الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تَشبَهي العيد في بَلَدْنا

عفيف إسماعيل

2013 / 2 / 13
الادب والفن


::
صدفة مجيدة جعلتني أشهد ميلاد أغنية "تشبَهي العيد في بلدنا" الفارعة، من أشعار الشاعر محمد الحسن سالم حميد، وألحان وغناء الفنان المتجدِّد عاطف أنيس، الذي تَغنَّى من قبل بالعديد من أشعار حميد منها: (الطائر)، و(عاش متَّزن ونبيل)، و(إتيقَّنتَ من تَالاك).
في أبريل من العام 2012م تلقَّيتُ دعوةً من جامعة نيويورك لتقديم ورقة عن مسرحيتي للأطفال "الساحر الإفريقي" ضمن أوراق عمل مؤتمر يُعنى بمستقبل مسرح الطفل، نظَّمته تلك الجامعة العريقة، كان برفقتي المخرج الأسترالي جيرمي رايس، الذي أخرَج المسرحية في العام 2010م لشركة "براكنغ جيكو" لمسرح الأطفال بغرب أستراليا. سعدتُ بالدعوة لأكثر من سبب: إنها المرة الأولى لزيارة أمريكا، التي يقولون أن لا مثيل لها بين البلاد!، وهل ما زالت في عهد أوباما هي نفسها ذات العماد؟، فضلاً عن تمديد خطواتي في الكتابة المسرحية إلى قارّة أخرى، والالتقاء بمجموعة من المهتمّين بصناعة مسرح الطفل على مستوى العالم. وأهمّ من هذا وذاك لقاء مجموعة من الصديقات والأصدقاء بأمريكا، وأوّلهم الصديق الفنان عاطف أنيس وأسرته المكوّنة من رفيقة الفرح والألحان والغُربات المستطيلة الأستاذة غادة محمد موسى "بن بن" وصغيراهما" أُلفة ونزار".
ليس هناك أجمل من لحظاتِ تواصُلٍ إنساني مع مَن تحبّ من الصديقات الأصدقاء، وتلك الرفقة الملهِمة، التي تعيد الماضي بكلّ سطوع حنينه وألق رحابته التي تعجّ بنحل ورحيق سيرة الصديقات والأصدقاء، في الشتات الغجريّ في جهات الأرض، بعد هبوط الطفابيع بأرض كُوش، وأيضاً تأمل ماذا فعلَت سُخرة العوالم الجديدة في المنتوج الإبداعي للمهجّرين قسراً، وكيف وُلدَت هذه الإشراقة البارقة أغنية "تَشبَهي العيد في بلدنا" التي تشكِّل انطلاقةً جديدةً في مشروع الفنان عاطف أنيس الغنائي، الذي تُجمِّله أغنيات كثيرة لعدد كبير من الشعراء منهم: محجوب شريف،، وأزهري محمد علي، ومحمد طه القدال، وخالد عباس، ونجلاء عثمان التوم، وميرغني الماحي، وودبادي، ود.طلال دفع الله، وعماد حسن.
منذ أن حطَّت الدابّة الحديدية التي تطير بين المحيطات رحالَها بمطار جون كنيدي الدولي بنيويورك، ظلَّ صوت عاطف من واشنطون يتبعني بحنوٍّ في كل خطواتي، وتَطول مكالماتنا الليلية حتى يدرك شهرذاد الصباح، فأنام على صوته لأصحو عليه باكراً أيضاً، قبل أن يرنّ جرس ديك الحداثة بصوت معدنيّ من فخر الصناعة الصينية. ويتَلْفِن عاطف للأصدقاء بنيويورك للعناية بي. هل قلتُ شكراً لمنتصر صديق "بِسْتِم"، وعلى تلك النهارية الوريفة بنيويورك إذْ تجوّلتُ معه في كلّ محطات عمله مع المنظّمات الإنسانية في إفريقيا، وحملتُ عنه هديته من إلى صديقه عاطف أنيس؛ عود عِراقي جديد وأوتار ألمانية الصنع، دَوزَن بها عاطف في ما بعد أغنية "تَشبَهي العيد في بلدنا".
في محطة قطار واشنطون تعانقنا كَرْفَة وقَلْدَة وضحكة ودموع، لم يتفهّم أطفال غادة وعاطف "أُلفة ونزار" أسباب هذه الدموع، وتلك العبرات الخانقة، بعد أن تسبَّب هذا الغريب في تأخير مواعيد نومهم المقدَّسة، بل هما مجبران على مخاطبة هذا الرجل الغريب الذي احتلّ غرفة "أُلفة" بكل أدب واحترام بـ"عَمُّو". لا أدري متى نمنا ومتى صحونا، كل الذي أعرفه أن هناك مُسامرة ممتدّة بيينا لم تنقطع، كان كلٌّ منّا كأنه وَجَد تلك الآنية الفخارية، وخرج له منها مَن يقول له: شبيك لبيك أنت في أسعد لحظة لديك. أو وجد ذاك المصباح السحري الذي حقَّق لي أن أكون جالساً في أمان الرّفقة الطيبة ودفء أسرة عاطف. في مساء اليوم الثاني، يحضر عاطف العود، وبيُسراه ورقة دَبّوستها في الناحية اليمين، عكس دبابيس أوراق الخواجات التي كنتُ أتصفّحها طيلة أيام مداولات المؤتمر بنيويورك، فأدركتُ أنني مُقبل على حالة سودانية خالصة وخاصة، فأحضرتُ سريعاً أدوات توثيقي التي لا تفارقني؛ كاميرا ومسجّل صغير يستطيع أن يلتقط فرفرات النملة في بطن أمها قبل أن تُولد.
- تعرف النص دا طبعه لي حمّيد بيدّو في آخر زيارة لي لبلدنا، وهذا التصحيح بقلمه أيضاً!.
قال عاطف وهو يمدّ لي بالورقتين بحرص درويش لا يريد أن يفسد حجاب شيخه، بنفس العناية تناولتُ الأوراق، وبدأت أقرأ بعينين صامتتين، وعاطف يدوزن أوتاره:
- الرطوبة دي هنا ما بتخلِّي الأوتار في حالا كلُّو كلُّو، لكن منتصر صديق دا الليلة عمل فيني خير كبير بالأوتار الألمانية دي.
كنتُ في تلك اللحظات أتجوَّل مع عوالم حميد في نصه الموسوم بـ"عَضُم ضَهَر المعْزَة" الذي أكاد أن أشمّ منه رائحة طمي النيل، وعَرَق الناس، وصراخ الأطفال وصخبهم، وغابات النخيل تُطعم أهلها بت تمودا والمدين، وترسل لنا في الأطراف البعيدة من البلد الجَاو والبَرَكاوي، كي يصير عصيراً معبأً في زجاجات شفّافة يشفي أو يشقي ليل الساهرين، أو قُنديل يزيّن صحناً من بليلة الكَبْكَبِي يتناولها الصائم أولاً كي يعلن انتهاء يوم طويل من المشقّة الطوعية، أو يجلس بكلّ جلال مع حلويات مستورة ينافسها بلونه العاري تماماً، مثلما ينافس حميد نفسه عندما يمزج، في هذا النص، بين هموم العام الخاص في كوب سوداني مضياف، يقول لك هَيت لك، بطعم رايق ينتشر سريعاً في الروح والقلب وبين تجاويف الذاكرة. وأنا أعاظل فخاخ حمّيد الرحيمة، وأتقافز من هناك إلى هناك، مثل طائرٍ جاء من رحلة بعيدة ورَكّ على غصن، تلعب تحته جوقة من الأطفال المرحين، يعدون وليمة للشغب ضد السائد وعلى مزاج ممراحِ من الود والمشاكسة التي تنتهي بدمّل يظلّ علامةً مدى العمر وبصمةً في الذاكرة وضد النسيان، يا للحمّيد الشاعر!، يا لفداحة الغياب!، كم من السنوات الضوئية سوف تنتظر هذه الأرض الطيبة كي تنجب مثلك مرةً أخرى؟!.
انتبهتُ إلى أن عاطف تجاوز مرحلة دَوْزَنة أوتار العود إلى منطقة أخرى أكثر انسجاماً، وصار يعزف مقدّمة موسيقية للَحن جديد لم أسمعه من قبل!، لحن به نداء غامض وحنين، وتوثُّب خافت لشخص يسير في نومه، أو في آخر مراحل الكابوس، والنائم في ملكوت الاختناق يتعرّق بكلّ مسامه، يعرف أنه كابوس، لكن لا أحد يسمع صوته الصارخ غيره، تتردّد أصداؤه داخله. ثم جاء صوت عاطف مثل أمواجٍ تتعرَّف على اليابسة لأول مرة، تغازلها وتحتضنها، ثم تزحف فيها لتتمدّد بلا ضفاف، صوته الراعف بالحنين صار يُهدهِد روحي، سريعاً أغلقتُ غرفة الدموع بذهني حتى لا تُفسِد عليّ بهجتي وتُضيف طلّسماً آخر لـ"أُلفة ونزار"، ثم أغلقتُ الغرفة المجاورة لها، التي تخصّ التأمّل والمقارنة والمقاربة، وتسكنها كلّ معارفي النقدية، لم أكتَفِ بإطفاء الأنوار بها، بل أغلقتُها بطبلة إضافية مَسُوكَرة وتَرْبَاس له صرير، سريعاً أغلقتُ غرفة الزمكان أيضاً، حتى أحتملَ ثُمالة تلك اللحظة الفريدة، حينها تركتُ نافذةً وحيدةً بجدار روحي. رويداً رويداً دكَّت أمواج صوت عاطف الهادرة جدارَها، ودحرجت قلبي مثل كُرة يتقاذفها صغارٌ لأول مرة، عندما بدأ يشدو بـ:
يا شِدِيرْ الخِيرْ في صَنَّكْ
يَاكْ سَرَابَاتِي البَظِنَّكْ
والشُّمُوشْ طَعَمَنِّي حِنَّكْ
يَاتُو رِيْحْ تَنْتِفْنِي مِنَّكْ
يَا مَوَاثِيقِي العَلِيْهِن
تَاكُلْ اَحْلامِي العَدِيلَة
زَيْ شَرَفْ تَكَّايُو إنْتِي
يَا شَرَفْ كَمِّينْ قَبِيلَة
خُشِّي سِعْنَ البِينَّا كَنَّكْ
يا هَجِيرِيَّة وظَلِيلَة
..
ثم...
صارَ قَبلي يحجلُ مصفِّقاً مع الدَّلِيب، وصوتي يردّد كورس:
هِيْلا يَا أَبَنُوسَةْ هِيْلا
هِيْلا يَا أَبَنُوْسَةْ هِيْلا
وتلك اللحظة صنعتها عبقرية المبدع عاطف أنيس، وحقَّقتها بمهارةٍ، بأن جعل هذا المقطع من الأغنية أليفاً، وبه مساحة مشاركة لمتلقٍّ مثلي؛ يمتلك صوتاً أجشَّ يصلح لسائر الأغراض الجهيرة عدا الغناء، لكن عذوبة اللحن وتحريضه لا تترك مجالاً للتفكير في مثل هذه الترّهات. تلك لحظة يصنعها الفنان بعذوبة تجعل كلّ روحٍ مفردة تظنّ أنها قادرة على فعل سابع المستحيل، وهو الغناء. وكنتُ مثل عنقاء أنفض الرماد عن صوتي أدندن معه. وثَمِلَ عاطف بلحنه، وصوت "غادة بن بن" يعلو يسانده من بعيد، وصار يردِّد المقطع الأخير بلا توقّف، وكنتُ ثملاً به إلى حدٍّ لا يُوصف، وتمنيتُ أن لا يتوقَّف أبدأ عن غناء ذاك المقطع. أين أنت يا مصباح علاء الدين السحري، وتلك الآنية الفخارية التي تسجن من يجيب الأمنيات؟، أين هم كلّ جدودي الميامين لَحّاقين البعيد؟، أتمني أن يظلّوا بعيدين ولا ينجدوني من غرَقي في تلك اللحظة الماتعة حدّ التعتعة، فهذه الرسالة التي أبرقتُ بها لهم في ذهني كاذبة؛ ناموا في ثباتكم الأبدي آمِنين، ودَعوني أغرق..أغرق.. أغرق ولا تدركوني.
::
في مساء اليوم الثاني كان لي حظٌّ آخر مع أغنية "تَشبهي العيد في بلدنا" حين دلفنا إلى منزل الأستاذ عدلان عبد العزيز، الذي أشرق وجهه مثل قدّيسٍ تَوحَّد في حب الناس والأرض. كان برفقتي من أبناء مدينتي الحبيبة الحَصَاحِيصَا؛ الصديقان الشقيقان أنور وبدر الدين الحاج، ووجدنا هناك الموسيقار يوسف الموصلي، مثل بستانٍ من المحَنّة يبتسم، وهو يعانقنا واحداً تلو الآخر. ويعلو صوت صلاح الزين مُرحِّباً مختزناً ذاكرة كل كرَّاكات الجزيرة، لتختلط عليَّ الأزمان، وتأتي الذكريات كلها دفقةً واحدةً، بعضُها ملطَّخ بالغبار والطين وتُرَع مشروع الجزيرة وضفاف الأزرق، ثم امسيات خرطومية في زمن ديموقراطي علي نجيلةإتحاد الكُتاب، وأخرى أنيقة تتوالى سينمائياً من سيناريو مُوازٍ لا أستطيع التحكُّم به، يجدلها نصّ الصديق أيوب مصطفي "وَانْجَا" الذي تدفَّق في تلك اللحظات بالذاكرة كله دفقة واحدة بصوته الوسيم، متضمّناً إهداءَه إلى صلاح الزين ونجوي الفكي.
::
وانطلقَت تلك المقدّمة الموسيقية، ذات الجينات التي تنتمي إلى الحنين وما جاوره من مشاعر. لمحتُ ملامح الموسيقار الموصلي تصفو بشكل ملحوظ، وهو يغمض عينيه بهدوءٍ ينتمي إلى ما أرادَ أن يغوص فيه من مكانٍ يخصُّه بعيداً عن تلك اللحظة المشتركة بدفء الأصدقاء. وعندما انطلق صوت عاطف أنيس، فارضاً مهابته على تلك اللحظات، رأيتُ أثواب أنور الحاج، التي رأيتُه بها طوال مراحل معرفتي به، تتبدّل سريعاً وتختفي، كأن هناك مصمّم ماهر يجيد الفوتوشوب يبدله من حالٍ إلى حال، يَنزع عنه بدلة الوزير، ثم بدلة الدبلوماسي، ومعها هموم السياسي المحترف المشغول بالوضع الحاذق لما تبقى من سودان، ثم ذاك الجلباب الأبيض، وبعده العرّاقي البلدي والسروال الطويل الذي يخصّ قَدْلة في عَصَاري الحَصَاحِيصَا ووَدْسُلْفَاب أو في مساء ضَقَّالِي حميم، ثم يعود أمامي فجأةً ذاك الطالب الجامعي الأنيق يرتدي بنطالأً أسودَ، وقميصأ أبيضَ به خطوط رفيعة طولية باللونين الأزرق والأحمر، مَكوِيّ بعناية أنيقة، يكملها ذاك العطر الهادئ الذي كان يتقاسمه مع أنفاس خاله الفنان المبدع مصطفى سيد أحمد، الذي كان يشاركه سكنه ذات ديُوم خرطوميّة.
عاطف أنيس ما زال يوزِّع هديله بالتساوي بين الحاضرين. أشفقتُ علي بدر الدين الحاج الذي أثْمَلَه اللحن، وفقَد السيطرة على ثقل جسده العملاق، سريعاً تناولتُ منه كاميرا الفيديو، التي كادت أن تسقط من يده، عندما رأيتُ قامته الفارعة تتذاوَب، حتى صار ذاك الطفل الصغير الذي يقلِّد أباه في كل شيء، ويتشبّه به حتى في ملابس العيد الجديدة، التي يرتديها مختالاً لأول مرة، وهو يمسك أصبع أبيه الحاج محمد أحمد، ويحاول أن ينفخ صدره في المسير مثله، ذات صباح عيد في بلدنا.
أما صلاح الزين فقد صار مثل درويش هائم في ملكوته يردِّد بصوت هامساً حينا وعالياً أحياناً أخرى:
- الله عليك يا عاطف يا أخي!، الله عليك يا عاطف!.
وعندما اشتعل المكان بنبض الدَّلِيب ازدادت ملامح الأستاذ عدلان عبد العزيز إشراقاً، وفرحٌ طفوليٌّ طافَ بعينيه، خلتُ قلبَه يحجل مثل قلبي الآن، رأيتُه يعود باسماً نزقاً إلى مكانٍ بعيدٍ يشبه صباحات العيد في قريته "البَاسَا" في أزمانٍ بعيدة، التي كانت تبتهج بزينة طلّة "هَاموشها وعجوبة وجليِّلا"، وهو يردّد مع عاطف:
مَا حَصَلْ جِيْتِكْ لِقِيْتِكْ
إلاَّ عَازْمَالِكْ سِحَابَةْ
في خَلاَ البَلَدْ السَّقَاهُو
يَبْدَا مِنْ عَطَشْ الغَلاَبَةْ
ويَنْتَهِي بِكْ يَا تُرَابَا
يَا سَمَاوَاتَا ونَخِيْلاَ
وفي النَّخْلْ شِنْ مَابْ يَفَرِّحْ
هِيْلاَ
يَا أَبَنُوْسَةْ هِيْلاَ
ويَا تَبَلْدِيَّةْ وأَرَاكَةْ
كُلِّ حُوْبَةْ ولِيْهَا خِيْلا
::
يا لي مِن محظوظ بهذا الفرح المنغّم!. في مساء اليوم الثالث كنّا هناك، في أمسية للمسامرة حول تجربتي، أقامها التحالف الديموقراطي بواشنطن، وقدمتها التشكيلية محاسن أحمد محمد "سونا" كنتُ أراقب الثمالة الجماعية حين تغنّى الفنان المبدع عاطف أنيس بأغنية "تشبهي العيد في بلدنا" لأوّل مرة أمام جمهور عريض، كأنّ الجموع كانت على موعد مع لحنٍ تعرفه من قبل، وتلك عبقرية الفنان عاطف أنيس ضد التغريب، إنما هي تمديدٌ لما هو موجود من تراث لحنيّ ونغميّ يخصّ أغنية وسط السودان، كلُّهم صاروا يردِّدون المقاطع ذات اللحن الجماعيّ معه منذ أول مرة، خاصة صديقي إبراهيم محمد أحمد الحاج الذي كنت أجلس قربه رأيت بريقاً متواتر يتطاير من عينيه، تلك الحالة الشفيفة هي خليط رهيف بين البكاء والفرح والنشوة تماما تماما كما رأيته من قبل ذات ثمانيات في حضرة خاله الفنان مصطفي سيد أحمد في منزله وهو يغني لنا لأول مرة أغنية "ولله نحن مع الطيور" قبل خروجها للجمهور. وتلك العبقرية اللحنية التي ينتمي إليها الفنان عاطف انيس تعود بالغناء السوداني لأصله الجماعي يدركها المستمع السوداني من ألحان محمد وردي وبشير عباس والكاشف وسيد خليفة وعمر الشاعر ومصطفي سيد أحمد والفاتح كسلاوي وعثمان النو وحسن بابكر وود الحاوي وشَمّت محمد نور.
::
الفنّان المبدع عاطف أنيس من جيل الحساسية الجديدة في الأغنية السودانية، يمتاز بمعرفةٍ حصيفةٍ في انتقاء النصوص الشعرية، وتشهد بذلك كل الأغنيات التي لَحّنها وتغنّى بها، وأيضاً تلك السرعة الخاطفة التي نفد بها ألبومه الغنائي الأول"شكراً" الذي أشرف عليه فنياً الموسيقار ربيع عبد الماجد، عندما تخاطفته اذان محبي الفنان عاطف أنيس من منافذ البيع في الخرطوم عندما طُرح في التسعينيات متزامناً مع هجرته إلى بلاد العم سام.
تُمثِّل أغنية "بتشبهي العيد في بلدنا" للشاعر الفذ محمد الحسن سالم حميد قفزة نوعية في مشروع الفنان عاطف أنيس الغنائي، تكمن صعوبة نصوص حميد في أنها كنصوص شعرية لها قامتها الفارعة كشعر لا يتوسّل لحناً أبداً، بل موسيقاه الشعرية الغنائية خادعة جداً لمن لا يعرف مفاتيحها، وقد تجعله يدور في فلك الإلقاء الشعري لحميد بمصاحبة موسيقية، كما فعلت بعض التجارب اللحنية الشابّة مع أشعار حمّيد، لكن الفنان عاطف أنيس أنجز بهذه الأغنية أعلى نخلات مشروعه الغنائي حتى الآن، خاصة في ممارسته الاجتزاء الموفَّق، الذي مارسه بحساسية عالية في معرفة الروح الداخلية للشعر، ومزاوجة أجزاء مختلفة من النص الأصل، وتلك البراعة في أختيار مفتتح الأغنية برهافة تشكيلي يعشق الألوان المائية، ثم التقافز بحرفية واعية وماهرة بين الأجراء المختلفة من النص الشعري وحولته إلى فضاء الأغنية.
تذكَّرتُ، عندما سمعتُ الأغنية للمرّة الثانية، وكسرتُ عنوةً تلك الطّبلة المسُوكَرة بتلك الغرفة المطفأة الأنوار في مسائي الأول مع عاطف عندما سمعتُ الأغنية لأول مرة، وقلت له:
- متي لحنت هذه الأغنية ؟
- قبل يومين ودي أول مرة أغنيها كاملة!!
- أحسّ بأنهما أغنيتان في أغنية واحدة، فما رأيك لو تجرِّب المقطع الأول والثاني كأغنية، والمقطع الأخير كأغنية منفصلة؟
- أظن يا عفيف سماعك لغُنا الخوّاجات القُصار دا خرَب طبعك، وأثَّر على حبّك للأغنيات الطويلة، أنا داير أغنية تكون مشبعة.
- أبداً يا عاطف، أنا من جيل "الحزن القديم" و"هذه ليلتي"، و"تلك الصخرة" و" وليلة المولد"و"المصير" و "زاد الشجون".
- يا زول مالُو خلّينا نجرِّب.
أمسك عوده، وظلَّ بصبرٍ يجرِّب كلّ المحاولات المختلفة التي اقترحتُها عليه، ويضيف أجزاء أخرى من النص ثم يعدّلها، لكن يبدو أن ما قلته لا سند له، وعاد لا شعورياً في آخر المساء يردِّد اللحن كاملأً كما كان منذ البدء. وما اقترحتُهُ لم يقنع مخيلته التي كانت ترى ما لم أكن أراه في تلك اللحظات، وهو تمام اللحن في ذهنه، مُموسقاً بأوكسترا كاملة.
في أحد دهاليز اليوتيوب العجيبة وجدتُ أغنية "تشبهي العيد في بلدنا"، بعد خمسة أشهر من ميلادها، بعد أن تخلَّصَت من محدودية آلة العود، ونفَّذَتها باقتدارٍ مجموعة "أوتار النيل الموسيقية" التي وضعت بصمتها المميّزة عليها، فصارت أغنية كاملة الشموخ والجلال بحقّ، وتشبه العيد في بلدنا، وأدركت أنني كنتُ سوف أحرم محبي الفنان عاطف من أغنية مشبعة كما أراد لها الفنان عاطف أنيس!، كلّ ما تحتاج إليه هذه الأغنية الآن لتصل إلى التمام الذي تستحقّه، أن يمسَّها بريق التوزيع الموسيقي من المخيلة الساحرة للموسيقار يوسف الموصلي، أو من حداثة الموسيقار ربيع عبد الماجد، بعدها سوف تجلس أغنية "تشبهي العيد في بلدنا" المشبعة بهدوء في مكتبة الأغنية السودانية الحديثة.
http://www.youtube.com/watch?v=R88EOO_skdE
::
و..
في...
مطار واشنطون، الذي يعجّ بالمسافرين من كلّ جهات الأرض، ونحن نتبادل حزناً مجوّفاً، استعداداً للحظات الوداع التي لا بدّ منها، قبل عودتي إلى أستراليا، كنا نبدو مثل الذي يسير في جنازته، تماماً، تماماً مثل كل الرّجال الجُوف السودانيين الذين يَبرعون في إخفاء مشاعرهم الحقيقة في مثل هذه الظروف مع سبق الخنق والإصرار. الصغيران أُلفة ونزار وجدا براحاً واسعاً، فصارت خطواتهما أسرع منا، فخَلَقا لنا ما نفعله كي نشغل أذهاننا عن ثقل تلك اللحظات بالهرولة خلفهما، وعندما حانت تلك اللحظة التي كنا نهرب منها، جلست كي أودِّع أُلفة أولاً، فجأةً وجدتُ نزار يقفز إلى عنقي ويطوِّقها بيديه الصغيرتين وهو يقول بصوتٍ مخنوقٍ بإنجليزيته الطفولية الصادقة:
- سأفتقدك جداً.
كانت تلك الهمسة التي قصَمَت تماسُك عاطف، وحوّلته إلى شظايا، فركض مسرعاً وهو يغالب دموعه إلى خارج المطار من غير أن يودِّعني!، هذا الفتى الصغير المعجون ببعض جينات الحنين، التي تشبه العيد في بلدنا، جعل هروب أبيه ممكناً.
وحلَّقت تلك الدابّة التي تطير في ليل المحيط المهيب، وكنتُ أحمل كلّ رعاف العالم في قلبي، والروح مشتّتٌ في الجهات، ذهني ملتصقٌ بالأرض مثل بطن سلحفاة، فقط ما جعل تلك الرحلة الطويلة التي امتدّت يوماً كاملاً وثلاث ساعات محتملة، هو تلك الأغنية الباهرة التي لا تُمَلّ برهافتها الكامنة، كنتُ كلما أصحو تناديني تلك الأغنية الجميلة كي أعيدها مرة أخرى، حتى نفدت مؤونتي من حجارة البطارية عالية الجودة قبل أن أرتوي تماماً من أغنية "تشبهي العيد في بلدنا".

* من كتاب مُسامرة من وراء المحيط -قيد الطبع-








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع