الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قتلتني عطسة..!

طالب عباس الظاهر

2013 / 2 / 21
الادب والفن


قتلتني عطسة..!
قصة قصيرة
طالب عباس الظاهر
لم أستطع اكمال العطسة فمتُّ... متُّ ؟!
ياله من أمرٍ مضحكٍ ومبكٍ في نفس الآن..!، ويالها من سخافة أن يموت الإنسان بسبب عطسة عابرة لا غير..!.
ولم يقتل عبر سنوات مريرة وعجاف، من التواجد القسري على سواتر الموت الأمامية للجبهات، تحت وابل من رصاص وقذائف وشظايا مجنونة، بل وانهمارها فوق رأسه المنحوس كالمطر الأسود، أو الأحمر؟ لست أدري، ليكن أسود... أحمر، لا يهم، والربض المستمر عند خطوط القتال الملتهبة، في خضم سيل من تهديدات حروب ومعارك ومغامرات عبثية ماجنة، كانت حامية الوطيس أبداً ... في الجيش والجيش الشعبي والدفاع المدني، في الفاو .. مندلي ..عربت .. حفر الباطن .. و.. و..!، في الشمال والجنوب والوسط شرقاً وغرباً.
أو الدفن حياً كضحية من ضحايا المقابر الجماعية، والسحق مع عشرات الآلاف من المسحوقين المدنيين، أطفال وصبية، ونساء وكهول، أو مع الشباب من ثوار الانتفاضة الشعبانية خلال عمليات التصفية للمقاومين، وتمشيط المدينة المقدسة منهم في صفحة الغدر والخيانة، طبعاً كما سماها النظام الدكتاتوري المباد.
أو التعفن في زنازين مظلمة ولزجة لدوائر الأمن والاستخبارات والمخابرات، بسبب تقارير الحزبيين والمخبرين والوكلاء، و.. و..!
بل ومحاولات الانتحار المتكررة الفاشلة في مطلع الشباب الأول.
لينجو مثل هذا الكائن الغريب من كل ذلك بأعجوبة، كأنه طائر العنقاء الخرافي في الأسطورة الفينيقية، الذي ينفض عن جسده في كل مرّة رماد الاحتراق، ويحلق عالياً في الفضاء من جديد... أيا للسخرية، فتقتله الآن عطسة... أجل مجرد عطسة..!
ولكن أوَلم يقولوا، إن الإنسان تصرعه البقة، وتقتله الشهقة؟ الحقيقة... لا، لم يكن فشل العطسة اللعينة تلك، عابر في هذه المرّة، وإلا لما أشعرني الحادث بتلك الآلام الرهيبة، بل بالتحديد بسبب فشلها، ولما أوصلني لحد الموت، ومفارقة الحياة، فلم تكن مجرد عطسة إذن.
أجزاء من الثانية ضئيلة جداً، قد لا يمكن عدّها بدقة، هي المدة التي استغرقتها عمليات التهيئة، والفشل ، ومن ثم الموت.
بيد إني شعرت بها، كأنها قرون من أوجاع لا تطاق في الحياة، لاستمرار توقف القلب المفاجئ والنهائي بالعطسة تلك، وقد استمرأ كما يبدو الخمول، وراق له الكسل.
وبعدها بدت لي كل الأوجاع والمآسي، وكل المعاناة والآلام التي مرّرت بها خلال حياتي التعيسة، كأنها مجرد بعوضة تطنطن على سفح جبل الموت العظيم، بل وإن مآسي العمر وآلامه لا تساوي شيئاً إزاء هذا الوجع، يعني بلغة الحساب البسيطة، مجرد صفر على الشمال..!
هل أضحك ... هل أستغرق به الى ما لانهاية، بعد كل هذا الذي رأيته وعانيت منه؟
أيستطيع الرماد أن يشكّل لوحة ضاحكة بسواده اللعين القاتم؟ بل أيحق له ذلك أساساً ؟!
أأهزأ من نفسي؟ أم أهزأ من الحياة؟ أم أهزأ منهما معاً؟!
نعم، فبدل تنشيط القلب أي (رفرفشته) بالعطسة؛ شلّت حركته نهائياً، فسكن من الخفقان المحموم إلى الأبد.
حقاً، هل أرتج دماغي؟ أم تشظى مخي داخل جمجمتي نتيجة الضغط؟
أم حدث كل ذلك ليس بسبب العطسة، إنما بسبب الاصطدام حين السقوط، وارتطام الرأس بقوة في الأرض؟
ولكن هل انفجر رأسي بالفعل... كما شعرت لحظتها؟!
انتظروا لحظة رجاء... فسوف أشرح لكم كيف متُّ على أعتاب تلك العطسة اللعينة..!
حينما حاصرتني العطسة، بعدما امتلأ دماغي بالأبخرة الكثيفة التي عادة ما تخرج معها، حاولت العطاس بترف منحوس، بينما فكري كان مشغولاً عنها تماماً بأمر آخر بعيد جداً... أملاً بلذة التخلص من تلك الأبخرة اللعينة، ومن ثم الراحة بعدها... أيما لذة وراحة، على العكس من إزعاج لو لم تتم العملية بنجاح ، بيد إن الذي حصل، هو إن العطسة فشلت..!
وقد تم ذلك ليس في عملية التجميع لها كما أعتقد ... بل في محاولة نفث ضغطها الى الخارج، لعلي لم أستطع اعطاء الأمر أهميته المطلوبة في اللاوعي طبعاً، وربما نتيجة الإرباك في تنفيذ ماهية الأمر اللا واعي ذاك.
ليرتد الضغط بشكل عكسي، متحولاً الى الداخل... فيمزق الدماغ، وأصاب لعله بجلطة قاتلة.
وقد تكون عملية تهيئة الأسباب غير كافية، أو ليست كما ينبغي، لأتمكن من التخلص بشكل طبيعي من تلك الأبخرة الكثيفة التي غشيت دماغي، كما في الملايين... وربما البلايين من المرات، أو أضعاف مضاعفة لهذا الرقم الذي فعلت بها مثل هذا الشيء بنجاح، وبشكل عابر... بل وبكل سهولة ويسر، خلال مسيرتي الطويلة في الحياة... وعلى مدى الأربعين عاماً المنصرمة من عمري أو أكثر قليلاً أو أقل.
ولعل ما حصل لي كان بسبب كثافة وتراكم ما عانيت خلال سنين عمري القاسية... عبر تجميع يومي مستمر للهموم، وتوتر دائم تحت رحمة اللظى المحموم، وصراع محتدم مع القلق ... بعمر كان غائماً أبداً بسحب كثيفة من الأحزان والآلام، صيفاً وشتاءً ... ربيعاً وخريفاً و..!
لذا وصل الأمر منتهاه أخيراً كما يبدو، فلم يعد مثل ذلك التفريغ البسيط ينفع، لتنشيط مثل هذا القلب المتهالك؛ فتوقف نهائياً عن الخفقان..!
لقد أحسست لحظة فشل العطسة اللعينة التي أودت بحياتي السخيفة، بألم عظيم يستبد بي، ويغشى كل كياني... شيء ما، صعقني، وكنصل حاد مزق أحشائي، أو أزاح بقسوة مفرطة أغشية قلبي، كمن يسلخ جلده بسكين وهو حي وليس ميت، كما في سلخ الصوف عن جسد الخروف، ولعلها كانت فقط آلام خروج الروح، وانتزاعها المروع، وسلّها من كل عروق البدن.
وبعد ذلك مباشرة تهاويت باستقامة، يبدو أنني قد سقطت الى الأمام كما يهوي تمثال من شاهق، شعرت بارتطام رهيب لجبهتي في البلاط الصلب، فقد سمعت دوي هائل يضج في أروقة كياني، كأنه اصطدام كوني رهيب بين جرمين عظيمين في السماء.
كنت لحظتها ربما في مرحلة الانتقال من هذا العالم الى العالم الآخر، ليمسخ بعدها وجودي المادي ذاك في الحياة، ويستبدل بهذا المعنوي الجديد المتسامي الذي أحياه ما بعد الموت..!.
لأتمكن ولأول مرة في حياتي، من النظر بوضوح تام، وأنا في غاية الدهشة، وكأن عيني تواً تمارس فعل الإبصار المجرد الذي لا يشبه في شيء أي إبصار قديم مارسته خلال الأربعين عاماً المنصرمة تلك أو أكثر.
بعدما أزيحت عنهما ومن أمامهما جميع الشوائب والمنغصات... فرأيت، رأيت رأسي وهو يسبح في بركة من الدم الفائر، واختلاج آخر النبض فيه، ولمحت بإشفاق شديد انطواء جسدي على نفسه، كأنه يحلم بالرجوع ثانية، جنيناً آخر الى رحم الحياة.
الحقيقة فإن لغة الحياة لا تصلح أبداً لما بعد الممات، لكنها على كل حال فقط المتوفرة حالياً، ولا سبيل لي لسواها.
فغبت عن الوعي ربما للحظات أو أقل، فإذا بي أرى أمي الراحلة منذ خمسة وعشرين عاماً وأكثر، أجل رأيتها تسبح وسط هالة من نور باهر، في خضم عالم شفاف... شديد النقاء والطهر، كما في الحلم، وتشق العباب... فأشهق وتتشهق شوقاً حينما رأتني أمامها فجأة، فيتوالى قدوم أحبتي ممن غيبهم الموت عني طويلاً، واشتقت اليهم كثيراً.
وأيقنت حينئذ بتحرر قلبي من أساره المديد في قفص الأضلاع، فبدا لي كأنه طائر خرافي يحلق في المديات النائية التي لا تحدها حدود ... متوغلاً بعيداً بعيدا في الفضاءات اللانهائية من الوجود.
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة