الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيلم «الراعي» بين الجمال والقبح

سامي المصري

2013 / 3 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


عاصفة ثلجية موشكة على الحدوث حسب التنبؤات الجوية، تُحذر من خطر السفر على الطرق بينما كنت أُعد نفسي للسفر، وكانت هناك ضرورة مُلِحَّة تقتضي ألا أأجل سفري. العواصف الثلجية ليست نوع واحد فهناك نوع من العواصف النادرة الحدوث جدا تتساقط فيها الثلوج على شكلIce »وهو غير الـ Snow» حيث يكون الثلج بحجم كبير في حالة بلورية شفافة في غاية من النقاء بين السيولة والتجمد. يتساقط فيُشكل تكوينات بديعة مثل الكريستال يتجمد في الحال قبل أن يختلط بأي شوائب. الإنذار يؤكد أن العاصفة القادمة Ice Storm وأنها عاصفة عاتية ستستمر أياما حيث يتعذر قيادة السيارة في الطرق التي تكون زلقة جدا ويستحيل التحكم في عجلة القيادة. لم أكن في حياتي رأيت مثل تلك العواصف ومع كل التحذيرات قررت أن أقوم بالمغامرة مضطرا. الرحلة حوالي 250 ميل تستغرق في الظروف العادية ما بين أربع وخمس ساعات لكني توقعت أن يطول الزمن بما لا يمكن التنبؤ به، فقد لا أصل إلا للمستشفى لو استطاعت عربة الإسعاف ان تصل لي في وقت مناسب بين ركام الثلوج.

من أجمل وأمتع أوقات عمري قضيتها في رحلة الأحلام هذه إذ كنت أبحر أو أطير لست أدري، في عالم من الخرافة مختلف تماما عن كل ما ألفته قبلا. السيارة تجري فوق الثلوج النقية الناعمة في انسيابية بلا ضابط تكاد لا تمس الأرض. الطرق شبه خالية فلا تجد سيارة إلا نادرا حيث تتحرك ببطء شديد غالبا في رحلات قصيرة جدا. الأشجار الضخمة الفارغة من الأوراق على جانبي الطريق تحولت إلى ثريات بديعة الشكل تتلألأ بأفخر أنواع الكريستال النقي الذي يتراكم بأشكال وتكوينات رائعة الجمال، يمتد في عقود وسلاسل ثلجية مبهرة بالنقاء قد يصل طولها لعدة أمتار، تعكس الضياء لنقائها بشكل فائق للجمال لا يمكن لفنان مهما بلغ من المهارة أن يُصوِرها بهذا الإبداع الفائق للوصف. كل شجرة تختلف عن غيرها تماما لتشكل نجفة بل تحفة فريدة من الكريستال الفاخر. لما أقبل الليل كان الثلج المتساقط بكثافة يجمع الأشعة ليضيء السماء بضياء بديع ليس هو نهارا ولا غسقا بل ضياءً أغرب من كل ما رأيته في حياتي، ينعكس على قطع الكريستال النقي التي تكسو الشجر ببريق يتلألأ مع الرياح العاصفة بروعة تحيل الوجود إلى خرافة جمالية لا يمكن وصفها. ومع كل مرحلة تتنوع المناظر التي لا تتكرر في عرض رهيب للفنون التشكيلية استغرق 12 ساعة كاملة كنت أتمنى ألا ينتهي. صرت أتأمل أفلسف معني الجمال لعلي أفهم أسراره واسبر أغواره فلا أجد نفسي وصلت ولا فهمت، بل استغرقت في مشاعر حب عميق وعشق للجمال في صورته الذهنية المطلقة التي سرقتني من واقعي لوجود لا أعرف كيف أسميه.

لست أعرف لماذا وكيف أخذتني أفكاري تشدني لتلك التجربة الفريدة عندما أرسل لي صديق فيلم »الراعي» الذي صدر بمناسبة تذكار مرور سنة على انتقال الأنبا شنودة الثالث، حيث لا توجد أي علاقة بين الحدثين سوى حالتي الشخصية الباطنية التي تسترق نفسي في استغراق خارج الزمان لتفلسف معنى الجمال فوجدت نفسي مستغرقا لأفلسف معنى القبح. وبين القبح والجمال علاقة عكسية أكيدة.
كم قرأت في فلسفة الجمال فلا شك بأن هناك علاقة خطيرة بين الجمال والحق، فعرَّف البعض الجمال بأنه تثبيت للحق في لحظة ما مما يبهر الإنسان بالشعور الجمالي. فالتعبير الصادق عن الحق مثل بلورات الثلج النقي التي تتجمد قبل أن تختلط بالشوائب فتعكس ضياء الحقيقة فتنتج حالة جمالية تحرك الوجدان وتثير مشاعر كثيرة أهمها مشاعر الانبهار والحب العميق. وبذلك التعريف نستطيع أن نقول أن القبح هو حالة من الكذب والغش والخداع وعدم الأصالة التي ينتج عنها مشاعر غامضة رخيصة رافضة للحب تمزق النفس وتتباعد عن الآخر.

لا تستطيع أن تمنع نفسك من أن تشعر بالقبح المتناهي مثلا عندما تسمع »مرسي» وهو يتكلم، فأنت متأكد أن كل ما يقوله أكاذيب بهدف الغش والخداع. والمشكلة الأكبر عندما تتأكد أنه يعرف انك تعرف أنه كذاب وغشاش ومع ذلك يتمادى في حديثه الغاش المفضوح بكل إصرار بلا أي تقدير لمعرفتي بكذبه بهدف ابتزاز بلدي والتمادي في قتل كل من يحاول إيقاف جرائمه. إنها حالة منتهى القبح التي تثير الغضب والاشمئزاز والشعور بالغثيان.
لقد شعرت بتلك المشاعر الغاضبة عندما شاهدت مقتطفات من فيلم »الراعي». كيف لإنسان يعرف الحقيقة فيتجاسر لُيصدر فيلما المفروض أنه تاريخيا بهدف الخداع والغش ليقنع الناس بالكذب، ليرضي معرفتهم المغشوشة سابقا وهو يعلم أنه يكذب. السيئ جدا في الفيلم هو ما يعرضه من أحداث حدثت فعلا قاصدا أن يلوي الحقيقة بتلوث من خيال فج عن تعمد، بهدف خداع الناس بأكاذيب مكشوفة، إما أنها قد شاعت قبلا أو ليضيف إليها أكاذيب جديدة، بهدف الإمتاع الرخيص بالغش. كل ذلك يضعه في عمل المفروض أنه عمل فني فينتزع منه الجمال الذي هو صورة الحقيقة وروح كل الفنون، فيستحيل إلى حالة من القبح والتقيح والمسخ الجمالي.
لست في حالة تسمح لي أن أعيد كل ما كتبت في كتابي عن حياة الأنبا شنودة بعنوان »أربعة أطوار والأنبا شنودة بطريرك» لأصحح كل ما جاء بالفيلم من مسخ وإدعاء مبتذل، أو أكرر ما كتبه غيري عن المعاناة المريرة التي عانوها من تعاملاتهم مع الأنبا شنودة مثل كتابات الأنبا غريغوريوس المدعومة بالوثائق، أو »السيرة الذاتية» للأب متى المسكين، لأقنع الناس بالحقيقة المرة. فمن يريد أن يعرف الحق فإنه من الطبيعي سيعود لتلك الكتابات ليدرك الفارق بين القبح والجمال، الحق والغش. أما من اعتاد وتلذذ بسماع الخداع فهو محتاج أولا لعلاج روحي نفسي ليدرك ماهية جمال شفافية الحقيقة.

الغش يبدأ بعنوان الفيلم »الراعي» بينما أسوء ما كان في عصر الأنبا شنودة هو الافتقار إلى الرعاية وفشل الرعاة الذين كان أفضل ما يعبر عنهم قول القديس بولس الرسول "لأني أعلم هذا أنه بعد ذهابي سيدخل بينكم ذئاب خاطفة لا تشفق على الرعية (اع 29:20). او ما يقوله في الرسالة إلى رومية، "لأن مثل هؤلاء لا يخدمون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم وبالكلام الطيب والأقوال الحسنة يخدعون قلوب السلماء (رو 18:16).

لست في حالة تسمح لي أن أسترسل في حديث عن »فيلم الراعي» أكثر من ذلك فالحديث متعب توجعت كثيرا من مسمعه ومللت تكراره. من يريد أن يعرف الحق فسيعرفه، ومن فضل ظلمة الكذب فسيغرق في لجج قبحه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب


.. مأزق العقل العربي الراهن




.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah