الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدلية الذات والموضوع في ترميز الأدب -قراءة في قصص ادريس عبد النور-

عبد النور إدريس
كاتب

(Abdennour Driss)

2013 / 3 / 5
الادب والفن


بقلم الناقد: فريد أمعضشـو

عبدُ النور إدريس أديبٌ مغربي متألق سجّل حضورَه الوازن، وما يزال، كباحثٍ جادّ في مجالات عدة، أبرزها التأليف عن الأدبِ النِّسائيِّ إبداعِه ونقدِه. وقد صدرت له أول دراسة في هذا الإطار، عام 2004، بعنوان "الكتابة النسائية .. حَفرية في الأنساق الدالّة"، وأعْقبتها ثلاثة كتب أخرى عناوينُها، على التتابُع، هي: "الرواية النسائية والواقع" (2005)، و"دلالات الجَسد الأنْثوي في السرد النسائي العربي" (2006)، و"النقد الأدبي النسائي والنوع الاجتماعي (الجندر)" (2011)، فضْلاً عن مقالات نقدية عديدة نشرها، ورقياً ورَقمياً، في المجال نفسِه. وهو، بذلك، يعدّ من باحِثينا الذين أسهموا في سدّ جزء مهمّ من الخَصاص الذي تعانيه المكتبة الأدبية العربية في خانة نقد الكتابة النسائية. وللكاتب أبحاثٌ رصينة في المجالين السوسيولوجي والتربوي كذلك؛ منها "ميثولوجيا المَحْظور وآليات الخطاب الديني" (2005)، و"سوسيولوجيا التمايُز: ظاهرة الهدر المدرسي بالمغرب" (2008). وله في الأدب الرقمي وأشكال التعبير الجديدة كتابٌ قيّم عَنْوَنَه بـ"الثقافة الرقمية: من تجليات الفجوة الرقمية إلى الأدبية الإلكترونية"، صدر بمكناس عامَ 2011. ولم يقتصر الإنتاج الفكري لعبد النور إدريس على مضامير الكتابة المذكورة، بل سجّل حُضوره، أيضاً، في ميدان الإبداع شعراً وحَكياً. فقد أصدر عام 2007 باكورته الشعرية "تمزّقات عشق رقمي"، التي ضَمَّنها عدداً من "التشظيات" الهادفة إلى ملامسة جملة من الهموم والثيمات، وتناولها بأسلوبٍ في الكتابة ينطوي على كثير من مَياسِم الجِدّة والتجريب. وأصدر، في السنة نفسها، مجموعته القصصية الأولى بعنوان دالّ يوحي بالموضوعة المحورية التي تنشر ظلالها على امتداد صفحاتها، وهو "ورثة الانتظار". وقد جاءت نصوص هذه المجموعة غنيةً بسِجلاّتها اللغوية، وبتناصّاتها المنفتحة على نصوص ومُتون إبداعية متنوعة، وبانزياحاتها التي وفّرت للشاعر إمكانات مهمّة للتعبير عن مكنونات الذات، ومعالجة أسئلة الواقع المَعيش، بمختلِف أبعاده، معالجةً لم تخْلُ من "مُسوحات فكرية" ظاهرة، لاسيما وأن المُبْدع يشتغل مدرّساً للفلسفة والفكر الإسلامي منذ سنوات.
وبعد أربعة أعْوام من صدور هذا العمل القصصي، نُشر لعبد النور مجموعة قصصية ثانية، بمكناسة الزيتون، ضمن سلسلة "دفاتر الاختلاف"، التي يُشْرف عليها الكاتب نفسُه، واختار لها عنواناً عبارةُ "جُمْجُمَتي .. وأنا" (78 ص. من القِطْع المتوسط)، وهذا العنوان نفسُه هو عنوان إحدى قصص المجموعة (ص 42 – 44). وقد ضَمّت بين دفتيْها اثنين وثلاثين نصّا قصصياً موزّعاً بين القصير والقصير جدّا؛ بحيث جنّس الزُّّمْرة الأولى بـ"انشطارات قصصية"، والثانية بالتعبير الاصطلاحي المنتشِر اليومَ على نطاق واسع بين عددٍ من مُبدعي القصة اليوم، ولاسيما الشباب منهم، وهو "قصص قصيرة جدا". ويخرج متصفح أقاصيص هذه المجموعة، وكذا نصوص السابقة، بانطباع أساس حول اتجاه تحول الفن القصصي العربي اليوم، عبّر عنه الكاتب في المقدمة التي صَدَّر بها مجموعته الثانية حين أكد أن القصة، في مشهدنا الثقافي المعاصر، لم تعُدْ "تتقمّص دورَ المنتقِد والكاشف عن عيوب المجتمع، كما أنها لم تعد تهتمّ بالتحوُّلات الاجتماعية المُتسارعة الإيقاع. لذا فقد تجاوزت مفهوم الذيْليّة للخطابات السياسية والإيديولوجية تماشياً مع الاضطراب الإيديولوجي الحاصل لدى المتلقي المعاصر، والذي جعل القاصّ يكتب أساساً لذاته مركّزاً ومكثفاً كلَّ أشكاله الذاتية في حكْيٍ لا يُهادِن المَعيش، ولا يضع في اعتباره أي مقوّم من مقومات قارئ نموذجي مُحْتمَل". (ص6)
إن الاحتفال بالذات المُبْدعة وهواجسها وانشغالاتها وتجاربها وكينونتها بصفة عامة أمْرٌ يلمَسُه قارئ المجموعة الثانية بوضوح، والتي صِيغَتْ بآلياتِ كتابةٍ فعّالة حداثية تؤكد "الحضور الوُجودي" للمبدع، والانتصار لأنَاه في شتى تمظهُراتها، والدفْع في اتجاه فرْضه ذاتيتَه في المَحْكي وفي نفس السارد وطِباع شخصياته وعمقها الوُجْداني وسلوكاتها المختلفة؛ كما قال د. عز الدين نملي. والحقّ أن هذا التمركُز حول كِيان المبدع وذاته لم يُلْغِ التفات القاصّ إلى بعض قضايا الواقع في بُعْدَيْه الخاص والعامّ، ولم يمنَعْه من التطرق إلى جملة من إكراهاته واختلالاته وتحولاته وتجلياته المجتمعية والسياسية والثقافية والحضارية. وقد يكون هذا الجمْعُ بين التعبير عن الذات والموضوع/ الواقع أوْضَحَ في القسم الثاني من المجموعة (من ص52 إلى ص71)، الذي حَوَى قصصاً قصيرة جدا فقط، عددُها سبع عشْرة، توزّعت بين ثلاث مجموعات داخلية وضع الكاتب لكلٍّ منها عنواناً خاصّا دالاّ ومُوحِياً.
شملت المجموعة الأولى (قسمات تُغنّي جبل الجليد) سبْعَ قصص تناولت مواضيع متنوعة، وعكست "قسمات" مختلفة، يتمَحَّضُ بعضُها للذات والآخرُ للواقع المَعيش. ففي قصته "مدارج الصمت"، نقل الكاتب، بلغة مكثفة مشحونة، ملْمَحاً من العلاقة بين زوجين اختصما يوما كاملاً، فَصامَا عن الكلام، مُعَوِّضِينَه بالتعبير الصامت وبالإشارة التي لم تخْلُ من عواطف متدفقة بينهما. وتعرَّضت قصته "لعبة برلمانية" إلى واقع عمل المؤسسة التشريعية في الوطن العربي، وإلى عدد من كواليسه وحقائقه؛ وذلك بالاستناد إلى خياله الخَلاّق، وبالاستعانة بمدوّنات ورموز دالة محققة لمَقصدية المبدع العميقة. وتنصرف فكرة قصته الماتِعة "لعبة الخراب" إلى كشْف موقف قطاع عريض من أبناء الأمة العربية من السلام المزعوم بين العرب والإسرائيليين فيما يبدو، موظّفاً – في هذا المَساق – أحد الرسوم المتحركة الشهيرة لدى الصغار خاصة؛ إذ إن بطل القصة، وهو طفلٌ كان مولعاً بمُتابَعة لعبة القط والفأر من بين كافة الرسوم الموجّهة إلى الأطفال، وبتقليد شخصية "ميكي ماوس" حين لَعِبِه مع أقرانه، وتأكد له من ذلك العداءُ الراسخ بين الكائنين الحيوانييْن المذكورين. بيد أنه سيشْعُر، ذات يوم، باستغرابٍ يؤدي به إلى فقدان الثقة ومراجعة بعض أحكامه السابقة بشأن العلاقة بين "العَدُوّيْن"، حين رآهما يتصافحان ويتعانقان في سلام وأمان! وأطلق القاصّ العِنان لخياله المبدع، في نصّه "إخلاص"، لحكاية حادث طريف مُثير، مضمونُه أن طفلاً منحوساً أو ممْسوساً كان إذا ذكر شخصاً باسمه فإنه يَلقى حتْفه هو، أو أحد أقاربه أو جيرانه، في اليوم الموالي! ولمّا عاد أبوه (عليلوش) من سفرته أخبرته زوجته بذلك وهي تنتحبُ وتندب حظّها؛ لأن ابنَهما ذكر، قُبيْل عودته، اسمَ الأب، ممّا جعلها تجْهش بالبكاء خوفاً على فراقه وتَرَمُّلها. وفي الغد، لم يُمُتِ الأب، بل توفي جارُه!
وتحتوي المجموعة الثانية على خمس قصص قصيرة جدا، وعنوانُها "غُرَف مُشْرَعة على الكائن المُتَكَوْثِر" .. هذا الأخير هو "ديك بَلْدي" مرة، و"ديك رومي" مرة ثانية، و"فَكْرونْ" (سُلَحفاة بالعامّية المغربية) مرة ثالثة، و"سعادة طُومْ" مرة رابعة، و"فْرُويْد" مرة خامسة. ويثير انتباهَنا، ها هنا، الحضور البارز لرمزية الحيوان، والاستخدام المكثف للإيحاء وأسلوب التلميح في كافة نصوص هذه المجموعة الفرعية التي حاولت تشخيص جانبٍ من واقع الحياة الشعرية العربية اليوم، والتي أضْحَت تعجُّ بالمتبَجِّحين والمَزْهُويّين بكتاباتهم وادّعاءاتهم، وفي بعضها تلميحات إلى الواقع في بُعْده السياسي، الذي يأبى القاصّ مهادَنته. كما عكست، إبداعياً، حالات نفسية ومواقفَ ذاتية بلغة ترميزية مُوحية، تندرج في بُوتَقَة الكتابة التجريبية الحداثية التي أولع الكاتب برُكوبها في جملة ما دبّجته يَرَاعَتُه من إبداعات في القصة كما في القريض. ولعلّ مِن أنْجَح قصص المجموعة، وأكثرها براعةً في التعبير عن الذات وواقعها النفسي، نصَّه الموسوم بـ"غرفة Freud" الذي يعرض التحول الطارئ لبطله بين لحظتي الدخول والخروج من تلك الغرفة، بطريقة تعبيرية متفرّدة، ولاسيما في توظيفها الألوانَ ولعبة الأرقام ذات الحمُولة الدلالية الواضحة في القصة. فقد لعبت هذه الأرقام، على حدّ قول الناقد المصري محمد عطية محمود، "دوراً بارزاً في تأويل النص، وإكْمال مساحات فراغِه التي لا تكاد تلحظ في نسيجه المتوتر، المشحون بالقلق النفسي. كما لعبَ اللونُ دوراً هامّا في تشكيل خَلفية النص، والإيهام بالحالة التي ربّما تشبّعت بهواجس المَرَض، وانطلقت تُعاقر وتحاول اصطياد اللحظة التي تكثفت ولاحَتْ لها..."
وفي المجموعة الأخيرة (تجليات في علم السارد) خمسُ قصص كذلك، يغلب على تيماتها الدلالية الهَمُّ الذاتيّ بصورة جَليّة، وأسئلةُ الكتابة وشُجونها، والتواصلُ والنشر الرقميان، ويسِمُ أسلوبَها ولغتها في التعبير استغلالُ الطاقة الرمزية لبعض الألوان، والبُعد الإيحائي لبعض الحيوانات، والركونُ إلى التكثيف والإيجاز والانزياح عن المعيار. فقد تحدث القاصّ، في نصه "لون في علم السارد"، عن الكتابة والنشر في المواقع الإنترنيتية، مُشيراً إلى بعض ما يَطْرَحانِه من قضايا وأمور، وأكد، أيضاً، أن الإبداعَ القصصي حين يُنقل من حيز "الوجود بالقوة" إلى حيز "الوجود بالفعل" بخَطِّه على الورقة فإن ذلك يكون بمثابة إعلان ميلاده "الرسمي"، وفي الآن نفسِه يكون إعلاناً بـ"موت المؤلِّف"؛ كما كان يردد، من ذي قبل، دُعاة البنيوية في أوربا ومنَظِّرُوها. وتنقل لنا قصة "شَغَب رقميّ" محادَثة خفيفة بين عليلوش وفتاة على "الماسنجر"، مدارُها حول موعد العيد المنتظَر، وجرّهما ذلك إلى الحديث عن طعْم الأعياد اليوم، حيث ذكرت تلك الفتاة لعليلوش، عبر رسالة إلكترونية، أنها لم تعد – مثل كثيرين من الناس – تشعر بحلاوة العيد! فأجابها بأن مردّ ذلك، بالأساس، إلى تقدُّمها في السنّ؛ مما أزعجها وجعلها تنسحب من "الشات" إثر ذلك مباشرةً، لأن كلامه ذاك لامَسَ نقطة حسّاسة لديها ولدى بنات جنسها عموماً! وعبّر الكاتب، في قصته "قرد دمنة"، برمزية واضحة، عن شُعور ساردها بالإحْباط، وعن تأسُّفه لعدم اعْتيادِه، مسبقاً، على التدَحْرُج من أعلى إلى أسفل بسلامة، وتمنّيه لوْ استحال إلى سلحفاة أو قنفذ حتى يمكنَه ذلك دون أن يعْلَق به شيءٌ من الثلج! وتأكيده أنه بات غيرَ مُسْتطيعٍ ذلك، وأن كلَّ ما بمقدوره الآنَ هو التدَلّي وسط غرفته المُوصَدَة بابُها بإحكامٍ ليرى العالم مقلوباً! ونرى في آخر قصص المجموعة كلِّها (قاتل متسلسل) شخصاً مستاءً منكسِراً أضْنَتْه نفسُه الأمّارة بالإغْراء بكثرة الإمْلاءات والأوامر، فقرّر إعْدامَها ببُرودة دم كيْما يتملّص منها إلى الأبد!
إن القصة القصيرة جدا لدى د. عبد النور إدريس، إذاً، فنّ تعبيري مَرِن، عمادُه التكثيف والإيحاء، وبُغيتُه ترجمة إحساسات وهواجس وانشغالات إلى "كائنات" ورقية أو رقمية ليطّلع عليها القراء، وملامَسَة ظواهر ومظاهر مختلفة من الواقع اليومي ومن الحياة العامة، معبِّراً في الوقت نفسه، تلميحاً أو تصريحاً، عن موقف الذات منها. ولتحقيق هذه المقاصد، كان يعمِد المبدع، غالباً، إلى التوسُّل بطريقة في الكتابة مغايِرَةٍ، إلى حدٍّ مّا، للمألوف والسائد، تنفتح على أجناس أدبية وفنون أخرى، وفي طليعتها الشعرُ، لاسيما وأنّ من نصوص الكاتب القصصية ما يقترب أكثر من القصائد حتى لَيُمْكِن وَسْمُها بـ"القصص الشعرية". وتستفيد، كذلك، من إمكانات التعبير الدالة التي توفّرُها الألوان والأرقام وقاموس الحيوان وغير ذلك؛ فجاءت جملة وافرة من قصصه "كَبْسُولات" حكائية رمزية، بعضُها موغِلٌ في رمزيته، استطاعت وضْع الإصبع على عدد من مواطن الاختلال في الواقع المعيش في السياسة والمجتمع والثقافة ونحْوها، دون أنْ تُغفل، طبْعاً، نقْل كثير ممّا له صلة بالذات المبدعة؛ كما تأكّد لنا ممّا سلف ذِكْرُه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با