميرها، انتقل البلاشفة أيضاً إلى الهجوم من خلال توحيد كل القوى الثورية في العالم.

وعلى الرغم من انشغال تروتسكي بقيادة الجيش الأحمر، إلا أنه قد لعب دوراً محورياً في المنظمة الأممية الوليدة، فهو من كتب الدعوة إلى المؤتمر الأول للأممية الثالثة في مارس 1919، كما ساهم بشكل كبير في إعداد قرارات ومواثيق الأممية في الخمس سنين الأولى لها، علاوة على توثيقه الدؤوب للاجتماعات والنقاشات الدائرة في الأممية.

تأسس الكومنترن على مبدأين أساسيين، وهما الأممية والتفرقة بين الإصلاح والثورة. كانت الحدود الفاصلة بين الإصلاح والثورة قد تم إلقاءها في القمامة من قبل الكثير من الأحزاب الاشتراكية في الأممية الثانية، وذلك عندما ذهبت تلك الأحزاب في عام 1914، لتأييد حكوماتها لخوض الحرب العالمية الأولى. وكانت هذه هى المرة الأولى التي دعا فيها لينين وتروتسكي بملء الفم لضرورة بناء أممية جديدة مرتكزة على مبادئ الثورة والأممية الحقيقية.

كانت هذه الدرجة من الوضوح لدى لينين وتروتسكي ضرورية أثناء موجة الثورات الهائلة التي تأسست خلالها الأممية الثالثة، فلقد كان هناك الكثير من التنظيمات التي تدعي الاشتراكية في حين أنها في الحقيقة تنظيمات إصلاحية تسعى لإجراء بعض التغييرات ضمن الإطار العام للرأسمالية. على العكس من ذلك، تأسس الكومنترن مرتكزاً على المبادئ الاشتراكية الثورية، حيث الحاجة لبناء الديمقراطية العمالية ورفض الفكرة القائلة بأنه من الممكن بناء المجتمع الاشتراكي من خلال أجهزة الدولة الرأسمالية القائمة.

وعلى الرغم من أن المؤتمر الأول للكومنترن كان صغيراً، إلا أن نمو وانتعاش التحركات الثورية عبر العالم كان ينعكس في درجة أعلى من الراديكالية لدى الكثير من المنظمات والأحزاب الاشتراكية، الأمر الذى انعكس بدوره في زيادة عدد الأحزاب الثورية التي تنضم للكومنترن. وبحلول المؤتمر الثاني في صيف 1920، كانت الأممية الثالثة قد صارت منظمة أممية جماهيرية.

لقد آمن تروتسكي ولينين أن الشرط الضرورى لتامين مستقبل الثورة العالمية هو انتصار الثورة في أحد المراكز الرأسمالية المتقدمة في الغرب. لكنهما في الوقت نفسه استوعبا بشكل كامل أهمية انتفاض الشعوب المقهورة من الدول الاستعمارية الكبرى. وكما كتب ليون تروتسكي أثناء تواجده على الجبهة في قيادة الجيش الأحمر، فإن “الطريق إلى باريس ولندن يمر عبر مدن أفغانستان والبنغال”.

كان العديد من الشعوب التي عانت في ظل الاستعمار تأخذ طريقها في النضال من أجل التحرر، مستلهمةً انتصار البلاشفة وسياساتهم التقدمية تجاه القوميات المضطهدة. ولقد بذل البلاشفة جهوداً وافرة للتواصل مع تلك الشعوب المقهورة عبر العالم. في 1920 على سبيل المثال، نظم البلاشفة مؤتمراً لشعوب الشرق في مدينة باكو بأذربيجان، حضره حوالى ألفين مندوباً من قوميات مختلفة، وكان الغرض من المؤتمر واضحاً وهو توحيد الثوريين عبر آسيا للبحث في كيفية نشر الثورة عبر القارة والتحرر من الاستعمار والاضطهاد.

11- الجبهة المتحدة

لقد جمع الكومنترن الثوريين عبرالعالم للنقاش والبحث في الاستراتيجية والتاكتيكات الثورية. وبالنسبة للينين وتروتسكي وغيرهم، فقد وفر الكومنترن المساحة الأكثر حيوية للبحث في كيفية انتشار الثورة. لكن بحلول المؤتمر الثالث في يونيو ويوليو 1921، بات من الواضح أن الرأسمالية قد نجت من الموجة الأولى للنضالات الثورية فيما بعد الحرب العالمية الأولى. وفي ظل هذه الظروف، أصبح السؤال الأساسي الذى فرض نفسه على المؤتمر هو كيفية البناء الثوري في وقت لا تفرض فيه الثورة نفسها بشكل آنى على الأجندة السياسية. ذلك كان المؤتمر الذى أطلق عليه تروتسكي “المدرسة الأعلى للاستراتيجية الثورية”.

دارت أكثر نقاشات المؤتمر حدة حول قضية “الجبهة المتحدة”. عبّر ليون تروتسكي عن أفكاره خلال تلك النقاشات، كما في عدد أخر من كتاباته، عن ضرورة توحيد جهود ونضال العمال الثوريين مع زملائهم الذين لم ينخرطوا بعد في الممارسة الثورية المباشرة.

إن استراتيجية الجبهة المتحدة تنبع أولاً من الحاجة الأساسية لدى العمال للوحدة ضد الهجمات الشرسة للرأسمالية، وكما كتب تروتسكي فإن “جماهير الطبقة العاملة في حاجة لدرجة عالية من الوحدة في الفعل سواء لمقاومة هجمات الرأسمالية، أو للهجوم ضدها”.

ثانياً، باستثناء أوقات النضال الثوري، تكون الأفكار الثورية سائدة فقط بين أقلية من العمال، أما أغلبية الطبقة العاملة فتظل على قناعة بأنه يمكن إصلاح ظروف الحياة وشروط العمل داخل إطار الرأسمالية نفسها، أى أنهم يقبلون فقط بالأفكار الإصلاحية. لذا يصبح على العمال الثوريين ألا ينفصلوا عن زملائهم ممن يقفون عند الحدود الإصلاحية.

كان تروتسكي يرفض طرح الحد الأقصى من الأفكار الثورية للجماهير، مصراً على أن الطريقة الجادة لبناء وحدة حقيقية بين صفوف الطبقة العاملة لا يمكن أن تكون عبر طرح الأفكار الثورية دون النضال الجدي مع الجماهير وفي القلب من معاركها اليومية. وهذا لا يعني أن تروتسكي لم يكن مهتماً بكسب الجماهير للسياسة الثورية، بل على العكس تماماً، فقد تمحور جداله حول أن الوعي الجماهيري يتغير فقط على أرضية النضال الطبقي من أجل أهداف مشتركة، وخلال هذه العملية تتوفر إمكانية وفرص حقيقية أمام الثوريين لتوضيح أن الثورة العمالية هى الحل، وذلك خلال الاختبارات العملية للنضال.

كانت تلك هى الطريقة التي استطاع بها البلاشفة كسب الجماهير في ثورة 1917، حيث أثبتوا أنهم الأكثر نضالية وجذرية أثناء التصدي لعصيان لعصيان الجنرال كورنيلوف. كان تروتسكي مختلفاً مع أولئك الذين يتجاهلون أهمية انتزاع بعض الإصلاحات، وكان يؤكد دوماً أن الانتصارات الصغيرة أو الكبيرة من شأنها أن تمنح الجماهير الثقة في نفسها وفي إرادتها.

في أغلب البدان في ذلك الوقت، كانت المجموعات الثورية قد انشقت لتوها من أحزاب إصلاحية كبيرة، وفي حين أيد تروتسكي تلك الانشقاقات لبناء منظمات ثورية مستقلة، وأكد أن مثل هذه الاستقلالية والوضوح في الخط السياسي يجب الحفاظ عليهما، إلا أنه يكرر كثيراً أن على المنظمات الثورية أن تسعى للعمل المشترك مع الآخرين كى لا تنعزل عن النضالات الجماهيرية.

استنكر تروتسكي أيضاً أن يتجاهل الثوريين الدور الذى يلعبه القادة الإصلاحيين، فإحدى أهم المهام التي على الثوريين الاضطلاع بها هى فضح هؤلاء القادة باعتبارهم غير قادرين ولا راغبين في قيادة النضال بشكل جاد. لكن ذلك لا يمكن أن يحدث فقط من خلال إدانتهم والتشهير بهم، لكن في خضم الصراع الطبقي ومعاركه اليومية.

وصف تروتسكي المبدأ الأساسي الذى يجب أن يحكم سياسة الجبهة المتحدة على النحو التالي: “مع الجماهير دائماً، ومع القادة المترددين أحياناً، طالما أنهم لا يزالون على رأس الحركة الجماهيرية.. من الضرورى التعامل مع هؤلاء القادة في الوقت الذى تدفعهم فيه الجماهير للأمام، لكن دون التلكؤ في توجيه النقد لهم، ومن الضروري أيضاً القطع التام معهم في الوقت الصحيح، عندما يتحولون من التردد إلى العداء والخيانة”.

لقد عاود تروتسكي الحديث حول مسألة الجبهة المتحدة مراراً وتكراراً، فقد ناقش الأمر بشكل متماسك في كتاباته حول صعود الفاشية في ألمانيا وفرنسا واسبانيا في منتصف الثلاثينيات، حيث عارض استراتيجية ستالين “الجبهة الشعبية” والتي أدت إلى تذيل الطبقة العاملة لليبراليين المدافعين عن الرأسمالية.

وتبقى الجبهة المتحدة آداة استراتيجية حيوية بالنسبة للثوريين اليوم، فمن خلالها يمكن بناء حملات موحدة وجادة ومؤثرة، وفي نفس الوقت للنضال من أجل تفكيك الأوهام الإصلاحية.

12- صعود البيروقراطية

على الرغم من خروج البلاشفة ظافرين بالنصر في الحرب الأهلية، إلا أن روسيا كانت غارقة في الدمار والخراب. فالناتج الصناعي في عام 1921 انخفض كثيراً إلى 31% مما كان عليه في عام 1913، أما الصناعات الثقيلة فقد تدهورت على نحو أسوأ، مثل صناعة الصلب التي لم تتخطى في الإنتاج نسبة 4% مما كانت عليه في 1913، وأما وسائل المواصلات فقد تدهورت هي الأخرى بشكل كبير نتيجة العجز الحاد في الوقود. كل ذلك بالإضافة إلى المجاعة والأمراض التي استشرت في أرجاء البلاد.

كان انهيار الصناعة متزامناً مع دمار هائل لحق بالطبقة العاملة التي صنعت الثورة، فهناك الكثير من العمال تضرروا بشكل كبير من النسب المرتفعة للبطالة والذين لجأوا إلى الريف لتدبير شئون حياتهم. وفي ظل تلك الظروف، أصبح البلاشفة يديرون دولة بإسم الطبقة العاملة التي بالكاد تتواجد على أرض الواقع في بلد أنهكه الفقر والجوع.

وفي المقابل، حاولت الحكومة الشيوعية في ظل قيادة لينين وتروتسكي بشتى الطرق الممكنة إعادة بناء البنى التحتية والاقتصاد في روسيا. دارت الكثير من الجدالات حول كيفية القيام بمثل تلك المهام الشاقة، ولم يكن أحد يملك الوجهة الصحيحة في هذه المسألة، حتى لينين وتروتسكي نفسيهما.

خلال الحرب الأهلية، استند الاقتصاد على الطلب الإجباري لمحاصيل الحبوب من الفلاحين لإطعام الجيش والعمال في المدن. وتحت ضغط التمردات المتنامية في الريف، عمد البلاشفة إلى إجراء إصلاحات محدودة في السوق، فيما عُرِفَ بالسياسة الاقتصادية الجديدة (النيب – N.E.P)، لتحفيز الفلاحين من أجل المزيد من الإنتاج.

لقد رأى كل من تروتسكي ولينين ذلك كحل مؤقت للأوضاع البائسة في روسيا، لكنهما كانا على يقين تام بأن الحل الحقيقي يكمن في إمكانية انتشار الثورة، بالأخص عبر الدول المتقدمة في أوروبا، كان ذلك هو الطريق الوحيد الذى يمكن من خلاله تجاوز الضغوط التي يقع الاقتصاد الروسي تحت رحمتها، والطريق الوحيد أيضاً من أجل إعادة بناء الطبقة العاملة عددياً وسياسياً أيضاً.

وفي ظل كل ذلك الدمار والفوضى التي حاقت بروسيا فيما بعد الحرب الأهلية، بدأت بيروقراطية الدولة في التنامي والتوسع، أي أولئك الإداريين والموظفين الرسميين الذين أصبحت لهم مطلق اليد في إدارة الشئون اليومية للبلاد. تطور أولئك البيروقراطيون ليمثلوا شريحة اجتماعية تتمتع بامتيازات تفوق باقي المجتمع، وتلك كانت البيروقراطية التي شكلت ظاهرة ستالين، الأقل شأناً بين القادة البلاشفة البارزين والذى جسّد مصالح هذه الشريحة من المجتمع.

كان تروتسكي ولينين قلقين بشدة بسبب النمو المتزايد للبيروقراطية، ولقد حذر لينين في يناير 1921 من “تشويهات البيروقراطية” كما وصف تروتسكي السمة الرئيسية للبيروقراطية بأنها “محافظة بشكل كبير، وهذه الشريحة المحافظة من الموظفين البيروقراط الذين صعدوا فوق الجماهير، قد شكلت الدعم الأقوى لستالين”.

كان لينين قد أصبح أكثر حذراً من تفشي البيروقراطية في الحزب والدولة، وقبل وفاته عام 1924، كتب وصيته الشهيرة التي نصح فيها بضرورة إزاحة ستالين من قيادة الحزب، فيما قررت اللجنة المركزية وقتها عدم الإعلان عن هذه الوصية. أما تروتسكي، وبالرغم من موافقته التامة مع وصية لينين، إلا أنه لم يعترض على عدم الإعلان عن وصية لينين خوفاً من وقوع انشقاقات كبرى في صفوف الحزب.

كان ستالين وقتها منغرساً بقوة في القلب من بيروقراطية الحزب، كما شغل مناصب متعددة في مختلف هيئات الدولة، وهكذا فقد استغل وفاة لينين لتقوية وضعه في الحزب والدولة. ومنذ ذلك الحين، أصبح ستالين يصوّر نفسه كخليفة للينين ووريثاً شرعياً لسياساته وأفكاره وتراثه، كما أطلق اعتى الهجمات على تروتسكي وكل السياسات والمبادئ التي كان يمثلها وظل يدافع عنها حتى وفاته.

13- الاشتراكية في بلد واحد

رأى تروتسكي خطورة كبيرة في النمو المتزايد للبيروقراطية، كما ناضل بشتى الطرق لإيقاف صعودها، أنشأ تروتسكي المعارضة اليسارية التي وضعت خططاً للتصنيع تهدف لزيادة حجم الطبقة العاملة ووزنها الاجتماعي، وبالتالي لرفع مستوى المعيشة ولتوسيع رقعة الديمقراطية العمالية.

أما ستالين ومؤيدوه، فقد رفضوا كل تلك الاقتراحات بشكل قاطع، وفي المقابل حافظوا على توازن بطيء وحذر بين الصناعة والزراعة، كما استمروا في إثراء آليات السوق مما أدى إلى تهيئة المناخ لإعادة إنتاج الرأسمالية.

كان تروتسكي ينظر إلى انتشار الثورة كطريق وحيد لتجاوز عقبات التأخر الاقتصادى لروسيا، والإفلات أيضاً من ضغوط الرأسمالية العالمية. لكن الحركة الثورية العالمية قد تلقت هزائم مفجعة، لاسيما في ألمانيا 1923. فلقد انهزم الثوار الألمان ليس بسبب غياب الفرصة الثورية أو قلة عددهم، بل لأن حزبهم كان ضعيفاً ومنقسماً ويفتقر للخبرة الكافية التي تؤهله لقيادة الثورة بحسم نحو الانتصار.

وعلى إثر الهزيمة في ألمانيا، كتب تروتسكي كراسه الشهير “دروس ثورة أكتوبر” ليعرض فيه الدور الحاسم للحزب الثوري في إرشاد الثورات وقياداتها إلى الانتصار النهائى، وذلك في إشارة واضحة لانتصار الثورة الروسية في مقابل ما حدث في ألمانيا.

فتح “دروس ثورة أكتوبر” الباب أمام موجة جديدة من الهجوم ضد تروتسكي، حيث اختلق ستالين ومعاونوه الكثير من الأكاذيب لتشويه تروتسكي وأفكاره، كما دعوا للحرب على تروتسكي لتقليص نفوذه داخل الحزب. وبشكل خاص، كان هؤلاء يشيرون إلى انضمام تروتسكي للحزب البلشفي متأخراً في 1917، وواصلوا الهجوم على نظرية تروتسكي “الثورة الدائمة”.

أشاعت هزيمة الثورة الألمانية الكثير من التشاؤم والسلبية بين العمال والفلاحين الروس الذين عانوا الأمرّين طوال سنوات من الحرب وضيق المعيشة.

في نهاية 1924، ابتكر ستالين شعار “الاشتراكية في بلد واحد” في مقالة كتبها خصيصاً للهجوم على نظرية “الثورة الدائمة” لتروتسكي. لكن فكرة أن بإمكان روسيا أن تبنى مجتمعاً اشتراكياً محاصراً بالبدان الرأسمالية، إنما تمثل ردة شديدة عن المهمة الكثر حيوية بالنسبة للماركسيين الثوريين في نشر الثورة. كانت هذه الفكرة الستالينية مدمرة لمبدأالأممية الذى يقع في القلب من الماركسية ذاتها. بينما كان تروتسكي يصر على أنه إما أن تنتشر الثورة أو أن ضغوط الرأسمالية العالمية سوف تدمر الثورة في نهاية المطاف. أما حديث ستالين عن إمكانية بناء الاشتراكية في بلد واحد، فقد تجنب هذه المعضلة تماماً وكأنها لم تكن.

وفي 1928 أصبح الأمر واقعاً بالفعل بالنسبة للبيروقراطيين على رأس السلطة في روسيا، فتحت التهديد باندلاع الحرب مع بريطانيا، ومواجهة أزمة عميقة في الريف، أجرى ستالين تحولاً مفزعاً نحو التجميع القسرى للفلاحين حيث سيطرت الدولة على أراضى الفلاحين وأدارت عملية تصنيع سريعة كان لها آثار شديدة القسوة على حياة العمال في المدن. كان ذلك على النقيض التام من برنامج تروتسكي للتصنيع، وبالتالى على النقيض التام أيضاً من المساعى الهادفة لتنمية وتوسيع رقعة الديمقراطية العمالية، حيث مثلت مشاريع الدولة الستالينية تهديداً خطيراً على حياة الملايين من العمال والفلاحين في روسيا.

كان ذلك هو النتيجة الطبيعية لبناء “الاشتراكية في بلد واحد”، حيث أُجبرت روسيا على اللحاق بالدول الرأسمالية المتقدمة، وكما أوضح ستالين في إحدى خطبه في 1931: “إننا متأخرين عن البدان المتقدمة في أوروبا بخمسين أو مائة عام. يجب أن نعوّض هذا التلكؤ في عشر سنوات.. إما أن نفعل أو يسحقوننا”.

والتنافس الاقتصادي والعسكري مع العالم الرأسمالي كان له تبعات خطيرة على روسيا نفسا؛ فقد كانت الخطط الخمسية المتعاقبة في روسيا، بدءاً من العام 1929، تعكس انخفاضاً مأساوياً في مستوى معيشة الجماهير، وتجويعاً واسعاً لهم. وفي الفترة من 1928 إلى 1930، تضاعفت أعداد العمال في معسكرات العمل العبودية بمقدار عشرين مرة. ومن أجل تقوية النظام، عمد ستالين إلى الاستبداد المتزايد وسحق كافة معارضيه، وكل آثار الديمقراطية تم محوها بشكل كامل على يديه.

كان لـ”الاشتراكية في بلد واحد” تأثير كارثي أيضاً على الحركة الشيوعية العالمية؛ فقد تحول “الكومنترن” من مدرسة أممية للاستراتيجية والتكتيك إلى جهاز يتلون بحسب مصالح السياسة الخارجية لستالين. وكان ذلك يعنى الخوض في استراتيجيات متناقضة لها نتائج مدمرة، حيث كانت يتم التضحية بمصالح الطبقة العاملة مرة تلو الأخرى لتلبية احتياجات البيروقراطية الستالينية.

في العام 1926، انضم تروتسكي إلى كامينيف وزينوفيف – حلفاء ستالين السابقين – لتأسيس “المعارضة المتحدة”، لكن تاريخ العداوة والنديّة بين تروتسكي من ناحية وكامينيف وزينوفيف من ناحية أخرى، جعل من الصعب على مؤيديهما أن يثقوا ببعضهم البعض. ولكي تستمر “المعارضة المتحدة” في عملها، كان على الطرفين تقديم بعض التنازلات، حتى إلى درجة كان تروتسكي وقتها قد أرجأ الحديث عن “الثورة الدائمة” قليلاً.

ومع الضعف الشديد الذى لحق بالعمال والفلاحين الروس نتيجة الحرب والمجاعة، لم تستند المعارضة سوى على قاعدة محدودة للغاية في مواجهة ستالين وبيروقراطيته، وهكذا تم تحطيم المعارضة بالكامل. وعندما دعا تروتسكي إلى مسيرة عمالية بالتزامن مع الذكرى العاشرة لانتصار الثورة الروسية 1917، كان ذلك بمثابة الحجة التي استخدمها ستالين لطرده من الحزب الشيوعي، بعد عشرة أعوام من تنظيم الانتفاضة المسلحة في أكتوبر 1917، وبعد ستة أعوام من هزيمة بعض من أقوى الجيوش الإمبريالية في العالم، تم طرد تروتسكي من الحزب وإرساله إلى المنفى.

14- عالم بلا فيزا

في يناير1928، وبأمر من ستالين تم ترحيل ليون تروتسكي إلى ألما آتا في أقصى شرق روسيا. ومن ألما آتا تم ترحيل تروتسكي بعد عام إلى تركيا حيث مكث هناك في جزيرة تُدعى برينكيبو.

قضى تروتسكي أكثر من أربعة أعوام في تركيا رغماً عن إرادته. وصف تروتسكي ذلك الوقت وكأنه يقضى حياته في “عالم بدون فيزا”، فما من بلد ترغب في استضافته على أرضها، فلقد بدا في أعين الحكومات كمخرب، وحتى تلك البلدان التي تدعى الديمقراطية في أوروبا قد رفضت مجيئه أيضاً.

في النهاية، استطاع بعضاً من مؤيدى تروتسكي أن يحصلوا على جواز إقامة له في فرنسا ومن ثم النرويج، لكن عندما قررت الحكومة النرويجية منعه من التحريض ضد ستالين واعتداءاته المستمرة، قرر تروتسكي أن يبحث عن أرض أخرى ليعيش عليها. ومع نهاية 1936، نجح الفنان المكسيكى الكبير دييجو ريفيرا في إقناع حكومة بلاده لقبول لجوء تروتسكي. وعاش تروتسكي في المكسيك حتى اغتياله على يد أحد عملاء الشرطة الستالينية السرية في أغسطس 1940.

وطوال الفترة التي قضاها في المنفى، بذل تروتسكي جهداً وافرأ في الكتابة. وفي حين اُختزلت الكتابات الستالينية في ذلك الوقت على تشويه دور تروتسكي في الثورة الروسية وعلاقته بفلاديمير لينين، كتب تروتسكي سلسلة من الكتب ليسجل بها تاريخه، مثل سيرته الذاتية “حياتى”، و”تاريخ الثورة الروسية” والذى يعد أحد أهم الكتابات التاريخية التي أنجزها تروتسكي.

وعلى الرغم من عزلته، تابع تروتسكي عن كثب كافة التحولات والتغيرات السياسية عبر العالم، وكتب بكثافة عن استراتيجية وتاكتيكات الحركات الثورية في العديد من البلدان. ومثل ماركس وإنجلز ولينين، آمن تروتسكي بضرورة الوحدة بين النظرية والممارسة. وحتى في المنفى، حيث كان يقبع تحت الحراسة، وحتى مع ضآلة حجم المجموعات الثورية الملتفة حوله مقارنةً بالقوى الستالينية، قام تروتسكي بكل ما يستطيع فعله لتنظيم مؤيديه عبر العالم، فلقد حاول التصدى للأدوار المخربة التي لعبها الكومنترن تحت قيادة ستالين، والتي كان أكثرها كارثية هو سماح الحزب الشوعى الألمانى – بإشراف مباشر من الكومنترن – بصعود هتلر إلى السلطة.

15- النضال ضد الفاشية

وصف تروتسكي صعود الفاشية إلى الحكم في ألمانيا بـ”أكبر هزيمة للطبقة العاملة في التاريخ”. وصل هتلر للسلطة في يناير 1933، وكان تروتسكي يحذر بشدة من هذا الخطر قبل وقوعه بثلاثة أعوام، حيث جادل بأن انتصار الفاشية لن يمثل هزيمة للطبقة العاملة الألمانية فحسب، بل لكل القوى التقدمية عبر أوروبا.

رأى تروتسكي أنه كان بالإمكان التصدى للفاشية وإيقافها، فتنظيمات الطبقة العاملة الألمانية كانت أكبر، أكثر اتساعاً من غيرها في أى بلد آخر. في 1932، كان الحزب الاشتراكى الديمقراطى يضم أكثر من مليون عضو، في حين كانت عضوية الحزب الشيوعي بحوالى 300 ألف عضو، وكلا الحزبين كان يضم ما يزيد عن 50 ألف عضو في المنظمات الشبابية.

وفي الانتخابات البرلمانية الألمانية في سبتمبر 1930، حظى الحزب الاشتراكى الديمقراطي والحزب الشيوعي مجتمعين أكثر من ضعف الأصوات التي ذهبت للحزب النازى. وحتى في مارس 1933، بعد أن صعد هتلر للسلطة وقام بحظر الحزب الشيوعي وأطلق إرهاباً عنيفاً ضد قوى اليسار، كانت إجمالى الأصوات التي حظى بها الحزب الاشتراكى والشيوعي حوالى 12 مليون صوت. والأكثر أهمية من عدد الأصوات، كما جادل تروتسكي أنها كانت قادمة من العمال المنظمين في تنظيمات عمالية منغرسة في المصانع وفي قلب الاقتصاد الألمانى.

جادل تروتسكي بأن الطريقة الوحيدة لإيقاف هتلر والنازيين هى الجبهة المتحدة بين الشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين. لكن تاكتيك تروتسكي كان مناقضاً لسياسة الحزب الشيوعي الملتزمة بالاستراتيجية الستالينية للكومنترن.

أجرى الكومنترن تحولاً حاداً في عام 1928 فيما أُطلق عليه “الفترة الثالثة”. كانت الفترة الأولى من عام 1917 حتى 1923 هى فترة الانتفاضات الثورية العملاقة التي اجتاحت روسيا وكل ربوع أوروبا، أما الفترة الثانية فهى الفترة المعروفة بالاستقرار الرأسمالي من 1923 إلى 1928، وكما أشار تروتسكي فهى الفترة التي شهدت أخطاء كارثية حيث الاعتماد على القوميين في الصين والبيروقراطيين النقابيين في بريطانيا.

وفقاً لستالين وقادة الكومنترن، كانت الفترة الثالثة هى الأزمة النهائية للرأسمالية، مما كان يعنى تصاعداً هائلاً نحو الهجوم الثوري على الرأسمالية. وبالتالى تضمنت تلك الرؤية تأسيس نقابات “حمراء” (تضم الشيوعيين فقط)، ورفض سياسة الجبهة المتحدة، والتعامل مع الاشتراكيين الديمقراطيين باعتبارهم فاشيين اجتماعيين، وبالتالى فهم يمثلون العدو الأساسي بالنسبة للشيوعيين.

وفي المقابل، جادل تروتسكي بأنه ليس هناك دليلاً دامغاً يثبت أن الأزمة الاقتصادية يمكنها بشكل حتمي أن تفرز راديكالية ثورية لدى الجماهير العريضة. ودعا الشيوعيين مرة تلو الأخرى للضغط على الاشتراكيين الديمقراطيين لتأسيس جبهة متحدة فيما بينها من أجل التصدي للفاشية.

لقد أسس تروتسكي هذه الاستراتيجية من خلال تحليل متماسك للفاشية ذاتها، وكما وصفها فإن الفاشية هي “حركة الثورة المضادة” المرتكزة على الطبقات الوسطى التي تشعر بالذعر وغياب الأمان إثر الأزمة الاقتصادية التي خربت ألمانيا في بداية الثلاثينيات. كتب تروتسكي أنه ينبغي فهم ظاهرة هتلر من هذا السياق، كانعكاس حىّ للطبقة الوسطى المذعورة.

وصحيح أن الطبقة الوسطى تمثل القاعدة الجماهيرية الأساسية للفاشية، إلا أن تروتسكي رأى أيضاً أنه لم يكن بإمكان هتلر الصعود للسلطة دون دعم بعض قطاعات الطبقة الرأسمالية. وعلى الرغم من أن الرأسماليين يفضلون عادةً الديمقراطية البرجوازية، إلا أنهم قد يلجأون للفاشية في أوقات الأزمات الحادة. شبّه تروتسكي ذلك بالمريض الذي يخاف من طبيب الأسنان، لكنه يُجبر على ذلك عندما يصل الألم إلى درجة لا يحتملها. وأثناء الانهيار الاقتصادى الذى شهدته ألمانيا في أوائل الثلاثينيات، رأى الرأسماليون الألمان في هتلر فرصة جيدة لتحطيم منظمات الطبقة العاملة وأحزابها مما يمهد الطريق لاسترجاع أرباحهم وإفلاتهم من الأزمة.

فسّر تروتسكي ذلك حين شخّص الوظيفة الأساسية للفاشية بأنها تسعى لتدمير كافة تنظيمات الطبقة العاملة، وإن اقتضى الأمر أن تقضى على الديمقراطية البرلمانية أيضاً. كان ذلك هو الحال في ألمانيا، حيث تدمير كافة التنظيمات الجماهيرية القاعدية – حتى فرق الكشافة قد تم حظرها أيضاً – وسحق كل عناصر الديمقراطية ومؤسساتها، وهكذا فإن محاولات الحزب الاشتراكي الديمقراطي لتأسيس معارضة برلمانية قد باءت بالفشل الذريع.

لم يكن الحزب الشيوعي بالقوة الكافية التي تمكنه من هزيمة الفاشية. وما زاد الطين بلة هو استمرار الشيوعيين الألمان في تبني الاستراتيجية الكارثية التي ترى الاشتراكية الديمقراطية عدواً رئيسياً، كما عمدوا للفصل التام بين قواعدهم الحزبية وبين قواعد الحزب الاشتراكي الديمقراطي.

انصب جل تركيز تروتسكي في هذه المسألة على أن الفعل الموحد لملايين العمال المنظمين في النقابات والأحزاب السياسية، هو الطريق الوحيد للتصدى للفاشية الصاعدة. جادل تروتسكي أيضاً بأن هذه الجبهة المتحدة سوف تتطور من الدفاع إلى الهجوم، وسوف تتحول أثناء الصراع إلى تنظيمات عمالية أشبه بالسوفيتات التي حازت السلطة السياسية في روسيا 1917، ولكن كل تلك الجدالات كان الشيوعيون الألمان يغضون الطرف عنها.

إلا أن أطروحات تروتسكي لم تكن سهلة التحقيق في ألمانيا، فلقد كان من الصعب أن ينسى الشيوعيون الألمان أن قادة الحزب الاشتراكي هم من مهدوا الظروف لاغتيال روزا لكسمبورج وكارل ليبكنخت قبل ذلك بعقد من الزمان. لكن تروتسكي استمر في جداله بأنه من الضرورى بناء مثل هذه الوحدة بين منظمات وأحزاب الطبقة العاملة الألمانية.

وعلى الرغم من تاريخ تروتسكي ووزنه السياسى، لم يكن هناك كثيرون يستمعون إلى ما يقول، فقط كانت هناك مجموعة ضئيلة من مؤيديه لا تتجاوز 500 عضو، حاولت المجموعة بكل جهد أن تنمو وتتوسع إلا أنها لم تفلح كثيراً. كانت هناك الكثير من كتابات تروتسكي يتم طباعتها وتوزيعها، إلا أنها لم تحدث أى تأثير يُذكر.

كان تروتسكي على إدراك تام بمخاطر وأهوال الفاشية، إلا أنه ظل عاجزاً عن إيقافها. هكذا حذر العمال الألمان: “إذا صعدت الفاشية للسلطة، فسوف تمر على جماجمكم وعظامكم كدبابة مخيفة”.. ولقد كان على صواب فيما حذّر من مآسى.

16- الثورة المغدورة

حتى العام 1933، آمن تروتسكي بأن الكومنترن والحزب الشيوعي السوفيتي يمكن إصلاحهما. أما بعد صعود هتلر للسلطة في ألمانيا بدون نضال حقيقي ضد ذلك من جانب الحزب الشيوعي الألمانى بناءاً على نصيحة الكومنترن، أيقن تروتسكي أن هناك حاجة إلى ثورة “سياسية” في روسيا، كما أن هناك ضرورة أكيدة لبناء منظمة أممية جديدة.

وبعد حوالى خمسة أعوام، اجتمع 21 مندوب من بلدان مختلفة في عام 1938 في فرنسا وأعلنوا تأسيس “الأممية الرابعة”. وباستثناء المندوب الأمريكي، كان كافة المندوبين يمثلون قوى شديدة الضآلة في بلدانهم. وعلى العكس من الأممية الثالثة، التي كانت قد انطلقت في ظل انتعاش غير مسبوق للحركات الثورية عبر العالم، وفي وقت قصير استطاعت أن تجذب الكثير من القوى الاشتراكية الثورية إلى شعاراتها واستراتيجيتها، تأسست الأممية الرابعة في ظل فترة طويلة من الهزائم المتلاحقة وصعود الفاشية واندلاع الحرب العالمية الثانية، وبالتالى لم تستطع الأممية الرابعة أن تكسر العزلة التي فُرضت عليها.

في 1936، كتب تروتسكي “الثورة المغدورة”، حيث تناول بالتفصيل طبيعة وواقع روسيا الستالينية. كان ذلك بالتأكيد نضالاً لإعادة تصدير المعنى الحقيقى للاشتراكية كنظام مبنى على أساس المساواة والحرية والديمقراطية. في تلك الأثناء كان ستالين قد أعلن أن روسيا قد أنجزت بناء المجتمع الاشتراكى، في حين جادل تروتسكي بأن روسيا الستالينية لم تكن اشتراكية، مشيراً في ذلك إلى الغياب التام للمساواة في المجتمع الروسى. وأثناء تحليله لقضية المرأة في المجتمع، كتب تروتسكي أنه “لايمكن غفران الحديث عن انتصار الاشتراكية في ظل وجود الدعارة في روسيا”.

إن جرائم ستالين أصبحت اليوم معروفة للجميع، لكن الوضع لم يبدو كذلك في الثلاثينيات من القرن الماضى. كان تروتسكي هو أول اشتراكى ثوري يقدم تحليل ماركسى تفصيلى عن روسيا الستالينية، وكانت انتقاداته بمثابة القنبلة التي انفجرت في وجه الجميع. لقد أشار تروتسكي إلى أن ستالين قد أجهز على كافة مكتسبات ثورة أكتوبر، فعلى مستوى حقوق المرأة مثلاً، أعاد ستالين تجريم الإجهاض، كما أصبح الطلاق في عصره امتيازاً لمن تستطيع أن تدفع لأجل ذلك، إلخ. وعلى أيدي ستالين أيضاً، تحول التحرر الوطنى للقوميات المضطهدة وحق الأمم في تقرير مصيرها وتم استبدالها بالشوفينية الروسية التي حطمت كافة الحقوق القومية.

وعلى الرغم من ذلك، لم يكن تقدير تروتسكي على صواب كامل في تحليله للبيروقراطية الستالينية ودورها في الثورة المضادة، فلقد أخطأ تروتسكي في اعتقاده بأن روسيا في ذلك الوقت كانت تمثل “دولة عمالية” وما يشوبها فقط هو البيروقراطية التي تقبع على رأس السلطة. بعد ذلك، أسهم بعض الاشتراكيين، مثل تونى كليف مؤسس التيار الاشتراكى الثوري، في البناء على تحليل تروتسكي وتطويره، لكن كليف جادل أيضاً بأن روسيا تحت حكم ستالين لم تكن دولة عمالية من الأساس، بل شكلاً آخر من الرأسمالية يتم إدارتها بواسطة الدولة بدلاً من رجال الأعمال ومجالس إدارات الشركات الكبرى، فيما نطلق عليه “رأسمالية الدولة”.

ومن أجل تمرير الهجوم على مستويات معيشة الملايين من العمال والفلاحين الروس، عهد ستالين إلى تضييق الخناق على أى شكل من أشكال المعارضة في روسيا. وفي هذا السياق أدان ستالين تروتسكي وكل من عارضوا النظام بأعتبارهم إرهابيين ومخربين وعملاء للفاشية. لقد اختلق ستالين ترسانة هائلة من الأكاذيب والادعاءات الزائفة لنشر الذعر بين الجماهير من “التروتسكية”، حتى أنه استخدم تهمة معاداة السامية وألصقها بتروتسكي وكل المعارضين ذوى الأصول اليهودية.

نفذ ستالين حملات تطهير واسعة داخل الحزب الشيوعي السوفيتي، حيث قام بطرد كافة معارضيه. وقد شملت الحملة الكثير من مؤيدى ستالين السابقين، والذين ذاقوا الذل والهوان من قبل في سجون القيصر، بعضهم تم إرساله لمعسكرات العمل العبودية أو المعتقلات، والكثيرين تم إعدامهم بعد توجيه تهم زائفة لهم بالعمالة للفاشية أو التآمر لارتكاب أعمال إرهابية، وإجبارهم على الاعتراف بذلك. كان يتم إعدام كل من يعترف بتلك التهم تحت تأثير التعذيب واليأس، وحتى من كان يرفض الاعتراف كان يتم إعدامه أيضاً.

في الفترة بين 1935 و1937، نفذ ستالين عدد من المحاكمات التي شملت عدد كبير من القياديين البلاشفة القدامى، مثل كامنييف وزينوفيف اللذين كانا عضوين في اللجنة المركزية للحزب البلشفي أثناء ثورة 1917 وبعد ذلك من أهم حلفاء ستالين قبل أن ينضما إلى “المعارضة المتحدة” داخل الحزب مع ليون تروتسكي. لقد أُجبرا على الاعتراف على الملأ وأمام الجماهير بأنهم وتروتسكي أيضاً، عملاء للفاشية، ومن ثم أُعدِما رمياً بالرصاص.

وفي الحقيقة، أعدم ستالين كل رفاقه في اللجنة المركزية البلشفية عام 1917، وذلك باستثناء تروتسكي الذى أُرسِل للمنفى، وألكسندرا كولونتاى التي شغلت منصب سفيرة للاتحاد السوفيتي في أوروبا أثناء تلك المحاكمات الصورية.

دائماً ما كان ستالين يحاول تصوير نفسه وكأنما هو الوريث الشرعى للينين، وحتى يومنا هذا هناك الكثيرين ممن يربطون بين لينين وبين جرائم ستالين. وما من شئ يوضح القطيعة التامة بين ثورة أكتوبر البلشفية وبين جرائم ستالين الوحشية، أكثر من حاجة ستالين ومحاولاته المستمرة لمحو تراث ثورة أكتوبر بالكامل. وكما كتب تروتسكي فإن “حملات التطهير ترسم بين البلشفية والستالينية ليس فقط خطاً دامياً، بل نهراً من الدماء”.

في أغسطس 1940، قام أحد عملاء ستالين باغتيال تروتسكي في منزله بالمكسيك. إلا أن ستالين لم يقتل تروتسكي وحسب، بل دمر كل أفراد عائلته. إحدى بنات تروتسكي توفيت بعد صراع مع مرض السل وذلك بعد طردها من الحزب الشيوعي ومنعها من العمل. أما بنته الأخرى، زينا، فقد اقتيدت للانتحاربعد أن تم إرسال زوجها وزوج أختها للعمل العبودى في معسكرات سيبريا. فقد تم اعتقاله على يد الشرطة السرية الستالينية في 1938. وحتى أصغر أبناء تروتسكي، العالم الذى تجنب العمل بالسياسة، فقد أعتقل هو الآخر في 1934 وأُرسل بعد ذلك لمعسكرات العمل، وأخر خبر عنه أنه خاض إضراباً عن الطعام في 1936. أما زوجة تروتسكي الأولى، ألكساندرا سكولوفسكايا، والتي لعبت أدواراً نشيطة في صفوف المعارضة، فقد تم طردها خارج لينينجراد في 1936 وفي النهاية أُعدِمت رمياً بالرصاص في 1938.

لم تكن تلك مجرد قصة مأساوية لتروتسكي، لكن إشارة إلى الاستعداد الكامل لدى ستالين لتدمير معارضيه ولمحو تراث ثورة أكتوبر. وكما كتب إبن تروتسكي، سيدوف ” إن ستالين كان يكره تروتسكي ليس لشخصه بل لأنه تجسيد حيّ لأفكار وتراث ثورة أكتوبر”.

17- هل كان بمقدور تروتسكي هزيمة ستالين؟

الكثير من المؤرخين يصورون الصراع بين تروتسكي وستالين كصراع شخصين حول السلطة. وحتى إذا تناولنا الأمر بشكل شخصى، سنكشف بسهولة أن قدرات تروتسكي تفوق نظيره ستالين بمراحل، فعلى عكس تروتسكي، لعب ستالين دوراً هامشياً في الثورة الروسية 1917. وكما قال المؤرخ الروسى سوخانوف” إن ستالين قد ترك إنطباعاً لدى الجميع وكأنه بقعة رمادية باهتة في الثورة”. أما تروتسكي فيشهد له حلفاؤه وأعداؤه على السواء بقدراته في الخطابة والتحريض والتنظيم،، فقد نظم تروتسكي الانتفاضة المسلحة في أكتوبر1917، كما قاد الجيش الأحمر إلى الإنتصار في الحرب الأهلية 18-1921.

وحينما وضعت الحرب الأهلية أوزارها في 1921، تنامت البيروقراطية بشكل هائل في الحجم مقارنة بالطبقة العاملة، فقد كان هناك حوالى 5,9 مليون موظف بيروقراطى في الدولة، في حين وصل تعداد عمال الصناعة فقط إلى 1,25 مليون عامل.

وعندما أُعيد بناء الصناعة الروسية بعد إنتهاء الحرب، ارتفع تعداد الطبقة العاملة بشكل كبير، لكن العمال ظلوا يعانون الضعف والإرهاق السياسى بشكل كبير، علاوة على قلة عددهم بالنسبة لموظفي الدولة البيروقراط، واليأس الذى استشرى بين صفوفهم. كل تلك العوامل حالت دون خوض العمال نضالاً ضارياً ضد ستالين وسياساته.

ولذلك، فإنه على الرغم من ثقل وزن تروتسكي السياسى والاحترام الواسع الذى حظى به كقائد للثورة الروسية والجيش الأحمر، إلا أنه لم يكن هناك أى صعود جماهيري لدعمه في الوقت الذى نكلت به البيروقراطية الستالينية وطردته من الحزب ومن ثم نفته خارج روسيا.

لقد تعرض تروتسكي للكثير من الانتقادات من جانب بعض مؤيديه لوقوعه في الأخطاء التاكتيكية، مثل صمته عن أحد خطابات لينين الأخيرة التي يوصى فيها بتنحية ستالين. وصحيح أن تروتسكي ظل صامتاً في بعض الأحيان التي كان بإمكانه التحدث، وأنه قدم أحياناً بعض التنازلات التي لم يكن عليه أن يقدمها، إلا أن كل تلك الأخطاء لم تكن جوهرية أو حاسمة خلال الصراع ضد ستالين.

لقد كان مصير الثورة الروسية متعلقاً بانتشار الثورة في بقاع أخرى من الأرض، فيما كانت الرأسمالية العالمية تحاول الإبقاء على روسيا السوفيتية معزولة بشكل كامل عما يجرى في البلدان الأخرى، وهذا بالأخص ما أدى إلى صعود ستالين.

كان ستالين يستند كما ذكرنا على قاعدة البيروقراطية في الدولة، وأيضاً على ضعف وإحباط الحركة العمالية الثورية. وفي نفس الوقت فإن كل هزيمة للثورة في العالم أدت إلى تآكل الثقة والإرادة الثورية للطبقة العاملة. وكلما كان وضع ستالين قوياً، كلما استطاع بسط نفوذه السياسى على الأحزاب الشيوعية في العالم، والتي تحولت شيئاً فشيئاً إلى عملاء للسياسة الخارجية الروسية، وقد حافظت على استراتجيات كارثية لم تؤد إلا إلى مزيد من الهزائم.

وعلى الرغم من هزيمة تروتسكي في نهاية المطاف، إلا أن معارضته المبدئية قد أرست تراثاً مختلفاً عن ذلك الذى رسخه ستالين، فلقد ظل تروتسكي أميناً على الروح الديمقراطية والأممية لثورة أكتوبر. إن الفكرة المركزية لنظرية ماركس في الثورة هى أن على العاملين أن يغيروا العالم بأنفسهم أى أن ” تحرر الطبقة العاملة لن يأتى إلا بيد الطبقة العاملة”. هذا هو التراث الذى طالما استند إليه تروتسكي، وإن لم يكن قد كافح كفايةً ضد أنداده، فقد حافظ على التراث قاطعاً بشكل كامل مع ما ارتكبته الستالينية من جرائم وتحريف.

18- تراث ليون تروتسكي

هناك مبدأين أساسيين استند إليهما ليون تروتسكي طوال حياته: الأممية والاشتراكية من أسفل. واليوم مع تصاعد الحركات الجماهيرة الهالمية ضد الليبرالية الجديدة والسياسات الرأسمالية، يتنامى الوعى الجماهيري بأهمية التضامن مع مختلف النضالات على المستوى العالمى. ولقد كان تروتسكي داعماً صلباً لكل المستغَلين والمضطهَدين عبر العالم، لكنه كان يجادل دائماً أن الأممية تعنى ما هو أكثر من مجرد التضامن. وقبل عقود من نظريات “عولمة الرأسمالية”، رأى تروتسكي أنه يجب أن يُنظر إلى هذا العالم ككل متكامل – اقتصاد عالمى ونضال عالمى أيضاً.

أكد تروتسكي في كتابه “الثورة الدائمة” على أن الأممية ليست مبدئاً مجرداً، إنما إنعكاساً سياسياً ونظرياً لطبيعة الاقتصاد العالمى، وللتطور العالمي لقوى الإنتاج، والصراع الطبقي على مستوى العالم.

لقد شكلت وجهة نظر تروتسكي للعالم ككل متكامل نقطة ارتكاز لكل نشاطه وأفكاره، بما يشمل تطويره لنظرية الثورة الدائمة، معارضته للحرب الإمبريالية، وثباته المبدأي على ضرورة نشر الثورة على نحو أممي، وبالطبع انخراطه في الحركة الثورية العالمية.

وما يزيد عن ذلك، هو أن رؤية تروتسكي بالإضافة إلى فهمه لطبيعة التطور المركب اللا متكافئ يشيران إلى استنتاجات استراتيجية فيما يتعلق بالنضال ضد الرأسمالية اليوم. أصبحت اليوم أعداد الفلاحين عبر العالم أقل كثيراً من الوقت الذىعاش فيه تروتسكي وطوّر أفكاره، فلقد صار من يعملون في الأرض عمالاً زراعيين تتحكم الرأسمالية والشركات الكبرى في حياتهم وعملهم.

ومن زاوية أخرى، هناك الكثير من المدن العشوائية في بلدان العالم الفقيرة والتي تعج بالمهمشين غير المنظمين الذين يعيشون على الهامش من الاقتصاد العالمى. في تلك المدن، في أمريكا اللاتينية على سبيل المثال، فإن معظم السكان الذين عاشوا عقوداً من التمييز العنصرى، يعانون أيضاً من أقسى درجات الفقر والاستغلال. هذه الكتل الجماهيرية من العمالة الفقيرة غير المنظمة تمثل مخزناً لانفجار الطاقة الثورية، فقد ينطلقوا في تمردات أو انتفاضات هائلة ضد الاستغلال والفقر، لكن تلك النضالات تظل بحاجة ماسة للارتباط بقوة نضالات الطبقة العاملة المنظمة في المصانع ومواقع العمل والتي تتمركز في القلب من الاقتصاد الرأسمالي. وهذا الدمج بين النضالات قد يوفر فرص هائلة للثورة وانتصارها.

توضح نظرية الثورة الدائمة كيف يمكن أن تنضج النضالات من أجل الحقوق السياسية والاصلاحات الديمقراطية إلى نضالات مباشرة من أجل التحرر الاقتصادى ومن أجل سيطرة العمال على العملية الإنتاجية، كما توضح النظرية أيضاً لماذا لا يمكن إنجاز هذا التحرر بشكل كامل وبناء المجتمع الاشتراكى داخل الحدود القومية لأحد البلدان بمعزل عن العالم.

وفي الدول الأفقر في العالم اليوم، ليس هناك من حل يكمن داخل الحدود الضيقة لكل دولة على حدا. بالنسبة للقضية الفلسطينية على سبيل المثال، فإن مفتاح الحل من أجل التحرر يكمن في نضالات عمالية واسعة الانتشار في منطقة الشرق الأوسط، وبالأخص في مصر حيث تتواجد أكبر طبقة عاملة متمرسة في النضال عبر المنطقة. وهكذا فإن بناء الاشتراكية في بلد واحد يُعد أمراً مستحيلاً حتى وإن كان بلداً غنياً. وهذه الحقيق تثبت صحتها بشكل أكبر كثيراً في البلدان المتأخرة اقتصادياً.

إن التزام تروتسكي بالمبادئ الثورية لم يكن يتعلق فقط بتنظيم الانتفاضة أو الاعداد لعصيان مسلح، لكنه – مثله في ذلك مثل ماركس – كان يؤمن بأن التحرر لابد أن يأتى بأيد الجماهير أنفسهم، وفي القلب منهم الطبقة العاملة. إلا أن واحدة من العقبات التي تقف حائلاً في هذا الطريق أنه في أغلب الأحيان لا تدرك أغلبية الجماهير الحاجة إلى التحرر أو أنهم لا يملكون ما يكفي من الثقة في إرادتهم وقوتهم الجماعية لصنع ثورة. وهنا يأتى الاهتمام الجم لدى تروتسكي بالاستراتيجية والتاكتيك لبناء حركات جماهيرية واسعة لكسب قطاعات واسعة من هذه الجماهير من سيطرة الإصلاحية إلى الأفكار والنضال الثوريين.

واليوم نرى انتعاشاً غير مسبوق في الحركات الجماهيرية عبر العالم، في ظل تدهور ثقة الجماهير في الأحزاب والقوى الإصلاحية أن بمقدورها أن تقدم شيئاً لهم. في هذا السياق تُعد استراتيجية تروتسكي في الجبهة المتحدة ذات أهمية خاصة في بناء حملات عريضة ترفع مطالب مشتركة لقطاعات واسعة من العمال والفقراء. وفي كل نضال، سواء كان كبيراً أو صغيراً، تُثار العديد من الجدالات بين التاكتيكات الإصلاحية، حيث التغيير من أعلى وفي الحدود التي تفرضها الرأسمالية، وبين التاكتيكات الثورية، حيث توسيع المشاركة الجماهيرية من أسفل وتنظيم صفوف المناضلين وتحدى قيود الدولة الرأسمالية. وخلال هذه النضالات تبدأ الأفكار في التغير فعلياً.

إن التقدير الأسمى لليون تروتسكي أنه، حتى بعد أن تم طرده من الحزب الشيوعي ونفيه خارج روسيا، لم يستسلم قط لا لستالين ولا لليأس، واستمر في النضال الذى أبقى على شعلة التراث الاشتراكى الثوري موقدة حتى في أصعب الظروف، ذلك التراث الذى يستند إلى مبادئ المساواة والتحرر والأممية.

إلا أن أفكار تروتسكي، مثل ماركس من قبله، ليست دوجما جامدة، ففي بعض الأحيان لم يكن تروتسكي نفسه على صواب. فقبل اغتياله بفترة قصيرة، توقع تروتسكي أن تقع كل من الرأسمالية الغريية وروسيا الستالينية في هوة أزمة عميقة نتيجة الحرب العالمية الثانية، وفي النهاية أثبتت التطورات خطأ توقع تروتسكي مما شتت مؤيديه وأربكهم بعد انتهاء الحرب. لكن يبقى على الأجيال التالية أن تبنى على أفكار تروتسكي وتعمل على تطويرها.. لا شك أن أفكار تروتسكي مليئة بالدروس الهامة للأجيال الجديدة التي تناضل ضد الرأسمالية والحرب.. وبالنسبة لنا، كما بالنسبة لتروتسكي نفسه، فإن هذه الأفكار هى أسلحتنا الحيّة لتغيير العالم و النضال من أجل المستقبل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Israeli Weapons - To Your Left: Palestine | السلاح الإسرائيل


.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا




.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا


.. تصريح عمر باعزيز و تقديم ربيعة مرباح عضوي المكتب السياسي لحز




.. طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز