الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة السلطة وسلطة الثقافة

عُقبة فالح طه

2013 / 2 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


لا شك أن صراع المثقف مع السلطة - أعني المثقف الحر لا المثقف التابع- يعتبر صراعاً أزلياً، ونحن هنا نتحدث عن المثقف بتعريف (غرامشي) وهو كل من يعمل في حقل مرتبط بإنتاج المعرفة، أو بنشرها. وربما لا نخفي سراً إذا قلنا أن إبليس هو أول مثقف واجَه السلطة "سلطة الرب" حيث رفض السجود لآدم حسبما جاء في القصة التي أوردتها بعض الأديان الإبراهيمية، فيما مثّل ملائكة الربّ الآخرون حالة مثقفي السلطة الذين انصاعوا لأمر السلطان دون جدال بل ساقوا المبررات لطاعتهم العمياء بالسجود، وعليه فقد حازوا الحظوة والتقريب والإكرام نتيجة طاعتهم وتزلفهم للسلطان، فيما دفع المثقف الحر (إبليس) ثمناً باهظاً لمجادلة السلطة والخروج عن إرادتها وذلك بطرده من الجنة ولعنه وخروجه من رحمة الرب إلى يوم القيامة.
أمّا ابن نوح الذي رفض الصعود إلى فلك أبيه، حيث مثّل والده سلطة الأب وسلطة النبيّ، حيث تشير الرواية الدينية إلى دفعه حياته ثمناً بالغرق جزاء رفضه الانصياع وخروجه عن أمر السلطان (أبيه)، فيما نجت من الغرق كل من الحمير والبغال والقردة وغيرها من الدواب والوحوش والطيور، فهي انصاعت لأمر صعودها إلى الفلك ولم تجادل سلطانها البتّة.
كما أن الفيسلسوف اليوناني سقراط (469-399 ق.م) رفض مداهنة سلطة أثينا التي وعدته بإعفائه من الموت وإلغاء عقوبة الاعدام بحقه إنْ هو ارتدع عن أقواله التي اعتبرت تحريضاً على السلطات وتسفيهاً لعقول الشباب بتوليده الأفكار من عقول الناشئة حين كان يسألهم : ما الفضيلة؟ ما الحق؟ والعدل؟ ما الخير؟...ما..؟ لكنه مات كضريبة يسددها لحكومة أثينا كنتيجة لفكره المستنير.
وفيما مثّل الشنفرى والسُّليك بن السلكة وتأبّط شراً وعروة بن الورد وغيرهم ظاهرة "الصعلكة" في المجتمع العربي ما قبل الإسلام، فإننا نرى أن الشنفرى ورفاقه ليسوا إلا مثقفين تمردوا على سلطة القبيلة ونواميسها، تلك النواميس التي ترفض القبيلة حتى مجرد مناقشتها من حيث صوابها أو صلاحيتها لزمانها، حيث دفع كل من هؤلاء الشعراء الفرسان ثمناً باهظاً (النفي والإبعاد والحرمان) حيث رفعت قبائلهم عنهم غطاء الحماية ونبذتهم ونزعت عنهم نسبها.
أمّا الحلاج (أبو عبد الله حسين بن منصور) (858-922 م) فقد دفع حياته ثمناً لفكره الصوفي حيث رأى قاضي بغداد محمد بن داود أن فكر الحلاج يتعارض مع تعاليم الإسلام حسب رؤيته لها، فرفع أمر الحلاج إلى القضاء طالباً محاكمته أمام الناس والفقهاء. فلقي الحلاج مصرعه بطريقة وحشية مصلوباُ ومقطّعاً إرباً إرباً بباب خراسان المطل على دجلة على يدي الوزير حامد ابن العباس، تنفيذاً لأمر الخليفة العباسي المقتدر في القرن الرابع الهجري، علماً أن أغلب الدراسات التي تناولت قضية الحلاج تشير إلى أن خلاف الحلاج مع السلطة كان خلافاً سياسياً أُلبس لباساً دينياً لا مجال لتفصيله الآن، فيما نال مثقفوا السلطان أمثال محمد بن داود الحظوة والتقريب عند الخليفة المقتدر نتيجة خطابهم الثقافي المتساوق مع رغائب الأمير.
كما واجه طه حسين سلطة الجامعة التي حرمته من التدريس، وسلطة الدين الأزهري الذي كفّره حين ألف كتابه " في الشعر الجاهلي" ، إلا أنه عاد وخضع (لثقافة السلطة) بعد أن اعتذر للمحكمة عما بدر منه، وأعاد طباعة كتابه باسم " في الأدب الجاهلي" مع إجراء تحويرات عليه، حيث يتهمه الرافعي في كتابه " تحت راية القرآن" بأن طه حسين استعمل أساليب الزنادقة والمستشرقين في كتاباته وأساليبه، مستشهدا بمحاضر محاكمة طه حسين، بأن ما جاء به من شك ديكارتي هو إلحاد وزندقة وهدم للأديان.
إن واقع للمثقف إذن هو إما مواجهة السلطة - ليس بغرض محاربتها- بل لنقدها النقد البنّاء الذي يؤدي إلى تصويب مسارها خدمة للأمة ومنفعتها، وإما أن يتساوق المثقف مع السلطة لينال رضاها، لكن السلطة في معظم البلدان ولا سيما البلاد العربية تأبى أن تنتظر إعلان المثقفين السلطانيين عن ولائهم، بل إنها تستدرجهم إلى شباكها بما ترميه لهم من فُتات حتى يصبحوا أبواقاً تبرر أفعال السلطة وتروّج لها في كل زمان ومكان، لأن ترويج المثقف للسلطة يؤثر في عامة الناس وعوامها أضعاف ما يؤثر فيهم خطاب السلطة نفسها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا، أي تداعيات لها؟| المسائية


.. الاتحاد الأوروبي يقرر فرض عقوبات جديدة على إيران




.. لماذا أجلت إسرائيل ردها على الهجوم الإيراني؟ • فرانس 24


.. مواطن يهاجم رئيسة المفوضية الأوروبية: دماء أطفال غزة على يدك




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا الحربية أغارت على بنى تحتية ومبان