الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطريق إلى دينيتاس

خيري حمدان

2013 / 1 / 16
الادب والفن


الطريق إلى دينيتاس
خيري حمدان
توجّهتُ نحو المطار وفي جوفي غصّة، لم تكن لديّ أيّة رغبة بالمضي في هذه الرحلة الطويلة الشاقّة. أُدرك بأنّ الطائرة ستنقلني إلى زيورخ خلال ساعات، لكنّها ساعاتٌ قادرةٌ على تحويلي لرجل آخرَ مختلفٌ عن ذاك الذي عهدته حتى اللحظة. تلقيت مكالمة هاتفية من البروفيسور إيفانوف قبل أسبوع، كان صوتُه متقطّعًا وغير مفهوم، وكانت زوجته كما فهمت منها لاحقًا تمسك بالهاتف خلال ذلك. قرأتُ في الكلمات القليلة التي تفوّه بها إيفانوف الكثير من الألم والأسى. كان يشعر بالكآبة واليأس وطلب منّي بعد تردّد أن أحضر إلى مشفى دينيتاس في زيوريخ.

تربطني بالبروفيسور علاقة صداقة قديمة بعد أن أشرف على أطروحتي للحصول على درجة الدكتوراة قبل خمسة عشر عامًا، وبقينا نلتقي ونتسامر خاصّة وأن زوجتينا قد تآلفتا دون عناء. لكنّه سافر إلى فرنسا ليحاضر في علوم الفلسفة في جامعة السوربون قبل عشر سنوات، وبقي الهاتف يربطنا بين الحين والآخر. كنت أخطّط للقيام بزيارة قصيرة إلى باريس، كي نستعيد بعض الذكريات البعيدة ونتسامر خلال الأمسيات القليلة هناك. البروفيسور إيفانوف مولعٌ بالعادات الشرقية ويطيب له الاستماع للعود والتمتع بأجواء عبقة مشبعة بالبخور، كما يعشق الشعر العربي بالرغم من معرفته المتواضعة بالعربية. بقي هذا الرجل مخلصًا لأحاسيسه وكنت آمل أن أتمكن من تغيير رأيه ومنعه من المضيّ في طريه إلى دينيتاس.

- ما الذي حدث سيدتي؟ سألتُ زوجته وكنت أتوقع أن يكون قد أصيب بالسرطان لولعه وإدمانه على تدخين التبغ. لكنّها قالت كلمة واحدة بعد أن تنهّدت "الزهايمر"، ثمّ غرقت في البكاء والنشيج. لم يكن هناك بدًا لمقابلته ورؤيته قبل النهاية. إيفانوف رجلٌ عنيدٌ للغاية ولا يتراجع بسهولة عن قراراته، لكنّه الآن غير قادر على خوض معارك كلامية جانبية، لأنّه دخل مرحلة متأخّرة من المرض. علمتُ كذلك بأنّه استقال من منصبه كمحاضر قبل سنوات، بعد أن نال المرض من جزء كبير من ذاكرته. قالت لي زوجته لاحقًا بأنّني أحد القلّة التي بقي يتذكّرهم زوجها، في الوقت الذي لم يعد يتعرّف على الكثير من أقربائه. فقد القدرة على الكلام المتماسك والتحكم بإفرازات البول والبراز أيضًا، وحين كانت ذاكرته تعاوده جزئيًا كان يبكي ويطلب الرحمة ومغادرة الحياة في أقرب وقتٍ ممكن كيلا يبقى عالة على زوجته.

حطّت الطائرة في زيورخ، كانت السيدة إيفانوفا بانتظاري في المطار، عانقتها وحاولت مسح الدموع عن وجنتيها، ثمّ انطلقنا بعربة الأجرة إلى المدينة.
- ماذا يمكنني أن أفعل؟
- لا شيء ابقَ في الجوار، هو بحاجة لبعض الدفء والحميمية.
- هل يمكن أن يعدل عن قراره؟
- لقد قام بالتوقيع على كافّة البيانات قبل أن يدخل المراحل الأخيرة من مرضه، لا عودة عن ذلك، يمكنك التحدث معه في لحظة عابرة إذا تمكّن من التعرّف عليك. البروفيسور يرفض البقاء عالة على أحد. لقد دفع سبعة آلاف يورو للمشفى وحوّل ما يملكه من مال لي ولإبنه، لقد حسم كلّ شيء، لن يوافق على التراجع عن رأيه، لقد فات الأوان على ذلك، ربّما كان عليه أن يتّصل بك قبل ذلك، أعرف موقفك من الموت الرحيم. لكن، صدّقني، حياته أصبحت الجحيم بعينه. جسده شاخ وقواه انهارت خلال الأشهر القليلة الماضية، بالكاد يتذكّر بعض الأحداث أو الصور، نطق باسمك بعد عناء، وأشار بيده طالبًا أن تحضر.
- أين هو الآن؟
- في إحدى غرف دينيتاس.
- من سيقوم بالمهمّة الأخيرة؟
- أنا. قالت بعد تردّد، ثمّ نظرت نحوي بطرف عينها وهمست "أرجوك!". عندها صرخت بملء صوتي "لا"، لا يا سيدتي، لن أقدّم له كأس الموت بيدي.
- حسنًا، كما تشاء، أرجوك أن تبقى إلى جواري في اللحظة الأخيرة. قرأت في عينيها اتّهام، عتب، رجاء واستسلام. قد تعتقد بأنّني جبانٌ حقًا، قد ترى بأنّني وبحكم تربيتي وعقيدتي لا أقبل هذا النمط من الموت المبكّر، مهما كانت الأسباب والدوافع! حسنًا ليكن ذلك، لكنّني في نهاية المطاف وافقت على الحضور في اللحظة الأخيرة إلى دينيتاس، وهذا بحدّ ذاته منتهى الشجاعة. ليتها تدرك مدى الجهد الذي بذلته كي أقنع ذاتي لقطع هذا الطريق المليء بالأشواك.
- هل تحتاج لبعض الراحة، حجزت لك شقّة في فندق قريب.
- متى؟
- بعد ساعتين.
- دعينا نذهب لرؤيته أولا.

كان يقبع وحيدًا في غرفة خافتة الإضاءة، وكان ظمئًا طوال ما تبقّى له من وقت. جلست إلى طرف السرير المريح وأمسكت بطرف أصابعه، نظر إليّ ولم يعرفني، كانت عيناه مليئة بفراغ مرعب قاتل، ثمّ رفع حاجبيه قليلا دلالة على حضور صورتي لمخيلته بعد عناء. لم يتمكّن من مسك نفسه عن البكاء ولم تكن هناك ضرورة لذلك ما دام سيغادر الحياة بعد قليل. كان الطاقم الطبّي قد وضع على طرف الطاولة الصغيرة إلى جانب السرير كوبًا من عصير البرتقال. أدركت على الفور بأنّ العصير يحتوي كذلك على جرعة كبيرة من مركّب الباربيتيورات السام، الذي سيعمل على تعطيل عمل الجهاز العصبي المركزي. إيفانوف سيغادر الحياة بهدوء بعد دقائق من تناوله لهذا الكوكتيل القاتل. لن يتعرّق بشدّة بعد ذلك، قد يتبوّل للمرّة الأخيرة في سرواله، قد يخجل من جسده المدمّر وضعفه المطلق للمرّة الأخيرة، لكنّه سيمضي إلى عالمٍ آخر خالٍ من الألم الفيزيائي الذي يرافق الإنسان بصور ودرجات متفاوتة خلال مسيرة حياته طالت أمْ قصُرَتْ.

- هذا أنا يا صديقي، هل تسمع الآن صوتَ العود؟ هل تذكر تلك الراقصة التي جلست في حجرك في لحظة عشق عابرة؟ هل تذكر نقاشاتنا وجدلنا الطويل حول مصير الإنسانية وعبث الحياة! ها قد أدركت معنى العبث بكلّ ما يحمل هذا التعبير من معنى. لاحت منه شبه ابتسامة فقد كان وجهه متحجّرًا لعدم قدرته على تحريك عضلاته. نعم، فهم كلّ كلمة تفوّهت بها وكانت الدقائق تمضي قدمًا. تنحّيت جانبًا، كان من المستحيل أن أطلب منه أيّ شيء لأنّه في هذه اللحظة كان يفقد القدرة على تغيير مجرى الأمور. الشخص الوحيد القادر على ذلك هي زوجته، كانت منهارة بالكامل، من جهة كانت ترفض فكرة موته الرحيم هذا، ومن جهة أخرى كانت تتألم لألمه وإحباطه وانهياره أمام حاجز العجز الإنسانيّ المطلق. تراجعتُ خطوتين، وتقدّمت هي خطوة ثمّ أتبعتها بأخرى. امتدّت يدُها نحو الكوب، نظرت إليّ مجددًا، بادلتُها النظرات، لاحت منّي إشارة بعيدة قادمة من وعيي الباطني، كنت أصرخُ بملء صوتي الباطني "إنّه قراره وليس قرارك، حكّمي ضميرك يا عزيزتي". كأنّها فهمت ما يجول في بالي من هواجس، رفعت رأسه بعد أن منعه المرض حتّى من هذه النعمة، ثمّ بدأ السائل الشهيّ اللزج القاتل بالنفاذ إلى جوفه. كان ظمئًا وشرب القطرة الأخيرة في الكأس.

في الزاوية، ليس بعيدًا عن إطار الباب الخارجي للغرفة، كانت الكاميرا تصوّر اللحظات الأخيرة من حياة إيفانوف، كيلا يُتّهم أحدٌ بالتسبب بموته دون رضاه. مضت عدّة دقائق، تشنّج جسده بضع مرّات قبل أن يهدأ وينطفئ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض