الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجنوبيون

خيري حمدان

2013 / 2 / 3
الادب والفن


الجنوبيون
الجنوبيون يحملون في عيونهم جذوة لا تنطفئ، يقتحمون النهار، لا يملّون العشق يومًا. يقبّلون النساء قبل المغيب وعند الصباح يأخذوهنّ في أحضانهم بلهفة لا تخبو.
الجنوبيون يشعلون النار لحرق الفضاء والانتقال نحو الحلم الدافئ عنوة بالرغم من امتداد حبال الوهم عبر الصحارى، يحرقون السأم ولا يخشون انهيار الموج أو إقدام جحافل الغيم من كلّ الجهات.

كلّ فصول الجنوب صيفٌ، والشتاء يبدو أحمقًا ما أن يهلّ على المضارب، حتى يجمع أمتعته الرطبة الماطرة ويمضي بعيدًا خلف الأفق. الجنوبيون وحدهم يحدّقون بعين الشمس، يحاولون اختراقها والنفاذ من جزئها الآخر. لا يخضعون، لا يستسلمون حتّى القطرة الأخيرة من دمائهم، الجنوبيون يتقنون العشق وانتظار السلوى حتّى مطلع الفجر، لا يتنازلون قيد أنملة عن هتك ستائر الخجل والمضيّ نحو التحدّي الكامن في ثنايا النهار.

الجنوبيون يتاخمون الاتجاهات كلّها، يتحدّون المستحيل، يخترقون بأجسادهم عرين القصيدة، لا يتردّدون لحظة واحدة عن قطف عناقيد العنب، والتهام رحيقها نبيذًا صخب الحضور، يدير الرؤوس تجاه قرص الشمس، ولا ينحنون. يرفضون كلّ غوايات الشمال والغرب، يقسمون بقطع المتوسّط سباحة إذا ما انقطعت بهم حبائل العودة يومًا ما – الجنوبيون.

الجنوبيون يفتحون صدورهم، يخرجون قلوبهم من مكامنها ثمّ يشعلون النار بأنحائها، ليدفّئوا برودة الإقليم ليلا. يبكون فرحًا، يدمعون حزنًا حين ينفجر الناي بعزفه المتصاعد نحو أديم السماء. يناشد الجمال، يستجدي اللحظات الآسرة المقبلة مع البدر. يسامرون الشاطئ، يستيقظون حين ينام الكون، ثمّ يمضون نحو الحلم حين يستيقظ الملل.
الجنوبيون يندفعون نحو الغد، يأكلون التراب ولا يخونون، يعبرون قلب الصحراء عنوة ولا يغرقون في السراب سوى لوهلة يتبعها القفز فوق المستحيل. الجنوبيون يتقنون دروس العشق والرقص حول النار حين تشدّ القبيلة الرحال تجاه مضارب خاوية عذراء. يغزون كثبان الرمل، يرفضون الاعتراف بمغيب العمر، يطلقون العنان للخيل كي تنفذ كالبرق في السهول، ترتقي الجبال، تلامس قمم الدنيا وتصهل حين تقبل إناثها.

الجنوبيون لا يغدرون جزافًا، يطرقون الأبواب قبل اقتحام القلاع يواجهون الطائرات المقاتلة بسيوف مشرعة، يجرح الأثير ولا يترك صدىً لتأوّهات. الجنوبيون توقّفوا عن بسط الأردية البيضاء لكلّ من تقدّم بمشروع حرب أو قتال أو خطبة عابرة. لكن الغربان لم تفتأ عن الحضور لتشارك في الولائم المجانيّة، المشبعة بمرق لحوم الإبل والأغنام الصاغرة لحدّ السكّين صباح العيد والاستشهاد.

الجنوبيون يتألمون صمتًا يشتهون حِجْرًا دافئًا، يتحلّقون حول النار، يرقصون ويدورون بحثًا عن الذات التائهة منذ عهد الجاهلية. وحين أدركوا بأنّ للجاهلية أيادٍ بيضاء ضاعت هويّتهم وقضوا ثمانون عامًا أخرى في سيناء. لم تتمكن الأقمار الصناعية من الكشف عن آمالهم، فشلت في قراءة أفكارهم واستقراء همومهم، لكنّها حدّدت بقايا رفاتهم، لم يطلقوا النار والقذائف تجاههم – فنى الجنوبيون بعد أن فقدوا البوصلة وابتلّت أقدامهم بمياه المحيط الباردة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-