الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السحر والعلم والشعر في سورة الشعراء

نافذ الشاعر

2013 / 2 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الشعر والسحر والعلم محاور ثلاثة تدور حولها سورة الشعراء..
فما الشعر وما السحر وما العلم؟
الشعر والسحر والعلم هي أداة الحكام في السيطرة على شعوبها، كما سنرى في تفسير هذه السورة. فنجد أن الحكام يحاولون إظهار حرية الرأي الكاذبة، وإبداء الديمقراطية الخادعة، خصوصا إذا كانت هذه الحرية لا تهدد عروشهم ومناصبهم، فإذا جد الجد وبدأوا يشعرون أنهم مهددون في عروشهم، عند ذلك يظهرون جلودا غير جلودهم، وتنبت لهم مخالب فجأة، ويتنكرون لتعاليمهم ومبادئهم التي طالما نادوا فيها، وهذا ما نشاهده في زمن الربيع العربي.
والنموذج الأول التي تطالعنا به سورة الشعراء: موسى عليه السلام مع فرعون وملائه، فإن المواجهة بدأت بينهما بالحجج العقلية، والانفتاح العقلي من الجانبين، فقام كل واحد بعرض وجهة نظره في حرية تامة، فلما أعيت فرعون الحجة اظهر جلدا غير جلده.
وكذلك حدث نفس هذا الموقف مع إبراهيم عليه السلام وقومه عندما بدأت المحاورة بمناقشة عقلية، ثم في النهاية: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) (الأنبياء68)
وكذلك حدث هذا الموقف مع نوح عليه السلام: {قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}(الشعراء116)

فما دخل الشعر والشعراء هنا؟
إننا لو رجعنا لتحليل معنى الشعر فسنجد إن كلمة "الشِعر" اشتقت من "الشعور" لأنه تمرير للإحساس والشعور من نفس إلى نفس بواسطة الكلمات والألفاظ. فالشعر هو تعبير عن تجربة شعورية في صورة مؤثرة.
ومنه قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) الشعراء 224
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ) يفيد أن الشعراء يستطيعون نقل تجارب شتى وانفعالات مختلفة إلى الآخرين؛ فيجعلوهم ينفعلوا بها حتى لكأنهم عاشوها تماماً، في حين أن الشاعر نفسه ربما لم يعش هذه التجربة، وإنما زيفها بما له من قدرة على النفاذ إلى كل تجربة وتلبسها ونقلها إلى الآخرين وإيهامهم أنه عاش هذه التجربة؛ وهذا هو معنى: (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) يعني يوهمون السامع أنهم فعلوا ما قالوا، وذاقوا ما وصفوا..
والشاعر في هذا يقابل الساحر الذي يوحي إليك من طرف خفي بأفكاره وآرائه التي تسيطر عليك وتغير تفكيرك وسلوكك دون ملاحظة منك أو شعور، ودون وعي بهذا التحول أو مصدره..
فالشاعر كالساحر يصيب المستمع بحالة استرخاء وفتور ودغدغة، ويقف به في منطقة حرجة حيث تبدأ أفكاره وآراؤه تنفذ إلى باطنه وتشكل وعيه، بعدما اخترق أنساقه الداخلية.

وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا" يعني هناك من يملك ناصية القول لدرجة أنه يغير أفكار السامعين وآراءهم، دون إدراك واضح لسبب هذا التغيير.. فقد جاء تعريف السحر في اللغة: كل ما لطف مأخذه وخفي سببه، ويقال سحره أي خدعه، ومنه قوله تعالي على لسان المشركين: (إنما أنت من المسحرين) يعني من المخادعين. ويقال للحنجرة واللهاة سحر، لأنها خافية، ويقال للطعام الذي يؤكل في الليل سحور لأنه يؤكل في الظلام

فالسحر والشعر مفهومان واسعان يدخل تحتهما في العصر الحديث كل وسائل الإعلام والميديا المستخدمة للسيطرة على الرأي العام وتوجيهه الوجهة التي يريدها الحكام، لأن السحر أنواع منها: سحر التخييل أو الشعوذة أو التمويه. ومنه السحر الذي يقابل العلم والتكنولوجيا.
وعلى هذا فالشاعر والساحر يقومان مكان القوة المادية في تحقيق النتائج المرجوة، لأن الشعر مفهوم عام وظيفته نقل شعورنا للآخرين والتأثير عليهم وقلب قناعاتهم من النقيض إلى النقيض، وتغيير الأحوال التي كانت قائمة بهدوء ورصانة واقتناع أو بدون اقتناع..

وهذا النوع من السحر كان بمثابة تكنولوجيا العصر القديم، فمن خلاله كان يمكن في الزمن القديم فعل ما تفعله التكنولوجيا في العصر الحديث، والسحرة هم علماء العصر القديم، فمن خلال السحر كان يمكن رصد أخبار شخص ما، ومن خلال السحر كان يمكن الانتقال من مكان إلى مكان، والطيران في الهواء، ومن خلال السحر كان يمكن الغوص في البحار، ومن خلال السحر كان يمكن هزيمة الأعداء، وكلما تمكن ملك من الملوك من السيطرة على السحرة كلما كان أمكنه السيطرة على الناس، فالسحرة هم علماء العصر القديم..

إذن بعد هذه المقدمة نجد أن محاور هذه السورة تدور حول اسمها وهو (الشعراء) لأن الشعراء بالمعنى الذي تناولناه، هم الذين في كل واد يهيمون، وهم الذين يتسمون بالمداهنة والنفاق والسير في ركاب السلطان حيثما سار، فيزينون له الباطل ويشوهون له الحق.
وعلى النقيض من الشعراء يقف هناك الأنبياء الذين يصدعون بالحق ولا يخشون في الله لومة لائم، ويكون قولهم صريحا لا نفاق فيه ولا التواء، واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار، ومتصفين بمحاسن الصفات الجليلة والأخلاق الحميدة، ومستقرين على المنهاج القويم، ومستمرين على الصراط المستقيم.

ومن طبيعة الأنبياء أنهم يصدعون بالحق حتى النهاية، فإما أن تلقى دعوتهم القبول ويؤمن بها الناس، وإما أن يكذبهم أقومهم فيستحقون غضب الله ونقمته..
والسورة التي بين أيدينا، تنفي أن يكون الأنبياء من قبيل السحرة أو الشعراء أو العلماء الذين يسخّرون علمهم لخدمة الحكام أو لتنفيذ أغراضهم الخبيثة في السيطرة على الشعوب..
هذا هو المحور الذي تدور حوله السورة

تبدأ السورة ببيان قدرة الله عز وجل على إلزام الناس بالهداية والإيمان:
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)

لكن حكمة الله عز وجل اقتضت ألا تكون هداية الناس بالإلزام والقهر، إنما بالاطمئنان وشرح الصدر.. فعلى سبيل المثال عندما يرى الناس معجزة تفوق التصور فإنها تدهش أبصارهم وقلوبهم وتجعلهم حيارى مشدوهين أمام هذه المعجزة.. ويقابل هذه المعجزة المادية معجزة معنوية وهي خضوع الإنسان واندهاشه من سماعه لكلام قديم في شكل عصري جديد، وهذا هو المقصود بالذكر المحدث، ومن يُعرض عن هذا الذكر المحدث قلما يرُتجى منه خير..
فكل الكتب الإلهية كانت في وقت نزولها عبارة عن ذكر محدث..
فعلى سبيل المثال "الإنجيل" كلمة يونانية معناها: الخبر السعيد أو البشارة. والبشارة هي كل خبر إذا سمعه الإنسان شعر بالسعادة والاستبشار.. وصفة السعادة والاستبشار عند سماع الكلام الجديد، صفة لا زالت تتكرر في كل زمان ومكان، ونحسها ونشعر بها في كلام الوعاظ والخطباء والمفسرين الذين يفسرون النصوص الدينية بتفسيرات عصرية، بحيث تشد آذان السامعين وتطرب نفوسهم، وهذا ما عبر عنه القرآن بكلمة (الذكر المحدث) في قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}الأنبياء2

فالذكر المحدث هنا هو القرآن الكريم، الذي لا زال يجدد نفسه بنفسه متكيفا مع الزمن الذي يوجد فيه، لا يَخْلُق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء.. لكن الكفار تعاملوا معه بنفس الأسلوب التي تعامل به الكفار السابقين مع أنبيائهم:
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)

والمعجزات في الكون كثيرة جدا لا حصر لها؛ فعلى سبيل المثال هناك معجزة في طريقة نبات الشجر والزرع:
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)

لكن ما حدث هو تبلد أحاسيس الناس أمام المعجزات وأصبح الإنسان لديه كثيرا من المعجزات يمر عليها ليل نهار لا يلتفت إليها، ولا تحرك مشاعره:
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

وتقص علينا السورة حكاية عدد من الأنبياء هم: موسى، وإبراهيم، ونوح، وعاد، وثمود، ولوط، وشعيب، ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين.. ولأن السورة ابتدأت بالإشارة إلى شدة حزن النبي على كفر قومه وتكذيبهم إياه، فقد ابتدأت بذكر ما حدث للأنبياء السابقين من أقوامهم، وان تلك المحنة وأشد منها كانت حاصلة لموسى وإبراهيم عليهما السلام. كما ركزت السورة على إظهار سلوك الأنبياء الذي يخالف تمام المخالفة سلوك السحرة أو الشعراء أو العلماء المأجورين الذين يسخّرون علمهم لخدمة أهداف الحكام في السيطرة على الشعوب..
ومن خلال قصة كل نبي مع قومه يتبن لنا أن الأنبياء مروا بثلاثة مراحل، الأولى: تلقي الوحي ومعرفة الرسالة، والثانية: المواجهة مع أقوامهم، والثالثة: عقاب الكافرين برسالة هذا النبي ونجاة من أمن به من المؤمنين.
وتبدأ السورة بقصة موسى عليه السلام، مستهلة الحديث عن بداية اصطفائه:
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)

ثم كانت المواجهة، ولما كان فرعون هو أكبر الطغاة الذين وقفوا في وجه دعوة موسى عليه السلام، حيث كان يملك منظومة إعلامية ضخمة، كما أنه يسيطر على السحرة، الذين هم علماء العصر القديم، كذلك كان فرعون يوهم الناس بأنه ديمقراطي وصاحب عقل متفتح، وكان أول شيء فعله فرعون عندما جاء موسى عليه السلام، أنه بدأ يفتش في ماضي موسى كي يضبطه متلبسا بجرم، فيعمل على تضخيم هذا الجرم الصغير وتشويه سمعة موسى وإجباره على الهروب أو على الأقل مساومته على السكوت:
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)

وبعد أن فشلت هذه الحيلة الأولى التي دوما يلجأ إليها أصحاب الأمر والمتنفذين في الحكم، اضطر إلى إظهار قناع زائف من الديمقراطية الخادعة والمناقشة العقلانية الهادئة لعله يفوز بثغرة:
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)

ولما فشل فرعون في إمساك أي دليل يدين موسى عليه السلام، وفشل كذلك في المناقشة العقلانية، لجأ إلى أسلوب ثالث وهو التشكيك في قوى موسى العقلية:
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)

وهنا تظهر بوضوح طبيعة الحكام المستبدة عندما يسيطرون على الناس، فيجعلون لحكمهم غطاء من الديمقراطية الزائفة، أو النزاهة السطحية الكاذبة، طالما كان كيانهم في مأمن من الخطر الحقيقي. فإذا تعرض كيانهم للخطر الحقيقي وأحسوا بأن وجودهم بدأ يشمله الخطر والزوال، عندئذ يكشرون عن أنيابهم ويظهرون جلودا غير جلودهم، وتبدوا طبيعتهم الشرسة المتوحشة على حقيقتها. لأن فرعون لم يعد يؤمن بعدالة أهدافه إيمانا يكفي لجعله يثق بأنه سيخرج من هذا النقاش زافرا، فقال حاسما الأمر:
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)

ثم تلوح له فكرة وهي انه لازال أمامه متسع للتظاهر بالديمقراطية أمام حاشيته وبطانته الخاصة:
قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ؟ (35)

وحينئذ ظهر سلوك الحاشية على حقيقته؛ لقد خدعهم فخدعوه حين تظاهروا بتصديقه، وعليه أن يسارع بالتظاهر بتصديق تصديقهم، وأن يجاريهم في مطلبهم، فأشاروا على فرعون أن يعطي موسى فرصة كي يعرض بضاعته أمام البضائع الموجودة في الدولة، حتى يروا من لديه البضاعة الرائجة:
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)

ثم أصدر مرسوما متسربلا بهذه الديمقراطية الكاذبة:
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)

وما يلفت النظر هو سلوك السحرة، أن هؤلاء السحرة كانوا يتميزون بشيء قلما يتميز به ساحر، حيث نرى السحرة في كل زمان يتسمون بالدجل والنفاق وإلباس الحق بالباطل..
أما هؤلاء السحرة فهم شيء مختلف، لأنهم واضحون من أول الأمر؛ فهم يطلبون الأجر من فرعون مباشرة دون لف أو دوران، مقابل ما يقومون به من جهد وعمل، فقالوا له قبل أن يبدأ التحدي بينهم وبين موسى عليه السلام:
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)

ومع أن فرعون يدعي الإلوهية، ومن المفترض أن يشعر الإنسان في حضرة الإله بالمهابة والجلال والتبجيل.. أو على الأقل يتغاضى عن المطالبة بحقوقه بصراحة ووضوح، إلا أن هؤلاء السحرة على العكس من ذلك كله يطلبون الأجر من أول الأمر دون لف أو دوران، وهذه الطبيعة الواضحة غير الملتوية صاحبتهم حتى النهاية؛ لأنه كما يقول القائل: "من أشرقت بدايته، أضاءت نهايته" فعندما انكشف لهم الحق وأدركوا أن موسى على حق، سرعان ما آمنوا به واعتقدوا بديانته التي جاء بها، وصبروا أمام هول التعذيب الذي تعرضوا له من فرعون وزبانيته..
إن هذا الأمر يكشف أن هؤلاء السحرة الذين كانوا يمارسون هذا السحر، لم يكن سحرهم سحرا من قبيل الشعوذة والدجل الذي يقوم على إلباس الحق بالباطل، إنما كان ضربا من ضروب العلم الذي يقوم على الأسباب المنطقية والفنون الدقيقة..
كما أن هذا الأمر يشير إلى شيء آخر وهو قوة المنظومة الإعلامية التي يملكها فرعون وملائه، والتي أوحت وأذاعت في كل أنحاء البلاد أن فرعون ملك ديمقراطي يحب إظهار الشخص لآرائه ومعتقده والمطالبة بحقوقه، فتأثر السحرة بهذه الدعاية الكاذبة ومن ثم كانوا واضحين يتصرفون بثقة واعتداد بالنفس من بادئ الأمر لما سمعوا عن ديمقراطية فرعون وحبه للحق:
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)

وعندما وصل الأمر لهذا الحد لم تعد تنفع الديمقراطية الكاذبة، أو الشعارات الفارغة، لأن كيان فرعون ووجوده أصبح مهددا تهديدا حقيقيا من وجهة نظره، فيجب إظهار الصرامة والحزم:
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)

وقد ركب فرعون رأسه واستبد به الطيش والنزق وبدأ يمارس الاضطهاد كأشد ما يكون لكل من يظهر الإيمان بدين موسى عليه السلام، وبدأ يتتبع المؤمنين بالسجن والقتل في كل مكان، فأوحى الله لموسى عليه السلام أن يخرج من أرض فرعون لأنه لا مجال للعيش في هذه الأرض بسلام:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)

وقد تقرر نزول العذاب على فرعون وملائه بعد تلك الممارسات التي بدأوا يمارسونها في حق المؤمنين، وحرموا من جناتهم وأموالهم وكنوزهم وانتقلت إلى المستضعفين المضطهدين، لأن أرازق الدنيا مقسومة بقدر معلوم، كما يقول الله عز وجل: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}(الحجر21) فهو ينقلها من أيد قوم جاحدين إلى أيد قوم شاكرين:
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)

ولم تكن الجموع التي خرجت مع موسى عليه السلام على يقين راسخ بأن الغلبة ستكون لهم، لأنه خرج معه كثير من الناس متابعة لآبائهم وأقربائهم، وحبا في التغيير والتبديل، وأيضا إعجابا بشخصية موسى وبطولته التي ظهرت لهم في مواجهته لفرعون، فلم يكن أكثرهم على يقين وإيمان:
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)

وكان موسى يدرك هذا الأمر، ويدرك أن من معه من الجموع تحتاج لتربية إيمانية طويلة بعيدا عن تأثير فرعون وقوانينه، ولذلك اقتصر موسى على نفسه، تعريضا بهم، عندما نسب معيته إلى الله دون من معه:
إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
وهذا يختلف عن قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان في الغار هو وأبو بكر رضي الله عنه فقال: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا)(التوبة40)

وبعد أن انتهت السورة من سرد قصة موسى مع فرعون وقومه، شرعت في سرد قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه، لأنهم يشابهون قوم موسى في إبراز خبث نفوسهم والافتخار بعبادة الباطل والابتهاج به:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)

فقد كان المنطقي أن يجيبوا على سؤاله: ماذا تعبدون؟ أن يقولوا: نعبد أصناما وكفى! لكنهم أطنبوا في كلامهم زيادة في التفصيل والبيان بأشياء لم يسألهم عنها ولم يطلبها منهم، (قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ)، وهنا يسألهم إبراهيم عليه السلام:
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟(73)

وقدم النفع على الضر هنا، وهذا هو الملاحظ في كل الآيات التي تتحدث عن عبادة المشركين للأصنام من وجهة نظرهم، لأن أهدافهم أهداف نفعية دنيوية.
أما عند الحديث عن الأمر بصورته الحقيقية؛ فإنه يقدم الضر على النفع كما يقول: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً، وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً)(طه89)، وقوله: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ، ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً)(المائدة76) وقوله: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً)( الفرقان3).. لماذا قدم الضر على النفع هنا؟
لأن المشركين اتخذوا من دون الله أصناما يعبدونها، وهي جمادات، ولكنها مع ذلك لا ترضى أن يتخذها المشركون آلهة تعبد، فكأنها تريد أن تضر نفسها بأن تتحطم، كي لا يتخذها المشركون آلهة من دون الله، ولكنها لا تملك هذه الإرادة في ضر نفسها لو أردت ذلك، كما يقول عز وجل: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ..)(الشورى5)

قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)

وانظر إلى لباقة إبراهيم وأدبه العالي في انتقاء ألفاظه وكلماته، حيث قال: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) ولم يقل (فإني عدو لهم)؟ وذلك حتى لا يُظهر العدوانية من نفسه أولا، وحتى لا يفهم أحد أن نفس إبراهيم تنطوي على الكره والعدوان.. إنما الأصنام هي التي جلبت العداوة أولا وليس إبراهيم عليه السلام؛ لأن نفوس الأنبياء لا تطيق أن ترى الشرك متفشيا في الأرض، وهذا ما أشار إليه بقوله: (عَدُوٌّ لِي) ولم يقل (عدو لكم) لأن المشركين رضوا بهذه العبادة وأحبوها وطابت بها نفوسهم.

وانظر إلى لباقته في قوله:
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
فقد نسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله عز وجل، فقال: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) ولم يقل (وإذا أمرضني فهو يشفين؟)

أما عندما تحدث إبراهيم عليه السلام، عن الموت فإنه نسبه إلى الله ولم ينسبه إلى نفسه، فلم يقل: (وإذا متُّ)، إنما قال:
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
لماذا؟ لأنه لا يوجد شخص يحب الموت ويسعى لملاقاته، إنما الموت هو الذي يلاقي الإنسان رغما من تجنبه والفرار منه، كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ)(الجمعة8)

وانظر أيضا إلى لباقته عليه السلام في قوله:
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
فإننا نلاحظ أنه لم يحكم على ربه بأن يغفر له، لذلك لم يقل: (والذي يغفر لي خطيئتي) إنما قال (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ) يعني يطمع كما يطمع العبد في فضل موالاه، وليس له استحقاق عند الله واجب التنفيذ. وهذا على عكس سلوك السحرة مع فرعون الذي يدعي الإلوهية، حيث اشترطوا عليه الأجر أولا مقابل ما يؤدوه له من خدمات: (وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ)(الأعراف113)

ثم يدعو إبراهيم عليه السلام، ربه أن يرسل في آخر الأمم رسولا متحدثا بلسانه، مبينا حقائق التوحيد في نصاعة وجلاء:
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)

وليس معنى الآية أن إبراهيم يدعو الله عز وجل أن يجعله لسان الصدق، لأنه لو كان معناها كذلك لقال: "واجعلني لسان صدق في الآخرين" لكنه قال: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) يعني يارب اجعل في الآخرين نبيا يكون صادقا معبرا عن حقائق التوحيد، وموضحا مكانتي وعقيدتي توضيحا صادقا خاليا من كل شائبة؛ فاستجاب الله دعوته بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين.

وهكذا يتضح، من خلال كلمات إبراهيم الموجزة، سلوك الأنبياء في جلاء ووضوح، وكيف يختلف سلوكهم عن سلوك السحرة والشعراء اختلافا بينا. وهنا يلخص إبراهيم عليه السلام في إيجاز هذه العقيدة الصافية الرائقة، وهي أن الله سبحانه وتعالى منه الخلق والهداية، ومنه الطعام والشراب، ومنه المرض والشفاء، ومنه الموت والحياة، ومنه المغفرة والصفح عن الذنوب، ومنه إجابة الدعاء، بشرط أن نخلص له سبحانه ونطهر قلوبنا من كل مظاهر الشرك والانحراف:
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)

وبعد ذلك تلخص الآيات عاقبة الكفار يوم القيامة في تشابه كبير مع عاقبة فرعون وقومه التي جاءت في الآيات السابقة، فهنا تقول الآيات:
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)
وهناك قالت الآيات: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ)
وهنا تقول الآيات:
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
بينما هناك قالت: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
وهنا تقول الآيات:
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
وهناك قالت الآيات: (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) وهو مقابلة بين طرح فرعون وجنوده في الماء، وبين طرح الكفار في النار كما يطرح الماء من الكوب على الأرض، يقال كب الماء يعني أراقه، وكبه على وجهه صرعه وقلبه.

ثم تبدأ السورة بسرد قصة نبي الله نوح عليه السلام، وكيف يختلف سلوكه كنبي عن سلوك السحرة والشعراء، لأن من سلوك الأنبياء المخالف لسلوك الشعراء بذل النصيحة الخالصة لوجه الله عز وجل:
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)

والأنبياء لا يسعون للحصول على الأموال والعطايا:
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)

كما أنهم لا يختارون الأشخاص بسبب أموالهم ووجاهتهم، إنما بسبب تقواهم وقوة إيمانهم:
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)

كما أن الأنبياء لا يجرحون مشاعر الفقراء المؤمنين من أجل إرضاء غرور الأغنياء الكافرين:
وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)

وهنا تسقط الديمقراطية الزائفة التي يعلقها الحكماء كواجهة يتغنون بها طالما لا يشعرون بالخطر الحقيقي يهدد مراكزهم وكراسيهم:
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)

ثم تكون العاقبة والنهاية التي تلحق دوما بالمكذبين:
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ(120)

وعلى نفس نمط قصة نوح عليه السلام، تجيء قصص الأنبياء جميعهم في هذه السورة؛ حيث يركز مضمون كل قصة على ثلاث نواحي، الأولى: مخالفة سلوك الأنبياء تماما لسلوك السحرة والشعراء. والناحية الثانية: ضيق صدور أقوام الأنبياء بمقارعة الحجة بالحجة، والناحية الثالثة: استحقاق الأقوام المكذبين لعذاب الله ونقمته بعد يأس الأنبياء من صلاحهم وإصلاحهم.

ثم يأتي ختام السورة مبينا حال النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه، فتبدأ ببيان حقيقة الوحي الإلهي الذي ينزل عليه، وأنه ليس من قبيل السحر ولا الشعر:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)

وكل الكتب السماوية السابقة أشارت إلى هذا النبي:
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)

ثم تكشف الآيات عن حقيقة قلوب المشركين الجاحدة، وأنهم يعرفون الحق وينكرونه عنادا واستكبارا لأنه مختوم على قلوبهم الكفر بأعمالهم، لأنه عندما كان النبي العربي يقرأ القرآن بلسان عربي مبين، كانوا يقولون بدون اقتناع: إن القرآن من اختراعه، لأنه عليم باللسان العربي. أما لو جاءهم رسول أعجمي، لا يعرف من العربية حرفا، فقرأ عليهم هذا القرآن بلسان عربي أيضا، فلن يؤمنوا كذلك:
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ(199)

كذلك لو أن هذا الرسول العربي قرأ عليهم قرآنا أعجميا لا يعرف منه حرفا، لكفروا به، ولتمحّلوا لجحودهم عذرا قائلين:
( لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟!) (فصلت44)

هكذا يتخذ هذا المنطق الأعوج مسالكه في قلوب الجاحدين. ولا يستقيم تفكيرهم الأعوج إلا عند رؤية العذاب الأليم، الذي يأتيهم بغتة وبدون انتظار، فيطلبون فرصة ثانية للإيمان:
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)

وهذا الوحي الإلهي لا يتيسر للشياطين الاطلاع عليه أو حمله؛ وهو ليس كما يزعمه الجاحدون أنه من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة، لأنهم لا يستطيعون إنزاله أصلا، لأنهم عن استراق السمع ممنوعون بالشهب، ومعزولون بانتفاء المشاركة بينهم وبين الملائكة في قبول الاستعداد لفيضان أنوار الحق، لأن نفوس الشياطين خبيثة شريرة، ليست مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه، من فنون الشرور والرجم بالغيب.. فمن أين لهم أن يحوموا حول القرآن الكريم، المنطوي على الحقائق الغيبية الرائقة، التي لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة الكرام:
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)

وتبين الآيات مخالفة سلوك الأنبياء لسلوك السحرة والشعراء، من حيث صراحتهم في الجهر بالحق حتى بين أقرب المقربين إليهم، إذ الشاعر والساحر، برغم علمهما بالحق، قد يتساهلان مع قرابتهما وأحبابهما ويغضا الطرف عما يجب عليهم من التزامات، كما أنهم يتعالون على تلاميذهم ومريدهم كلما أدركوا شدة حاجتهم إليهم:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)

ولو اقترف أتباع الأنبياء ذنبا من الذنوب، فلا يجب على النبي أن يكره الشخص لذاته فيحتقره ويبغضه، إنما يجب كراهة العمل السيئ الذي عمله فقط، فيقول: "إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ" ولا يقول: إني برئ منكم:
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
وهذا هو نفسه ما جاء على لسان نبي الله لوط: (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ) (الشعراء168) يعني أكره أعمالكم ولا أكره أشخاصكم.

ووحي الأنبياء يخالف تماما أفكار الشعراء؛ فالشاعر أو الأديب يشبه الصائد الذي يُلقي بشبكته في البحر ليصطاد، حيث يُلقي بسمعه ليصطاد الفكرة المبدعة، ولا يمنعه حب الإبداع والظهور من الجري خلف أي فكرة تلوح له من بعيد أو قريب، مهما كانت هذه الفكرة خبيثة أو سيئة. فهو يُلْقي سمعه لها كما يُلقي الصائد شبكته، عندما يلوح له الصيد. وأمثال هؤلاء هم من تكون قلوبهم محطات لنزول الشياطين، فهذه القلوب تبحث عن الشياطين والشياطين تبحث عنها:
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)

أما أتباع الأنبياء فهم يختلفون عن أتباع الشعراء كذلك، لأن الشعراء لا يتبعهم على باطلهم إلا الغاوون، فإنهم يصغون إلى باطلهم وكذبهم، في تمزيق الأعراض والقدح في الأنساب، ومدح من لا يستحق المدح، وهجاء من لا يستحق الهجو.. ولا يستحسن ذلك منهم إلا الضالون عن طريق الرشد، الحائرون فيما يفعلون ويذرون، فلا يستمرون على وتيرة واحدة فيما يقولون ويفعلون، بخلاف أهل الرشد، المهتدين إلى طريق الحق، الثابتين عليه:
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)

والهائم: هو الذاهب على وجهه بلا مقصد، وهو تمثيل لذهابهم في كل صنف من القول. وجاء الخطاب هنا بقوله: (ألم تر) لأن حالهم من الجلاء والظهور بحيث يشاهدهم كل إنسان متى تجرد من الأهواء.
أما الأنبياء فإنهم صادقون قولا وعملا، ظاهرا وباطنا، فكرا وسلوكا، بخلاف الشعراء الذين تخالف أقوالهم أعمالهم غالبا:
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

اللهم ثبت أقدامنا على المنهاج القويم، حتى نلقاك يا أرحم الراحمين. آمين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: مقتل مسؤول في منظومة الدفاع الجوي لحزب الله بغارة إسر


.. قبيل عيد الفصح.. إسرائيل بحالة تأهب قصوى على جميع الجبهات| #




.. مؤتمر صحفي لوزيري خارجية مصر وإيرلندا| #عاجل


.. محمود يزبك: نتنياهو يفهم بأن إنهاء الحرب بشروط حماس فشل شخصي




.. لقاء الأسير المحرر مفيد العباسي بطفله وعائلته ببلدة سلوان جن