الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المهام العاجلة لمؤرخينا الجدد

مهدي بندق

2013 / 2 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


في هذه المرحلة الفارقة من مراحل مصيرنا الوطني ، تحتاج البلاد إلى من يؤرخ للأحداث الجسام التي تجتاحنا ، بحيث يتم ربطها بماضي الأمة الذي أدى إلى التشكلات السياسية الحالية من ناحية ، ومن أخرى بالقدرة على التنبؤ "العلمي" بما تقود إليه تلك التشكلات محلياً إقليمياً ودولياً . هؤلاء أسميهم المؤرخين الجدد ، تثمينا ً لدورهم المنتظر في إضاءة المشهد العام ، وهو أمر يتطلب التزود بالوعي الفلسفي والعلمي الذي بدونه فلا إنتاج لغير حكايات عجائز، أو تسجيل لمشاحنات فرقاء .
على خلفية هذا الوعي تؤكد الفيزياء المعاصرة إن كوننا واحد مبتداه الانفجارُ العظيم Big Bang الذي تولدت منه قوى الجاذبية والمغناطيسية والحرارة فالسدم والنجوم والكواكب ، ومن بين الأخيرة انبرى كوكبنا الأرضي يتشكل في وحدة جغرافية هي القارات والمحيطات ، وفي الماء ُخلقت الحياة وانتقلت إلى اليابسة حاملة معها وحدتها البيولوجية (توليفات الكربون) وعلى سلم الأحياء تربع الإنسانُ القمة َ مؤطرَّا ً بوحدة فيسيولوجية لا غش فيها، وهي حقيقة ٌ تقتضي النظر إلى التاريخ البشري – الممثل للكون الواحد – بحسبانه هو أيضا ً وحدة واحدة لا يعكر عليها اختلاف لون أو تمايز شكل، والدليل أن جميع البشر يصلحون للتزاوج فيما بينهم، وأما التعدد الظاهر لديهم فليس أكثر من تعدد للحوادث وليس للأنماط المحددة لمسيرة بدأت بالعبودية ولا بد أن تصل إلى غايتها : الحرية لكل إنسان .
فبدون هذا الوعي " العقلاني" ذي الوحدة المعرفية لا يمكننا أن نقيم علاقة مع التاريخ . وفي تقديري أن النظرية الأقرب إلى تمثيل المفهوم " العقلاني" المشار إليه آنفا ً هي التي تتيح للمؤرخ تسجيل الحوادث الكبرى واستخلاص مغزاها، برؤية صافية مصدرها الواقع " المادي" الذي يتحرك فيه الناس وينتجون، يتعاونون فيه أو يستغل بعضهم بعضا ً من خلال العلاقات المتغيرة تبعا ً لتغير مواقع القوة، وهي مواقع ظلت ُتكتسب بفعل الحروب أو السلب والنهب أو حيازة واحتكار وسائل الإنتاج كالأرض والمناجم والآلات علاوة على قوة العمل البشري ذاته سواء جاءت من عبد أو قنٍ أو أجير .
وتبين تلك النظرية بجلاء كيف تنعكس حركة الواقع المادي على عقول الناس فتنشأ المعارف والقيم والمفاهيم، وُيتفق على الأعراف والعادات والتقاليد والأخلاق التي هي بذور الديانات الأولى والعقائد والفلسفات، وأخيرا ً تظهر الدولة ُ مثل كائن علوي كامل الأوصاف، حتى ليحتار الناسُ متسائلين : من صنعه؟
إنه الطبقة المنتصرة اجتماعيا ً والتي تقدم نفسها للمحكومين بوصفها كياناً محايدا ً مهمته إقرار النظام ومحو الفوضى وحماية حقوق الضعفاء ! بيد أن المؤرخ الجديد لابد يعرف أن ذلك وَهم ٌ لا تلغيه بعض الاستثناءات، إنما القاعدة أن الدولة محض جهاز توظفه الطبقة المالكة لمصلحتها ، فهي تعمد إلى استخدام قوته الخشنة : الجيش والشرطة والبيروقراطية لحماية أمنها هي بالدرجة الأولى، وتلجأ لاستخدام قوته الناعمة : القوانين ، السياسة، وسائر العناصر الأيديولوجية بما فيها الأديان والفلسفات لضمان سكوت المحكومين وقبولهم بالحرمان من الحقوق المثبتة للطبقات مالكة وسائل الإنتاج.
ومع ذلك فالدولة – شأن كل جهاز – ليست حكرا ً أبدياً على طبقة بعينها حتى ولو كانت مالكة ، فالنضال الذي يسعى به الشعب ليشارك في الحكم؛ يمكن أن يُخضع الدولة لإرادته جزئيا ً، فتقر مبدأ الضرائب المتصاعدة مع وضع حد أدنى وحد أقصى للمرتبات والأجور، وتلتزم الحياد التام بين أصحاب الأديان والعقائد، وتقنن الحقوق المدنية كالإضراب والتظاهر وحق الطبقات الشعبية في تكوين المنظمات والنقابات والأحزاب دون وصاية خارجية، كما تدعم التعليم والصحة بل والترفيه...الخ وتلك هي غاية اللبرالية السياسية، لكن اللبرالية السياسية لا تمثل نهاية المطاف بل هي تمهد لما بعدها ، أعني خضوع الدولة التام للشعب (= الديمقراطية الحقة ) الذي يطالب بالعدل الكامل في توزيع ناتج الثروة القومية ومحق كل أشكال الاستغلال الطبقي، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بانتصار الاشتراكية وهي غير رأسمالية الدولة الذي عرفته السوفيتية الروسية أو الناصرية العربية ، وإنما هي بناء ُيشيد على غير نموذج سابق التجهيز، وربما تشارك في تصميمه اليوم الثورة ُ العالمية التي أضحت ملامحها تلمع في الآفاق، مقابل أفول نجم الرأسمالية تحت وطأة أزماتها المتلاحقة .
فإذا تدبر مؤرخونا الجدد مبدأ وحدة التاريخ البشري، فما من شك في أنهم سيحتاجون إلى تعديلات في صلب المفاهيم التي درجنا عليها، وهي في الحقيقة مفاهيم ُ تسللت إلينا كانعكاس لوجودنا في واقع سيطرت عليه ماديا ً وثقافيا ً تيارات ُ القومية البورجوازية .
أولها قبول بعضنا لنظرية المركزية الأوربية بحسبانها الطريق الوحيد لتحديث واقعنا اقتصادا ً إنتاجيا ً وسياسة ً لبرالية وثقافة ً علمانية ، دون التفات لكونها نظرية تأبد تبعيتنا للغرب، وترجح عوامل التقليد على حساب الابتكار والإبداع.
وثاني تلك المفاهيم : الاحتجاج بخصوصيتنا كمجتمع إسلامي لا حاجة به للتأثر بالعالم الغربي، غير مدركين أنه مفهوم يحرمنا من التفاعل مع معطيات الحضارة الإنسانية، بينما الغرب نفسه لم يتحرج من التأثر بنا يوم كنا متقدمين عنه !
ويتجسد ثالث المفاهيم المطلوب تغييرها في قبول بعضنا لتنظيرة النمط الآسيوي التي تعزو جمود مجتمعاتنا وعجزها عن التطور إلى مورفولوجية بيئية نهرية تخلق وترسخ دولة الطغيان "الشرقي"! وكان أولى بنا الاستماع لــ "سمير أمين" الذي رأى بحق أن التاريخ لصيق بالجغرافيا البشرية، ومن ثم فقد صك مصطلحه المائز " النمط الخراجي" المؤسس على الاقتصاد الريعي، يغطي به دولا ً عديدة في الغرب كما في الشرق طالما تأخرت عن اللحاق بقطار الرأسمالية الحديثة، وبذا يكون النمط ُ الخراجي (كصنيعةٍ للبشر وليس الطبيعة) هو المسئول عن ترسيخ بنية الطغيان والاستبداد، بوصفه العنصر المشكـّل لتاريخ العالم في المناطق التي تعيش عصر ما قبل الحداثة ، لا بوصفه هوية لازمة بل حالة مؤقتة، وهو ما يتفق مع رؤية أندريه جوندر فرانك صاحب كتاب " الشرق يصعد ثانية".
إذن على مؤرخينا الجدد ألا يعتبروا الحداثة "أقنوما ً" مستقلا بذاته تختص به أوربا ، فالحداثة Modernity حين ينظر إليها المرءُ باعتبارها نزعة ً عقلية، وليست محض مذهب أوربي، لا غرو سيراها تتجلى في المشترك الإنساني لدى جميع الأمم والشعوب في الماضي أو في الحاضر. وما من شك في أن مبدأ المراجعة والنقد الذاتي ليعد جزءً لا يتجزأ من هذه النزعة العقلية البناءة، وبهذا يمكن لمؤرخينا الجدد أن يسهموا في إضاءة الطريق إلى المستقبل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ساعدت كوريا الشمالية إيران بهجومها الأخير على إسرائيل؟ |


.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في




.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا


.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا




.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء