الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حتى المستقبل... كان أجمل في الماضي!

آکو کرکوکي

2013 / 3 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في الطفولة، يُعلق المرء، الكثير مِنْ أُمنياتهِ، وأحلامهِ، في رقبة المستقبل، ويطلب مِنْ عجلة الزمن، أنْ يدور بسُرعة، لِيقلهُ بأمان، نحو المستقبل، حيث طموحاتهِ. في الطفولة، حيثُ النظر الى الحياة، يغلُب عليها المناظر الملونة، ويخلو من الصور الرمادية، والحقائق الكالحة. فيكون لهُ مذاقاً آخر، ولوناً آخر، ويبدوَ أجمل.

بهذا التبرير السريع، حاولت أنْ أستنتج الحكمة، والسبب، الذي يختفي وراء، مقولة الكوميدي الألماني، كارل فالنتين (1882-1948):

حتى المستقبل ...كان أجمل في الماضي!

لا أعرف الماضي الذي عاشهُ فالنتين، لكن الماضي الذي أحنُ أليهِ كثيراً، يخُصني، وأعرفه جيداً.

لو قررت التجول في هذا الماضي، الذي يوجد فيه طفولتي بطبيعة الحال، يمكنك أنْ تتعثر بالكثير من الأحلام الوردية، فمن التعثر بحلمي، أنْ أغدو مستقبلاً، رائد فضاء، الى التعثر بحُلمي أنْ أكونَ رساماً مَشهوراً... الى قائمة طويلة من الأُمنيات، بإن أصبح مثلَ كُل... مَنْ أو ما... أبهرني حينها.

لكن في هذا الماضي... لايمكنك أنْ تجد الأحلام والأماني الوردية فقط. بل الكثير من المُعايشات الموضوعية، والملموسة، والتي أفتقدها اليوم كثيراً. أنا هنا أتحدث عن ماضٍ... كانت الحياة والأمور التي فيه، بمرارتها وحلاوتها، برحمتها وقسوتها، بإيجابياتها وسلبياتها، أكثرُ وضوحاً، وأقلُ تعقيداً، ووقع الأحداثِ، وحركة الناسِ، أكثر هدوءاً، وأقل فوضويةً، وضجيجاً.

كان لكل شئ طعم ومذاق ومعنى. لِتصفح الجريدةِ، أوقراءة الكتابِ طعم ولذة. لِسماع الأُغنيةِ مذاق. لمشاهدة الفلمِ مُتعة، للدراسة والجامعة مكانة، وللمهنةِ هيبة. للصداقة معنى، وللتواصل مع الآخرين أيضاً معنى.

نعم يمكنك اليوم، أنْ تقوم بكل تلك الأفعال وأنت جالسٌ أمام جهاز الحاسوب، بأن تقرءْ، وتشاهدْ، وتستمعْ، وتدرسْ، وتصادقْ، وتمارس العمل، وتتواصل مع الآخرين. لكنهُ قطعاً بمذاقٍ آخر. لابل في الكثير من الأحيان، يخلو من أي طعم أصلاً، فأنت تمارس كل هذه الأفعال في عالمٍ إفتراضي، بعيد عن المُعايشة الحقيقية. أو يتوفر لك كل هذه الأشياء، بكميات كبيرة، على حساب النوعية والقيمة طبعاً.

الماضي الذي أتحدث عنه، لم يك لِضياع الكثير من المعاني، والقيم فيهِ، بسبب الثورة التكنولوجية، وتأثيراتهُ السلبية وحسب، والتي تؤدي الى إنعزال الفرد في عالم إفتراضي. بل أنَّ هناك ثمة قيمٍ، مِنْ نوعٍ آخر، قد أختفى، ولم يعد له وجودٌ يُذكر، بسبب التغييرات الإقتصادية، والسياسية، والإجتماعية.

الناظر الى المشاهد التي ينقلها الفضائيات، من شوارع سوريا، ومصر، والعراق، والكثير من دول المنطقة الغارقة في الفوضى، خلال الأيام، والأسابيع، والسنين الماضية، يمكنه بسهولة، أن يلمس تغييراً كبيراً، قد أصاب المجتمعات تلك. تغييراً لايتوقف عند حدود السياسة، وأنظمة الحكم فقط...كلا أبداً..بل تغييرٌ عميق في القيم، والأسس التي توجه سلوك الناس، والمعايير الأخلاقية، والمقاييس الثقافية، التي يستخدمونها.

لربما صار جلياً للكثيرين الآن تغيير مفاهيم الأمانة، والنزاهة، والإخلاص، والرحمة، والمسؤولية ..وألخ من القيم الأخلاقية الأخرى، لدى هذه المجتمعات بسبب الحروب، والعنف، والأنظمة السياسة، أو بسبب المشاكل الإقتصادية، والفقر، والإنفجار السكاني، والعديد من التأثيرات السلبية الأخرى. فكان من نتائجها العرضية إنتشار الفساد بكل أنواعه، وإنتشار التطرف الديني، وظواهر الإنتحار، والطائفية السياسية، أو العنف المفرط، والظواهر الغريبة كالبلطجية، والإغتصابات الجماعية، والرجعية والفوضى بمعانٍ، وأشكالٍ مختلفة. فأنهارات المجتمعات تلك قبل أن تنهار الدول نفسها.

وعندما نوسع دائرة مُشاهداتنا أكثر، لتشمل الصورة العالم كله، فإن الماضي ونمط الحياة المألوفة لنا، يبدو إنها في طريقها للزوال والإنتهاء أيضاً. ليس فقط على صعيد تغير موازيين القوى، وبوادر لظهور قوى عالمية جديدة ودول وخرائط جديدة. وأنظمة إقتصادية جديدة. بل ثمة تغييرات أكثرُ جدية، تجلبها ثلاث عوامل جد مهمة، وهم:

النمو أو الإنفجار السكاني، ومايولده من مزاحمة على الموارد. والتغيير المناخي وتأثيراته المُخيفة، والأهم من كل هذا هو التطوارات التكنولوجية المُرتقبة، خلال العقدين القادمين، والتي ستُذهلنا، وتغيير نمط حياتنا بشكل كبير، وستصيبنا بصدمة في الصميم. وخاصة للذين أعتادوا على الحياة البسيطة نسيباً.

صحيحٌ إنَّ التغيير كان ومازال الثابت الوحيد في مجرى التأريخ والحياة، لكن التغيير الذي نشهده اليوم، يحدث بتسارع ووتيرة أكبر بكثير من السابق، فتأثيراته والتي كانت تستغرق قرون كيما يظهر لنا في السابق، ويحدث على مدى أعمار أجيال عدة، يستغرق اليوم بضعة عقود، أو حتى بضعة سنين فقط، ويمكن أن يشهدهُ جيل واحد فقط. وهذا لعمري أسوء ما يمكنه أن يحدث فيه الصدمة. فيرى فيه نهاية لعالمهِ المألوف. وإحساساً عميقاً بالإغتراب.

وأخيراً فإن تأثيرٌ آخر لهذا التغيير، قد شمل شريحة واسعة، أضطروا للهجرة بسبب التغييرات السياسية والإقتصادية، بحثاً عن الآمان، وفرصة العمل والتعلم، فأضافوا لإغترابهم غُربة. وما أبشع الغربة أو كما يقول كارل فالنتين أيضاً:‏

الغريب في الغربة هي مجرد الغُربة نفسها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصف مستمر على مناطق عدة في قطاع غزة وسط تلويح إسرائيلي بعملي


.. عقب نشر القسام فيديو لمحتجز إسرائيلي.. غضب ومظاهرات أمام منز




.. الخارجية الأمريكية: اطلعنا على التقارير بشأن اكتشاف مقبرة جم


.. مكافأة قدرها 10 ملايين دولار عرضتها واشنطن على رأس 4 هاكرز إ




.. لمنع وقوع -حوادث مأساوية-.. ولاية أميركية تقرّ تسليح المعلمي