الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صلوات في هيكل حب - السجدة الثانية

رويدة سالم

2013 / 2 / 9
الادب والفن


صلوات في هيكل حب
السجدة الثانية
أفقت مع اولى خيوط الفجر. كان نومي مضطربا مثقلا بذكرى ابتسامة المناضل الذي اُغتيل البارحة وتلك المريضة المحتضرة وحيدة هناك في وطن صار غرفة موتى باردة في مستشفى حزين يترنح على حافة الانهيار.
اغتيل سياسي آخر يا وطني. انسان آخر رحل.
صبغوا ارضك التي كانت مضيافة دوما متميزة ابدا بدمائه القانية لأن أميرهم أباح حياته.
سلبوه الحياة فقط لأنه قال أرفض ان تحولوا شعبي الى قطيع يثغو وراء كل أبله بليد.
قتلوه لأن نضاله هدد ملك شيوخ البؤرة السوداء ووعد بصيص نور يكشف حقيقة الالوان المسجونة في سراديب معتمة.
لماذا تواطأت معهم وأفقدتنا مذاقا سحريا ولحنا مختلف النغمات ميزك يا وطني السليب ؟
انتهكوا مريضتي امام ناظريك واغتالوا رجالاتك واحدا تلو الاخر أفلم تكتفي بعد؟

انتابتني حالة غثيان. تنفست بعمق لكي اقدر ان اتماسك. دعكت عيوني لأرى بوضوح اكثر لكن ضبابا كثيفا كان يغشى كل شيء حولي في هذا الصباح الوليد الذي يتملص بصعوبة من اسر الليل. غمرني وأنا اتخلص من اسر الدوار والنوم احساس بأن الكون كله ينشج. أصخت السمع. تناهت لسمعي قطرات رذاذ تتساقط قارعة بلور نافذتي باحثة عمن يحتويها. سرت بجسدي قشعريرة فجذبت الغطاء وغطست فيه اكثر بحثا عن دفئ افتقده. دفئ حلمت به يوما ككل الصبايا لكني لم اكن معدة له لأن من زرع بذرتي في رحم امي جعلني اكثر ذكورة وخشونة من نصف الرجال.
هل نحن يصنع الاقدار يا وطني؟
- لا طبعا. الله من صنع الاقدار قبل خلق الاكوان كلها. هكذا ردد العم الصالح دوما لما كنت طفلة.
لماذا تحاسبنا إذا على ما لم نصنع وما لم نختر؟
صمت ثقيل لف الكون حولي. صمت قبور متهيئة لقبول جثث لا حصر لها. قبور فتح بواباتها حراس النوايا بوصاية مزعومة لحماية عرش الله العاجز عن تغيير قناعات بشر هو من منحهم عقلا مجبولا على الشك قادهم الى انكار وصاية المعممين.
أحقا تحمون عرش الله ام عروشكم يا حراس النوايا؟
حاسبتمونا على قدر لم نختره وزمن أردتم سجننا فيه لكننا رفضنا البقاء اسرى وأفكار اقنعتنا وصنعت بداخلنا قوة كنا دوما تواقين الى امتلاكها.
تهت في افكاري الحزينة كمدينتي المحتضرة بين سنديان مصالح الساسة الانتهازيين في وطني وفي كل رقعة في بؤرتنا السوداء وبين مطرقة التعصب الوهابي الذي يصدح في مساجدها قبيل صلاة الفجر.

البارحة قبل مغادرة غرفة الحالات الاستعجالية، ألقيت نظرة أخيرة على الجثة الهامدة الملقية امامي. الدم الذي نزف من ذاك الثقب الغائر المخيف في الراس كان قد جف. طغت برودة قاسية على كل الاطراف المتكلسة لكن الوجه المستسلم للمطلق بدى لي نائما بسلام تعلوه ابتسامة ساخرة. ابتسامة ربما تخيلتها لكنها ارتسمت بكل وضوح في عقلي الذي يغتاله وطني مع كل محتضر يُحمل الى قسمي.
اعرف أكثر من اي انسان اخر معنى الرحيل. لامست الموت، هذا الزائر الاقوى من قدرة اي انسان على الصراع مرات لا تحصى. رأيته يغزو اجساد مرضاي ويغتصب الحياة. رحلوا بصمت وسجلهم الوطن ارقاما منسية في سجلاته. كان رحيلهم مؤلما لأحبتهم لكنه لا يضاهي قسوة هذا الزائر الغادر الذي يتسلل خلسة الى اجساد كانت قوية صادحة بما لا يرضي حراس العقيدة. أجساد ابطال وقفوا صامدين امام طلق ناري مدبر على المسرح الكبير أمام ناظري كل الشعب والله المتكئ على أرائكه هناك في فضائه اللامتناهي.
ألا تعلمون أنهم ابتسموا لحراس النوايا المدججين بكل توحشهم الشاهرين اسلحتهم مرددين "الله أكبر"؟
اشفقوا عليهم من هوسهم وجنونهم. رفضوا موتا يغتالهم على حين غرة مرددين "الرصاصة التي ستقتلني لن أسمع صداها ايها ألغبي ولسوء حظك هي من سيمنحني الحياة".
نعم منحتهم حياة لم يكن يعرفها القتلة. قتلة اعتقدوا ان الدماء لما تجف يتوقف النبض وتتوارى الافكار الحرة المنادية بالكرامة.
كم نحتاج من الدماء يا وطني لترتوي عروقنا ونتعافى ونقدر ان نقف من جديد؟
المخاض عسير والولادة دونها الموت فمن سيحمل الطفل الصغير ويستمع باسما بترفق ومحبة لصراخات رفضه الاولى ويمنحه بعض حنان؟
غمرتني روائح الادوية وترائى لي الكون من حولي مسربلا بضمادات قانية. انتابني خوف غامض من الآتي. قفزت خارج سريري. على عجل غيرت ثيابي وتناولت فنجان قهوتي. أخذت مفاتيح السيارة وحقيبتي ونزلت الدرج جريا كعادتي.
الشارع من حولي يلفه ضباب كثيف. لاحت لي بعض النوافذ التي تضاء لبرهة ثم تنطفئ انوارها لتغرق في العتمة من جديد. بدى لي النور المتراقص بكسل كرمال فالتة من بين اصابع طفل صغير، كسعادة البشر التي قدرها أن لا تستمر أو تستقر في مكان واحد.
عانقت مدينتي المتثائبة التي تتمطى آملة ان تستفيق لتجد أن الاغتيال كان مجرد كابوس مزعج.
في السيارة، تذكرتها فجأة. سكنني وجهها الذي ارتسم في الفضاء معانقا سماء ندية بدأت تودع آخر مصابيحها المضيئة. نظرت في عيوني مباشرة وضحكت. تردد صدى ضحكتها حولي ثم سمعت صوتها يردد بدلال آثم مقلدا صوت سيدها في ساعات خلوتهما :
- أشتهيك أيتها البربرية المتوحشة.
رأيتها تقترب مني وتجثو عند قدمي كما كانت تفعل دوما لما اضطر لملازمة الفراش لفترات طويلة. تضع بين شفاهي الجافة قطعة شوكولاطة اهداها لها سيدها في ساعة ود وتتأمل وجهي الشاحب.
ملئني الشوق اليها. مددت يدي أمامي لأداعب خدها الملتهب برغبات مكبوتة فاصطدمت بالزجاج الامامي وآلمتني. انتابني الاحساس بالخطيئة ككل مرة.
كانت سعيدة كل عالم الطفلة التائهة التي كنتها في مدينة غريبة سحرتني بألوانها وتنوعها وأقصتني لاختلافي منذ اليوم الاول.
مدينة لا تزال الى اليوم تغرق في الثنائيات. مدينة لم تتعلم ان بالكون ابعادا اخرى. مدينة اغرقتها ثقافتها فلم ترى أن بين النور والظلمة ظلالا لا حصر لها.
في مدننا العربية تتأرجح شعوبنا بين عالمين على طرفي نقيض لا ثالث لهما. تجذبهم المدنيّة المتحررة من اسر العشيرة بخيوط آسرة لا يدركونها فيغرقون في سعي مهموم لبلوغ حداثة مستنسخة بلا معنى ولا قيمة ويغريهم التاريخ المرسوم على الاسوار العتيقة وفي عقول عامة الناس وعلى ابواب الاماكن المقدسة بسحر ينهل من عوالم الف ليلة وليلة فيتدحرجون نحو القاع بحثا عن امجاد وهمية غابرة ويتوهون بين صفحات صفراء بهتت خطوطها وتآكلت حواشيها وعاث فيها فسادا السوس والرطوبة والفقهاء.
في شوارع مدننا العربية يلتحفون الجبة او البكيني حسب الموسم والمصلحة وفي صالونات الادب يصولون بين نصوص مبتورة يتصدرها قال وقيل وحدث وروى وفي حلبة السياسة يتحولون كحرباء مع كل لون يطغى الى اسياد الكون بلا منازع اصحاب الحقيقة القطعية سواء يمينية او يسارية الهوى يدوسون كل شيء الاصالة والتفتح في سبيل اثبات تمايز وهمي يخفون به استبدادهم الذي توارثوه حتى صار سمة مميزة لكل الشعب الغارق في اناه رغم كل الاصوات الحرة التي تحاول ان تحد من انحداره الى الاعماق في هذه البؤرة السوداء.
شعوب شوهها تأرجحها بين ثقافة موروثة من اكثر من الف عام جعلتها هشة مترددة خائفة من كل شيء وهويات بديلة مسختها لتصير منبتة بلا جذور. في تذبذبها بين التعلق بالماضي الذي افل وتوقها للانفتاح الذي لم تعرف حدوده تاهت المعاني. لم تتعلم ان تتسامح وان تقبل كل الابعاد وان تحاسب نفسها فأغرقت في أناها العليلة انسانية الانسان. لم تتقبل الاخر لأنه مرآة ضعفها الذي لم تقدر على تجاوزه فأسرفت في اقصاء كل مختلف وكل الأقليات وحاسبت ابناءها على انتماء فكري ولون بشرة وعاهة لم يختاروها واغتالت كل مخالف لقيم صاحب الملك.
شعوب اغتالت ثقافتها المناضل البارحة وانتهكت مريضتي رغم جنون كان واضح المعالم وغيبت الرسام دون سابق اعلام لما اختطفت عصابة من الافاقين شقيقته الوحيدة من حضن مصر والاف المنادين بالحرية والعدل والمساواة.
خرجت كالكثيرات لتطالب بحقها في تقرير المصير وصناعة مستقبل افضل. آمنت انها تنتمي الي وطن احتضن منذ ألاف السنين آباءها الاوائل لكن حراس العقيدة اخرسوا صوتها. اعتلوها بشبق المهوس الذي تنحصر فتوحاته في انتهاك اجساد العذارى. حطموا جسدها بعنف الغازي الذي لا تتجاوز بطولاته الكبرى دوس النبت الاخضر الناعم النامي بخجل على اطراف النيل. قتلوها وألقوا الرفات في المزابل وعلى المنابر وصموها بكل مفردات العهر والرذيلة.
أنَّى لي ان اخبر مريضتي ان رسامها بحث عن العدالة في كل مكان قبل ان يعود محطما الى بيت هد اركانه ابناء الوطن وفي عقله يتردد صدى نباح أبي اسلام :
- نساء عرايا سافرات رايحين علشان يُغتصبوا تسعة أعشارهن صليبيات، والعشر "روتاري" و"ليونز" وأرامل ما لهمش حد يلمهم أو يخافوا منه أو يختشوا...
ما نصيبك يا وطني من عهر شيوخ الدجل القادمين من عمق ارض الرمال في البؤرة السوداء لتشويه تاريخك وأمجادك ؟

عبرت شارع 9 أفريل متجهة نحو المستشفى. تأملت كل الواجهات المغلقة وبحثت عن شكل غد مأمول في واقع على كف عفريت يطوح به في كل الاتجاهات.
في هذه المدينة المتأهبة لصراع متجدد تزداد جذوته اتقادا كل يوم، ارى طيف تلك الطفلة ذات الضفائر الذهبية والبشرة القمحية التي لفحتها شمس الحقول قادمة من اعماق الريف تتأمل المحلات الفخمة وتقف امام المقاهي والبارات الصاخبة وبقلبها الصغير الف سؤال.
بحثت في الفصل عن مكان بين زملاء ظلوا دوما غرباء. وكانت (سعيدة) الملاذ.
انتقلنا الى هذا الحي الفقير في المدينة لما صارت الارض عاقرا ولم يعد من الممكن لأبي تأمين دراسة مناسبة لوحيدته. لكن الحياة كانت أشد قسوة والعودة مهانة دونها الموت.
أذكر تلك الأمسيات، خاصة في ليالي الشتاء الباردة لما نجتمع ثلاثتنا حول الموقد، اجلس قبالتهما واراقب أبي الشارد يهز رأسه دون ان يعي ما تقوله أمي في حين تطفو صور تلك الربوع في البادية الساحلية التي أرغمت على تركها حيث كان لي اسم وكنت الاميرة المتوجة. من أعماق الذاكرة يرتفع صوت عمتي مترنما:
نينو أجمل ما شافت العـــــــيون
طفلة صـــغيرة بخدود القرعون
تعــشق ماما وبابا وما في الكون
تجري تضـــــحك، تلعب وتغنّي
يخفت صوت عمتي رويدا ويتلاشى في الفراغ ولا يبقى امامي سوى شبح رجل منهك يجلس متهالكا مكوما على بقايا فراش رث الى جانب امي كل مساء بعد عناء يوم شاق طويل. يمسك كأس الشاي الذي يكاد يسقط وعيونه النصف مغمضة تائهة تتأمل حالمة اللانهاية في حين تثرثر أمي ساردة حكايات سوق الخضار حيث تبيع في ركن قصي الخبز الذي تصنعه قبل بزوغ الشمس وأسرار نساء الحي الثرثارات اللاتي تتودد اليهن لكسب اكبر.
فجأة إختفت تلك الكومة البشرية الملقاة في اهمال في ذاك الركن لتجد أمي نفسها وحيدة في عالم بارد.
رحل أبي العاشق الابدي. عاشق ماريانا اليهودية او فتاة فلسطين كما كان يحلو لأهل القرية مناداتها في أواخر خمسينات القرن الماضي. فلسطين التي اضحت منذ رحيل الحبيبة حلم رجل افقده الزمن كل الاسلحة. فلسطين التي في تداعيها اغتالت أحلام أبناءها لأنها عجزت عن حمايتهم أو لأن التاريخ لا يحترم الضعفاء لما يسكنهم الجبن. فلسطين هذا الوجه البائس الذي اغتاله شرق ألف العيش بين ثنايا صفحاته الصفراء ويسعى اليوم لطمس كل تاريخنا تحت سواده.
هذا الشرق الداعر الذي يجتاحنا كسرطان بعد ان قدم فروض الطاعة لمغتصب فلسطين التي استقبلت في احتفالات لا تنتهي ذات ربيع ماريانا الجميلة حب ابي الابدي ولفظت وشردت بنيها وصنعت اسوار عداء وغيض بين قلب عاشق مغرم وقتلة مجهولون اغتصبوا حلمه وذكروه ان الحب لا يكون إلا لابنة القطيع المباركة ام البقية فسبي بالقوة الى ان يحوله النصر المأمول الى حقيقة.
هذا الشرق الذي وضع على رأس المنفيين تيجانا ورقية وأغرقهم بوعود لم يدركوا أنها لن تتحقق. ضارب بهم في كل بورصات العالم وربح كل الرهانات وخسروا هم كل القضية.
رحل ابي دون سابق انذار. حمل كل احلامه وخيباته وانكسارات السنين. سقط على اكداس الحجارة وأكوام الحديد الملقاة بإهمال تحت العمارة التي كان احد البنائين فيها.
وحيدة جاهدت أمي بكل ما اوتيت من قدرة. في الليل كانت تحتضنني وتبكي. تحدثني عن أحلام أبي وعن رفيقة الصبا ماريانا الفاتنة. عن حياة سلبه اياها أبوه لما رفض أن يسمح له بمواصلة دراسته في جامع الزيتونة ليحقق حلمه : ان يصير معلما.
زملائه الذين كانوا أشد فقرا وحاجة صاروا معلمين مرموقين كلما مروا به بكى قهره. تبخرت كل أحلامه فأنهك نفسه مرغما - رغم بنية تزداد هزالا مع كل شتاء - في فلاحة أرض لم تجد بالكثير.
كنت وأمي نجد ما يكفي من الوقت لنتحدث ونحلم ولكم وعدتني ان نبقى معا وأنها لن تخذلني لكنها سرعان ما تركتني لوحدتي وحِمل احلام أبي لتبحث عن الدفء في ليالي الشتاء القارصة التي تهدد كهولتها.
كهولة خطت اولى خيوطها البيضاء في شعرها الحريري الجميل فأرعبتها. كهولة ضاعفت ثقلها همسات نساء الحي وإلحاح الخاطبة الخالة فاطمة فركعت لأول طارق.
نساء الحي عالم مختلف الالوان والأشكال وجدته دوما عدائيا. تستهويني حكايته وتطربني لكني أتحاشاه.
رسمت منها مشاهد متناقضة لنساء مقهورات يستنزف رجالهن جهدهن في الخمارات ونساء اقوى من الله ذاته كالخالة فاطمة التي لا تتوانى عن العراك وكيل الشتائم لمن يأخذ مكانها في السوق او يمنعها من بيع سلعتها القذرة.
الخالة فاطمة لم تناديني يوما باسمي. صنعت لي هوية جديدة منذ ان حللت بحيها. كلما تراني قادمة بحثا عن امي تصيح :
- يا البربرية المتوحشة آش جاية تعملي في السوق. خلي المغبونة تخدم على روحها وبري روّحي لداركم.
يضحك الباعة ويهمس عم الصالح:
- ما يهمكشي فيها راهي مهبولة. خوذي يا بنتي هالتفاحة.
اقترب منه متحفزة رغم طيبته. اقف امامه وانظر اليه بجفاء. أتأمل في عيونه وقع كلمات الخالة فاطمة. اجده يبتسم ككل مرة. يربت على خدي ويضع التفاحة في يدي رغم ممانعتي المصطنعة.
أخذها واجلس امام محله على الكرسي الذي يقدمه لي وابدأ في قضمها بلذة كبيرة تجعلني انسى الخالة فاطمة ومزاحها الثقيل وأمي التي تعرض خبزها وبؤسها بكل عفوية المهمشين.
في هذا العالم الغريب عرفت سعيدة رفيقة الاحلام المحرمة لأول مرة. صبية تفوقني بسنوات كثيرة. طويلة كشجرة سرو. ممشوقة القد ورقيقة الملامح. كانت تحمل سلة من سعف النخيل. رايتها تتبادل كلمات مقتضبة مع هذا البائع وتمنح بسمات غير بريئة لذاك بجرأة مثيرة. تأملتها لما اقتربت مني. تجاهلتني ووقفت تجادل العم الصالح. سحرني لون بشرتها الصافي وصوتها العذب. عندما رحلت تبعتها بنظراتي الى ان غابت في الزحام.
في ذاك اليوم الذي صار مشوها في اقاصي الذاكرة اعادني صوت بائع الغلال الى ضوضاء السوق. سألني عم الصالح عن سبب شرودي ثم امام صمتي المطبق اخبرني انها خادمة في بيت احد الاثرياء من معارفه. رافقه الى اعماق الغرب التونسي حيث عثروا عليها في احد البيوت القصديرية المتداعية. كانت طفلة لم تتجاوز بعد السابعة من العمر. سلمها لهم والدها مقابل راتب شهري يرسل له في اول كل شهر ووعد بالاعتناء بها وتعليمها وأهمل ذاك البائس ان يطلب عنوانا او رقم هاتف.
منذ ذاك اليوم لم تعد لعائلتها ونسي الكل في اي مكان كانت تقيم.
فتحت عيوني على وسعهما وتحفزت كل حواسي وأنا اسمعه يضيف قائلا لجارنا ابو اياد

- استغرب كيف يتساءلون من اين يأتي ابناء الشوارع الذين ينبتون في ارجاء المدينة كالفطر. انهم امثال سعيدة ومن سيأتي من رحمها. ابناء الشوارع تواجدوا دوما في كل الاماكن القذرة والمنسية. اتعلم يا اخي أن الاعلام يهمل قضيتهم خوفا من النظام الذي يسعى ليبرز تونس في ابهى صورة رغم كم القيح الذي ينساب في عروقها.
تعلمت الكثير منذ ذاك اليوم يا عم الصالح واعلم الان اكثر من اي وقت مضى انهم اليوم صاروا ورقة في يد المعارضة للتنديد بفشل الحكومة في حل ازمات البلاد ومرتزقة بخسة الثمن في يد انصار الحكومة لتمكينها من الانفراد بالأغلبية في الانتخابات القادمة ولإفشال تظاهرات الأحزاب الاخرى وللاغتيالات السياسية.
لعبة السياسة في بلادنا يقودها انتهازيون همهم المنصب القيادي لا مصلحة تونس. من يصدق خطاباتهم الرنانة ووعودهم الكاذبة واهم فكلهم في اللعبة سواء.

بلغت المستشفى والشمس لم تشرق بعد. كانت المدينة ساكنة تصارع النعاس. في الطريق التقيت ببعض العائدين من المساجد وبعض المبكرين لأشغالهم مثلي. كل الوجوه كانت مترقبة واجمة او هكذا خُيل لي.
في ماذا يفكر التونسي في هذا الصباح؟
يرددون في وسائل الاعلام ان الانتخابات على الابواب لكني اؤمن ان انصار الحركة الدينية الحاكمة لن يتخلوا عن الكعكة والاغتيالات المسجلة ضد مجهول لن تثنيهم وكل المبادرات التي يقدمها من يجلس على سدة الحكم حبوب مخدرة لكن الى متى سيدوم مفعولها؟
هل يهتم من سيفوز للعبء الثقيل لبلاد منهكة ؟
ساستنا لا يهمهم العبء بقدر الكراسي والأوسمة والمناصب والحكومة الدينية تبحث عن ايسر السبل لاغتصاب اكبر حيز ممكن للفعل السياسي على الساحة ففي السياسة في كل بلدان البؤرة السوداء كل الاسلحة مشروعة مادامت تقود لفرض فكرة واحدة تقود القطيع.
الست احد افراد هذا القطيع الذي انتقد لما التزمت باللعبة منذ اليوم الذي وجدت فيه ان آماني في ارتداء حجاب لا اؤمن بجدواه فلماذا تنتابني هذه الثورة العنيفة ؟
ضعفي الذي لم احاول تجاوزه وعجزي عن الكلام أليسا انضواء اراديا تحت راية القطيع والتزاما به ؟
عجزت عن الدفاع عن نفسي او مواجهة عنف الزملاء الذين شاكسوني لإثارة حنقي وقبلت كنيتي التي رافقني منذ سنواتي الاولى بالمعهد وفي الجامعة الى ان تركتها ضجرا وحنقا على قدر لم أختره. أذكر الان لما اقف على هرم الاربعين أني مع السنوات التي مرت سريعا صرت حادة الطباع وعنيفة بشكل مضحك. ملت للوحدة هربا من ضعفي ثم استسلمت للأيام تصنع بي ما شاءت.
كان حلم أمي ان أتخصص في الهندسة كابن الجيران في حين رغب زوجها ان اكون محامية لأن المحامين يكسبون الكثير وأننا بالتالي سننتقل للعيش في حي النصر احد ارقى الاحياء بالمدينة لما نصير اثرياء. سخرت من أحلامهم وقررت كتحد وانتقام من كل العالم حولي أن اكتفي بشهادة بسيطة في التمريض.
لا اقدر ان احدد مدى الخسارة لأني لم اعد اهتم. لا اذكر منذ متى غزاني عدم الاكتراث والإذعان لسطوة الملل من كل شيء. متى رميت آخر كتاب في ركن منسي واكتفيت بما تعلمت.
لم يعد يعنيني سوى البحث عن بقايا احساس بالدهشة صار عصيا.
مع سعيدة عرفت معنى الدهشة والانبهار. الدهشة هذا الاحساس الرائع امام اشياء تفوق قدرتنا على الفهم.
في مكتبة سيدها المغلقة غالبا بأمر صارم من زوجته وجدت في احدى الزيارات أحد اجزاء الف ليلة وليلة. لما تصفحته وقرأت بعض فصوله توردت وجنتاي واحمر وجهي خجلا. ضحكت هازئة ساخرة مرددة انه كنز ثمين. ثم مكنتني في غزوات سرية لاحقة من البحث عن بقية الاجزاء وعن عناوين اخرى. كبرت مكتبتي الصغيرة المخبئة في ادراج ملابسي الداخلية. تعودنا كلما اشتد ضيقنا من التسكع في الطرقات او المشاغبات في الشارع أن اقرأ لها في حين تتمدد على السير وتغمض عيونها وتحلم.
أحببت تلك الفتاة التي تفيض انوثة وسحرا قبل ان اتعلم معاني الحب. كانت تتأملني بوجهها الصغير الذي كنت اراه يشع بهاء. تضمني بعبث طفولي ثم تقبلني طويلا على خدي قبل ان تقرر ذات يوما ان تغتصب مني شفاهي في قبلة لا نهائية جعلتني اشعر بالدوار وأتقيأ. كنت ارى نارا تسري بعروقها وتصهرني فأخاف لكن لم ادرك إلا بعد زمن طويل أن انحدار سعيدة كان قويا.
ربما هو القدر من رسم في غفلة مني أكثر الاحداث دهشة بحياتي والذي غيرني الى الابد.
لم يكن في بيت سعيدة احد غيرنا. تركتني في المكتب لتعد بعض القهوة. تجولت بين الكتب السرية واخترت احدها وانغمست في تصفحه بحثا عما يروق لصديقتي من فقرات. انتبهت فجأة الى أنها غابت طويلا. خرجت بحثا عنها. سرت على اطراف اصابعي لما سمعت همسا خافتا آتيا من المطبخ.
وجدتها هناك على الطاولة في ثوب من شيفون ابيض شفاف وعلى وجهها الطفولي ابتسامة جسورة. اقشعر جسدي. كانت تقطر ماء وتفوح منها رائحة خزامى الحقول البرية. اخترقتني الرائحة. بقيت مسمرة في مكاني اراقبها. خفضت بصري مرتبكة لا اراديا لما رايته يقترب منها.
أمسك يدها ومررها على النهد الغض الطري الثائر ثم ضغطت بأصابعه برفق على الحلمة المنتصبة فتأوهت. احتواها كلها وضمها بقوة اليه. كرهت جسدها الذي كان يحرك مشاعر غامضة فيّ. صرخت وخرجت ركضا. هربت منهما ومن نفسي.
هربت من صورة رائعة لسيد مهاب كنا نكنيه بالراوي ونختلس السمع له يسرد حكاياته المثيرة والتي تجعلنا نحلم بالعالم الاخر. عالم سحري يجمع المال والانطلاق والمتعة. المتعة التي علمونا انها محرمة وأنها نصيب الذكور في الدنيا والآخرة.
في كل مرة لما يعود إلى الديار كنت اجده منهكا لكن بعينيه وميض غريب ساحر وأنا اعشق العيون التي تحكي دون كلمات فعلية. اقف هناك طيلة ساعات، وراء كومة من الاشياء المركونة بإهمال في ركن قصي في حديقة الدار حيث يجتمع برفاقه اتأمله وأتشرب وسعيدة حتى الثمالة كل أخبار اسفاره. بهرتنا قصص عشقه لبنات فرنسا الشقروات في كل غزواته في بلاد الغرب الكافر وفتحت أمامي عالما بدأت أدرك خباياه مع بداية مراهقتي الصامتة والمحكومة بالتقاليد.
هربت من رغبتي في ولوج عالم انفتحت ابوابه امامي على حين غرة. عالم تعلمت دوما انه مدان لكن لم اعلم ان الطفولة تنتهك فيه بكل بساطة العقول الغرة واستبداد الاسياد. هربت لأن كل جسدي اقشعر عندما رأيت الرغبة الجامحة المرسومة على وجهيهما واللهب الذي يتصاعد من جسدها وكانت انفاسها الحارة تلفح وجهي وتحرقني.
لم اعد الى ذلك البيت ابدا لكن صورا كثيرة ارتسمت بعقلي وسكنت خيالي.
بعد فترة قصيرة حصل احدهم لها على عقد عمل كراقصة ومرافقة بأحد النزل بلبنان مقابل نصف ما ستجنيه لمدة سنة ككثيرات من البنات الحالمات بمستقبل افضل في الاحياء الفقيرة الغارقة في الزطلة والجهل.
هل يحق لي ان ابعدها عن النص واجبرها على النزول لأقتلها في هذه المحطة من الحكاية ؟
في كتابات الاخلاقيين les moralistes تموت كل النساء الخاطئات لكن بأي حق نسمح ان تموت الضحايا قبل ان يشنق السفلة الذين رموا بهم في اتون الضياع والتيه ؟
اعلم انها عانت الكثير هناك حيث استنزفها سوق الدعارة والمخدرات. قيل ان أميرا خليجيا اشتراها من تاجر الرقيق الذي ابتاعها من النذل التونسي وقيل انها ماتت بجرعة هيروين كبيرة اجبرها عشيق كويتي على تناولها لكني سأظل اتخيل دوما انها تعيش سعيدة بين ابناءها وزوج محب عند بعض سواحل اليونان.
يقول بعض سياسينا ان اسباب مآسينا بعدنا عن شرع الله وإهمالنا للتعاليم المقدسة. ويرفع شباب نصرة الحق عقيرتهم منادين بتطبيق الشريعة داعين الى انتخاب اهل الله.
قتلوا المناضل البارحة لأنه أراد بلادا يتساوى فيه الكل في الحقوق والواجبات. بلادا تحتوي كل مواطنيها وتمنحهم الامان والسلام. قتلوه بدم بارد كما قتلوا غيره منذ ما يسمى الربيع العربي وكما سيقتلون العشرات لكنهم لم يكترثوا ابدا للطفولة التي تنتهك وللمجتمع الذي يجوع ويبيع بناته لمن يدفع اكثر كل يوم.
هل سيحمي انصار الله لما يصلون الى السلطة ابناء الشوارع من المخدرات التي صارت رائجة في ظل غياب القانون وسيمنعون تجنيدهم لتفجيرات تستهدف ابناء وطنهم ويحولون دون تحولهم الى مرتزقة بيد من يدفع اكثر ويعيدون لسعيدة طفولة سرقها منها الحاكم الظالم والأب المهمل والثري المستغل لعرق المستضعفين والتاجر المهوس بالربح مهما تكن البضاعة التي يعرضها في الاسواق ؟
هل سيمنحون بسلطة الدين ملجأ للمشردين ولقمة للجياع وقيمة للمهمشين ما لم تتغير علاقات الانتاج اولا ويتمتع كل فرد في الوطن بحقه في الحياة الكريمة والتعليم مهما يكن جنسه ؟
سألني زميلي ايهاب لما بحت له بحيرتي :
- وهل تعتقدين ان حال البلاد سيكون افضل لو حصل اليسار التونسي هذا الطفل الذي يحبو على الاغلبية في الانتخابات ؟ هل سيقدر على تغيير الواقع بتطبيق احلامه الطوباوية في بلاد انهكها الفقر والانقطاع المبكر عن الدراسة وجشع البرجوازية الماسكة لدواليب الدولة مهما كانت ايديولوجيات الحكومات التي ستتوالى على السلطة في عصر العولمة الذي يأسرنا ؟
احيانا تكون الاجابات اكثر قسوة من السؤال فنهرب الى صمتنا والى عاداتنا الغبية نخفي بين صفحاتها خيباتنا وعجزنا.
هربت من غرفة الممرضين الى مريضتي المحتضرة. فتحت الباب واقتربت منها على رؤوس اصابعي رغم اني اعلم ان حربا كونية لن تزعجها في رحلتها الاخيرة بحثا عن حبيب انتظرته طويلا لكنه ظل غائبا.
دون كل مريضاتي لم اجرأ يوما على رفع الستار الذي يفصلها عني. اشعر بدفء يكتنفها اعلم انها لا تمتلكه لكن الاحساس بوجوده يغريني.
اقتربت منها وسويت الغطاء الابيض الذي يحمي روحا معذبة. رائحة القيح الذي ينز من حراجها رغم كل العناية طوح بي في ارجاء الغرفة ورماني على مقعد غير بعيد عن سريرها لأتهالك هناك منكسرة وبين دموعي تراءى لي وجه سعيدة. رايتها طفلة مضرجة بدمائها هناك في شارع فسيح بدون اسم مكتظ بالمتطفلين قتلها الوطن وأبناء امها.
كم قتلت الأوطان في بؤرتنا السوداء ابناءها ولم تذرف دمعا ندما ولم تحر جوابا ؟
سمعت صوتا يخاطبني :
- سيشكل موت هذا المناضل الفارق.
رفعت راسي ومن خلال دموعي هُيأ لي اني ارى مريضتي جالسة مبتسمة تمسح عن قلبي بعض أحزانه.
ما أروعك أيتها العاشقة المحتضرة حبا.
الحب يخلق الانسان فينا مهما طمرناه بالمآسي التي نبرع في صنعها.
بالحب سنبني وطنا ونصنع مجدا ونعلم بؤرتنا السوداء ان بين ثنائياتها ألوان وأطياف رائعة البهاء ساحرة.
خُيِّل لي انها تهمس:
- أتعلمين أني كنت اختزل كل اسماء النساء. امنح حياة لكل اسم. قصة مختلفة حسب الظرف. كتبت لكل انثى حكاية وجعلتها سيدة الاكوان وصرعت كل الذكورة المتعطشة لقيم الصحارى وبنيت اوطانا يحكمها الحب والانتماء لا العصبية والتمايز الاعمى؟
- وهذا الدم المراق بدون مبرر وحراس النوايا وهذا الموت الذي يجوب ارجاء تونس مهددا حضارة العشرة ألاف عام؟
- انت اليوم كئيبة جدا. بعض ابناء الوطن صنعوا كل مآسيه فلنختر اسما ونصنع له حياة تزهق على حدودها غطرسة الفقهاء والرجال عبدة القضيب وليبتسم الوطن لرحيل بعض قتلته.
- تاهت كل الأسماء صديقتي ولم يبقى بذاكرتي سوى اسمك واسم الرسام. اأتذكرين قوله : " أعشق اسمك. إنه يختزل كل النساء وأنا لا أريد إلا واحدة اسمها يبدأ بحرف سين السلام والسكينة وألف المحبة والعطاء وميم المتيم المحب وياء اليمام يطير في يم الهوى وتاء التائب التائه العائد إلى محراب عينيك." ثم لما لم يعد ذوت ببعده كل حياة. ألم تقولي في بعض نصوصك الاثيرة : "أنا الأنثى السادية التي في خلواتها ضعفت وأحبت وتاهت في عالم الأحلام الوردي متبتلة في حب حبيب ابدي اكتشفت بغيابه أن كل الأسماء كانت لشخص واحد وحياة واحدة وأن غياب غالي غالي هو أقسى نهاياتي ؟"
- لننسى الالم ونصنع الحياة. سأختار عنك. ما رأيك بعشتار؟ عشتار عصية وتموز سيلقى حتفه في البئر.
- عشتار مانحة الحياة. مأساتها صنعت ألام كل النساء . ظلت عشتار عصية لا تمنح الا ما تريد ان تمنحه ولمن تريد. قدمت تموز الى آلهة الموت لأن ذلك كان السبيل الوحيد لاستمرارها لكن الحياة على أنقاض الحبيب ليس رائعة ابدا. قتلها الالم والانتظار فنزلت للعالم السفلي لتبقى بجواره تحرس جسده وتضمد جراحه وتتلقى عنه ضربات زبانية أريشكيجال لكنه لما عاد صار السيد المطلق الذي ارسلها الى الجحيم وقتل الوطن وأقصى كل مختلف.
- قوة عشتار في ضعفها وضعفها يمكن ان يكون سلاحا يقتل كل ذكورة متجبرة. سنجعلها تنزل للعالم السفلي لإنقاذ تموز لما يصيب قلبه الوهن لكن ما ان يعود لذكورة مجتمعه الشرقي ليكون سجين هوسه الجنسي نقتله ونعيده للعالم السفلي مرة اخرى. المناضل المغتال رمز للأمل ووعد بغد افضل. أعلم انه لا يوجد بالكون أبشع من حال الاحياء الموتى والدم الذي اريق امس سيمنحهم النبض وسيظل الدم الذي سينساب بعروقهم ساخنا صارخا ان الحياة تولد من رحم الموت وان الاصوات الحرة لن تخرس اذا ما ارتفع صوتها يوما.
وقفت باسمة وقد خف حمل قلبي. اقتربت منها. كانت تغط في سباتها الطويل وأنفاسها منتظمة. مررت يدي على جبينها ثم قمت بقياس نبضها. حالتها المستقرة بعثت الامل في روحي. نظرت الى ساعتي. لقد حان وقت الحقنة وتعقيم الجراح. قمت بعملي بتوأدة وعطف. لما انتهيت القيت بعناية أم رءوم اللحاف على جسدها الهزيل ووقفت عند النافذة وتأملت البعيد.
الامل موجود دوما. ارض بلادي عطشى لم تعانق مطرا منذ سنوات. تلك الامطار القادرة على مسح جراح غائرة صنعتها السياسة والمصالح البرجوازية القذرة والتعصب والجهل. الامطار التي تداعب بذور الترفق والمحبة الغير مشروطة فتزهر الدنيا توافقا يصنع الامل ويمنح الاحلام فضاءات رحبة لتنمو وتتفتح ازهارها. الامطار التي اشعر الان أن قطراتها تقبل وجنتي تراب بلادي فيفيض حبا وشوقا للسلام مأمول وأمان منشود.
امال رحبة وأحلام وردية معطرة بشذى براءة ابدية سرقت في غفلة منا لأننا لم نقدر على حمايتها او لأننا بكل بساطة ولدنا في الزمن الغير مناسب ورضينا الاسر فلم نكن جديرين بها لكننا اليوم نستيقظ على وقع قرعاتها الاولى.
كم يحتاج وطني لقلوب طاهرة بريئة لم تتعفن بالسياسة وأكاذيب ساستنا الافاضل. قلوب قادرة على نزع فتيل الفتن التي تهز البلاد. الفتن التي نمت كشوك بري وشقت صفوف التونسيين وفرقتهم طوائف وفرقا متعادية.
هذه البلاد التي التحفت عنوة ذات شتاء مضى في احدى محطات التاريخ الذي يتقدم دوما نحو مستقبل سيكون اروع ببياض ثقيل لثلج بارد غزاها فجأة بلامبالاة قاسية تسربت اليها في غفلة .. والله في غفلة .. من ذاك الجالس هناك على كرسي العرش مراقبا سرمديا لخطايا البشر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعازينا الحارة أستاذة رويدة سالم المحترمة
ليندا كبرييل ( 2013 / 2 / 8 - 22:41 )
كانت صدمة اغتيال الشهيد شكري بلعيد شديدة ليس على التونسيين فحسب، فالمناضلون عالميو الأهداف، ينادون بإرساء دعائم مجتمع مدني يتطلع إلى السلام مع الإنسان والكون، ويدفعون من دمائهم وأرواحهم فداء لها .. يتطلع إليهم بعين الشوق كل متلهف إلى حياة إنسانية كريمة
المخزون العلماني الذي أرساه الرئيس بورقيبة في نفوس التونسيين لن يذهب هباء
مع كل ما يوصم به بورقيبة فأنا معجبة بسيرته وأفكاره وتوجهاته وأثمّن خطواته الجبارة
لن تذهب سدى تلك الجهود
ولن يذهب هدرا دم الشهيد بلعيد
فالرصاصة التي نفذت في جسمه خرجت منه لتفجر الشارع التونسي الغاضب في وجه التخلف
مقطوعتك الفنية رائعة
ظننتك تكتبين في السياسة والأبحاث الدينية ، فخرجت علينا بالأديبة الفنانة
انظري عزيزتي رويدة: كيف أن حادث مقتل بلعيد فجر الإبداع في نفسك وفي نفوس كل من رثاه
كان لموته صدى تجلّى في كتابات، والكتابة إبداع
وهذا ما كان يريده البطل، وكل الأبطال مثله
كما جرّ الموت الكبير للبطل البوعزيزي تونس لتقتلع الفساد، سيجر موت بلعيد نفس تونس لتقتلع الضوس المسوّس المنخور
فقد فاحت رائحتهم في تونس ومصر وليبيا
ودورهم آت دون شك
مع احترامي وتقديري الكبيرين


2 - حراس عقيدة وتجار بغاء
فاتن واصل ( 2013 / 2 / 9 - 09:57 )
مع السطور الأولى تصورت أنك ترثين المناضل شكرى بلعيد لكن مع استمرار الزحف بين سطورك إكتشفت أنك ترثينا جميعا ، تونس ومصر وكل بلد برزت فيه الحرية برأسها من بين أمواج القهر والظلم العاتية لتستنشق بعضا من هواء ينقذها من غرق .هذه حكاية بلادنا وحكايتنا، تمرغنا فى تراب الجهل والفقر حتى ضاع منا السبيل يوم كان علينا أن نرمى بطوق النجاة، منعنا حراس العقيدة وشباب نصرة الحق وأنصار الله من أن نحارب أعداءنا ونحمى أنفسنا، بل أنهم أراقوا دماءنا هدرا فى سبيل لا شئ.
منذ فترة طويلة لم أقرأ شيئا يهز قلبى ويعتصره مثلما حدث اليوم وأنا أتابع حكاية سعيدة وكل إمرأة ضاق بها وطنها ، قذف بها الطغاة عند أقدام تجار الرقيق .. أخذتينى من يدى وسجيتى عقلى على سرير المشفى الأبيض ولكنك سحبتينى الى صخب الاسواق وقسوتها .. تضاربت الاحاسيس داخلى وفى النهاية بقت سطورك عالقة فى عينى وقلبى.. شكرا أستاذة رويدا على هذا العمل الرائع.


3 - المكان المناسب
ميس اومازيغ ( 2013 / 2 / 9 - 10:53 )
العزيزة رويدة سالم يا صاحبة القلب الطيب لقد ادركت من خلال مضمن مقالك اليوم انك حقا الأنسانة المناسبة في المكان المناسب مقال ينظح بالمشاعر الأنسانية البريئة. مقال تنقلت فيه بين فقراته تنقل النحلة بين الأزهار البرية التي بها كما تعلمين ذات الرائحة الطيبة وأخرى ذات الكريهة وان كانت هذه الأخيرة هي اكثر ما طفت حوله فانك لم تستسلمي وترضي بالقبول بان تكون مصدرغذائك بل ما يزال الأمل يغمرك في العثور على ذات الرحيق اللذيذ انه الأمل العزيزة رويدة الذي لولاه لما ارضعت ام ابنها واعلمي انه مادام يوجد على الأرض الطيبون امثالك وهم رمز الخير فلابد ان ينهزم الأشرار.
تقبلي تحياتي(ايتها البربرية المتوحشة) هههههه


4 - متى يحين موعد الفجر
سيمون خوري ( 2013 / 2 / 9 - 11:07 )
الاخت رويدا المحترمة تحية لك نتمنى فعلا ان يتخلص الصباح من أسر الليل شكرا لك على موضوعك القيم هذا ... مع التحية لأخواتي ليندا وفاتن على مساهمتن القيمة ....سيمون خوري


5 - الاستاذة الفنانة
محمد حسين يونس ( 2013 / 2 / 10 - 03:57 )
رغم طول القصيدة و تطرقها الي مواضيع عديدة متشابكة الا ان لها جمال وعمق وعفوية وشرف ادب الشمال الافريقي كأنني اقرأ( اللاذ) لطاهر وطاراو (عرس بغل).. استرسال ممتع انصحك بكتابة الرواية .. اعجبني العمل كفن وكفكر وكانسانية مفرطة و ما اتعسك يا وطني تحرق ابناؤك النابهين ..تحيا


6 - تونس ستكون كما نريدها لا كما يريدها الظلاميون
رويدة سالم ( 2013 / 2 / 10 - 10:42 )
شكرا عزيزتي ليندا لكلماتك المشبعة بالامل
اتمنى ان يكون الطريق نحو مجتمع يحترم كل اطيافه سهلا لكن الواقع يقول عكس ذلك
المتورطون في مقتل بالعيد لا اعتقد انهم سلفيون من التيار الجهادي او اي تيار اسلامي آخر معروف بتطرفه
القتلة من صلب الساحة السياسية الفاعلة يحركون عناصر في وزارة الداخلية لخدمة مصالح خاصة
الجريمة كانت منظمة ومخطط لها هذا اكيد ولم تكن عملا اجرامي سلفيا بغاية تصفية كافر وحسب والمستفيد الاساسي هو حركة النهضة باقصاء أهم عناصر المعارضة قتلا كما ان الغنوشي ملا الحركة معروف بنزعته الاجرامية وعنفه وخدمته لاجندة قطرية وهابية تسعى الى اعادة فتح تونس ونشر الاسلام فيها على طريقة آل سعود وابن عبد الوهاب والطرف الثاني يتمثل في فلول النظام السابق الذين لا يزالون فاعلين في مؤسسات الدولة ولهم مصالح يسعون الى حمايتها ومحاسبة يريدون تجنبها
التمنِّى لا يصنع دولا ولا حضارات لكن عندي ثقة ان موروث بورقيبة سيظل صامدا
لن نقبل ان تراجع الى الوراء ولن يسمح احارا البلاد ان تتحول تونس الى دولة وهابية
مودتي واحتراماتي عزيزتي


7 - استاذتي فاتن واصل الف تحية
رويدة سالم ( 2013 / 2 / 10 - 10:48 )
شكرا عزيزتي فاتن المحترمة
اتمنى اكون نجحت في الخربشتي هذه في التعبير عن بعض ما تعانيه مجتمعاتنا من عهر على كل المستوايات وخاصة السياسية
يسعدني اني تمكنت من التأثير فيك وارجوا ان لا اكون بثثت في نفسك الياس والالم
الامل يبقى موجودا دوما ومن رحم الالام يولد فجر جديد ومستقبل منير
مودتي واحترامي عزيزتي


8 - لولا الامل لما كانت حياة عزيزي اومازيغ
رويدة سالم ( 2013 / 2 / 10 - 10:53 )
شكرا استاذي اومازيغ على تقديرك وكلماتك الحلوة
كم نحتاج الامل لنتخلص من ثقل الالم الذي يعتصرنا وهذا الياس الذي يجتاحنا كلما نظرنا حولنا وشاهدنا هذا الكم من الفوضى
يقولون ان الفوضى خلاقة فالنأمل ان تخلق ما نصبوا اليه لا ما يريدون جرنا الى اتونه
اثق ان المستقبل سيكون افضل لكني اخشى كم الدماء التي ستراق لتعبيد طرقاته
خالص احترامي استاذي الفاضل


9 - اسعدني جدا مرورك استاذي الفاضل سيمون
رويدة سالم ( 2013 / 2 / 10 - 11:05 )

اتمنى ان يبزغ الصباح ذات يوما استاذي لكن في بلداننا لا اعتقد ان انتشار النور والدفئ سيكون يسيرا كما نحلم جميعا
زوجي قريب من بعض قيادات النهضة ونقل لي استنكارهم الكبير (الذي بلغ حد المطالبه بالاقصاء) خروج رئيس الحكومة من تحت جبة الملا الغنوشي فهل في بلدان تقدس ولي الامر -رضي الله عنه وارضاه- وتركع عند ابواب الشيوخ وتأتمر بامرهم وتراهم فوق كل محاسبة يمكن ان نثق بالاتي
لنامل استاذي فبدون أمل لا معنى للحياة
خالص احتراماتي ومودتي


10 - المحترم الاستاذ الفاضل محمد حسين يونس
رويدة سالم ( 2013 / 2 / 10 - 19:10 )
استاذي محمد شكرا جزيلا لتقييمك الايجابي لخربشتي
اني احاول ان اصور ما اشعر به في الحيز الزماني الذي احضى به بما ان لي مشاغل كثيرة كربة بيت وأم وموظفة
اتمنى اقدر اكتب الرواية رغم ثقتي اني لست بالمستوى الادبي الذي يؤهلني لهذا الانجاز فمشاكلي مع اللغة العربية كثيرة واهمها اني لا اجد احيانا الكلمات المناسبة التي تعبر عن فكرتي
لكن الامل دوما موجود مادمنا نثابر فربما يوما ما
فائق احتراماتي ومودتي استاذي الجليل

اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا