الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في متغيرات العلاقة السورية اللبنانية

عماد هرملاني

2005 / 4 / 9
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


وراء مدارات الجدل الصاخب الذي دار طوال الشهرين الماضيين بين سورية ومؤيديها من جهة ومعارضيها داخل الساحة اللبنانية (وعلى المستوى الدولي ) من جهة ثانية، حول حدود مسؤولية دمشق عن جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، شكلت جريمة الاغتيال نفسها وما تبعها من تداعيات محلية وإقليمية ودولية حدثا ضاغطا فرض فتح ملف الوجود العسكري السوري في لبنان بشكل لم يسبق له مثيل من قبل.
جدل أيديولوجي:
وقد أثارت قضية الوجود السوري في لبنان منذ بداياتها الأولى التي ترجع إلى عام 1976 جدلا متواصلا اتسعت دائرته حينا وضاقت في أحيان أخرى بين قوى وأطراف وتيارات لبنانية وسورية وعربية وحتى إقليمية ودولية وجدت نفسها بين فترة وأخرى في موقع تقاطع أو تعارض مع الدور الذي انتدبت سورية نفسها للقيام به في لبنان، ولعل الملاحظة النافرة التي تثير الاهتمام في هذا المجال هي أن الجدل المذكور عمد طوال الفترة الماضية إلى امتطاء صهوة الشعارات الأيديولوجية الكبيرة التي شهدت رواجا واسعا في فضاء المنطقة خلال الحقبة الماضية، وابتعد باستمرار عن التطرق لموضوع المصالح التي حملت النظام السوري على اتخاذ قرار الدخول إلى لبنان وبررت الأثمان الباهظة التي دفعها للبقاء فيه طوال العقود الثلاثة الماضية.
ومنذ البداية برر النظام السوري قرار إرسال قواته إلى لبنان بطروحات لم تكن تشير إلى ما هو أقل من التصدي لمؤامرات صهيونية وإمبريالية تهدف إلى تمزيق وحدة لبنان وتحويله إلى كانتونات طائفية تستظل بالحماية الإسرائيلية وتسهل مخططات إسرائيل لبسط سيطرتها على المنطقة، وفي مقابل ذلك عمد معارضو الدخول السوري إلى لبنان، ومن بينهم بعض قوى المعارضة السورية ومعظم فصائل المقاومة الفلسطينية وعدد كبير من قوى حركة اليسار العربي التي كانت تعيش مرحلة مد في ذلك الوقت، إلى تأسيس خطابهم على طروحات لم تنزل بدورها إلى ما دون مستوى الحديث عن مشاركة النظام السوري في مخطط أميركي يهدف إلى ضرب حركة المقاومة الفلسطينية وإجهاض المشروع القومي التحرري الذي كانت تقوده الحركة الوطنية اللبنانية بتحالف مع حركة المقاومة الفلسطينية، وفي حالات الاستطراد كان يشار إلى محاولة القضاء على نموذج الحالة الديموقراطية التي كان يمثلها لبنان عبر نظامه القائم على مرتكزي الليبرالية السياسية والحرية الإعلامية المتحررة من كل القيود والمفتوحة على كل الاتجاهات.
ولا شك في أن التطورات اللاحقة التي شهدتها المنطقة أعطت للنظام السوري فرصا متتالية من أجل تعويم طروحاته حول مواجهة المخططات الإسرائيلية والأميركية ومناصرة المقاومة في تصديها للاحتلال عبر البوابة اللبنانية، حيث وجدت تلك الطروحات سندا قويا لها بعد توقيع اتفاقات كامب ديفيد بين النظام المصري وإسرائيل، ثم بعد الغزو الإسرائيلي للبنان وإشراف سورية على رعاية نشاطات حركة المقاومة الوطنية في البداية ثم فيما بعد المقاومة التي قادها حزب الله ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، وأمام وهج النجاحات التي حققها النظام السوري في التصدي لمحاولات تعميم اتفاقات كامب ديفيد على الصعيد العربي خلال المرحلة الأولى التي أعقبت توقيع الاتفاقات (وقبل زلزال الغزو الإسرائيلي للبنان)، ثم أمام وهج الانتصارات التي حققتها المقاومة اللبنانية بمساعدة سورية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي وانتهت بتحرير جنوب لبنان دون تمكين إسرائيل من استدراج الحكم اللبناني إلى توقيع اتفاق سلام معها ( وخصوصا بعد نجاح حلفاء سورية في إسقاط مشروع اتفاق 17 أيار)، بدا كما لو أن الاتهامات التي رفعتها بعض قوى اليسار السوري والعربي ضد الوجود العسكري السوري في لبنان لم تعد تجد الغطاء الأيديولوجي الذي يمكن أن يسوغها أو يسوقها، وهكذا كاد موضوع الوجود السوري في لبنان أن يتحول مع مرور الوقت وبفعالية الاعتياد إلى عنوان لواقع معاش لكنه منسي في ذاكرة الشارع العالم العربي بمستوييه المسيس والشعبي، وإذا كانت بعض القوى السياسية اللبنانية قد حاولت بين فترة وأخرى أن تعبر عن ضيق وتبرم قطاعات واسعة داخل المجتمع اللبناني من استمرار الوجود العسكري السوري في تفاصيل الحياة اللبنانية، فقد كان البرود العربي (الحكومي والمعارض) في التعامل مع تلك التشكيات يقدم دليلا آخر على حقيقة تغلب ضبابيات الأيديولوجبا وتعمياتها على معطيات الواقع الحي وآلامه المعاشة في الفكر السياسي العربي.
مقاربة سياسية:
بالانتقال من فضاء الأيديولوجيا إلى مقاربات الواقع ولغة السياسة يمكن القول بأن دخول القوات السورية إلى لبنان جاء في سياق الاندفاعة التي حققتها سورية بعد عام 1970 ، وخصوصا بعد مشاركتها في حرب عام 1973، على صعيد تكريس دورها الإقليمي كطرف فاعل في توجيه مسار الأحداث الكبرى في الشرق الأوسط بعد عقود طويلة أعقبت مرحلة الاستقلال السياسي لدول المنطقة وشغلت سورية خلالها موقع الغنيمة التي تتصارع القوى الإقليمية الكبرى (مصر، العراق، السعودية) على الفوز بها أو الهيمنة عليها. وإذا صح ما كتبه باتريك سيل مرة بأن إحدى الإنجازات الكبرى للرئيس الراحل حافظ الأسد تتمثل في نجاحه بإخراج سورية من موقع اللعبة والانتقال بها إلى موقع اللاعب في منطقة الشرق الأوسط، فلا شك بأن قرار دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976 كان يمثل إحدى البوابات الرئيسية التي أتاحت للرئيس الأسد الأب تحقيق تلك النقلة. ورغم المتاعب والإرباكات والتحديات الكثيرة التي واجهها نظام الرئيس حافظ الأسد على أكثر من صعيد داخلي وإقليمي ودولي نتيجة قراره بإرسال القوات السورية إلى لبنان، يمكن الجزم الآن بأن حزمة المكاسب السياسية والاستراتيجية التي حققها النظام من جراء تواجد القوات السورية في لبنان على مدى العقود الثلاثة الماضية كانت جديرة بقبول تحمل التبعات المترتبة على كل تلك المتاعب والتحديات.
وتتسع قائمة المكاسب التي تمكن الإشارة إليها في هذا المقام لتشمل في البداية، وبشيء من المفارقة، حالة الاستقرار الداخلي التي حققها النظام خلال عهد الرئيس الراحل عبر استخدامه المفرط للقبضة الأمنية التي أحكمت ضبط إيقاعات الحياة السياسية السورية داخل البلاد وامتدت هيمنتها إلى الساحة اللبنانية التي وفرت طوال مرحلة ما بعد الاستقلال "ممرا ومستقرا" للكثير من القوى والتيارات والشخصيات السياسية السورية التي كانت تقف في معارضة الأنظمة الحاكمة في دمشق، والتي كانت تجد في لبنان على الدوام ملاذا آمنا ومركزا مريحا لإدارة خططها الهادفة إلى إسقاط الأنظمة الحاكمة والوثوب إلى السلطة في دمشق مستفيدة من مزية الجوار الجغرافي للحفاظ على خط اتصال مستمر مع أعوانها ومريديها داخل الحدود السورية. وبعد حملة الانتقادات الواسعة التي واجهتها داخل سورية وعلى امتداد الشارع العربي ومن جانب حلفائها الدوليين (على رأسهم آنذاك القيادة السوفيتية) بسبب إرسال قواتها إلى لبنان وصدامها مع المقاومة الفلسطينية وميليشيات الحركة الوطنية اللبنانية، يمكن التقدير بأن القيادة السورية ما لبثت أن لمست بشكل حسي أهمية القرار الذي اتخذته بهذا الشأن، رغم عدم شعبيته، إبان المواجهة المسلحة التي خاضتها جماعة الأخوان المسلمين ضد النظام السوري في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات من القرن السابق، حيث لم يكن من الصعب التقدير بأن موازين المواجهة مع حركة الأخوان كانت ستتغير كثيرا لو أتيح لمجموعاتهم المسلحة أن تستفيد من منافذ البوابة اللبنانية في إدارة نشاطاتها كما كان عليه الحال قبل سيطرة الأجهزة الأمنية السورية على تلك المنافذ بصورة محكمة.
أما المحور المركزي الذي تجلت فيه المكاسب السورية من جراء الوجود العسكري السوري في لبنان فيمكن رصده على خط التطورات التي طرأت منذ ذلك الوقت على قضية الصراع العربي الإسرائيلي والتي شكلت قاعدة تأسيس للدور الفاعل الذي لعبته سورية على المستوى الإقليمي خلال عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد. ولقد نجحت سورية من خلال مشاركتها إلى جانب مصر في حرب أكتوبر بأن تضمن لنفسها حضورا مؤثرا في توجيه حركة الأحداث التي تسارعت على ساحة المنطقة بعد الحرب مباشرة والتي اتجهت نحو خلق حالة استقطاب حادة داخل العالم العربي تبلورت ملامحها بشكل خاص بعد قيام الرئيس المصري السابق أنور السادات بزيارته الشهيرة إلى إسرائيل وتوقيعه مع الحكومة الإسرائيلية اتفاقات كامب ديفيد التي شكلت نقطة الانعطاف الأكثر عمقا وتأثيرا في مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي. وفي مواجهة ظروف تلك المرحلة نجحت دمشق في قلب اتجاه السحر الذي أراد وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر تطويقها به عبر استدراجها للغرق في المستنقع اللبناني، واستطاعت أن توظف وجودها في لبنان وإمساكها، عبر هذه البوابة، بالورقة الفلسطينية في المعركة الظافرة التي قادتها القيادة السورية ضد خطوة الرئيس السادات وانتهت بقرار تجميد عضوية مصر في الجامعة العربية لتصبح الساحة خالية أمام العاصمة السورية لتفرض لنفسها دورا إقليميا فاق حجمها الواقعي بكثير. وطوال فترة العقدين الأخيرين من القرن الماضي أصبحت دمشق إحدى العواصم الرئيسية التي تتحكم بتحديد وجهة الحدث السياسي على مستوى المنطقة وهو ما تبدى في الاهتمام الخاص والجهود الحثيثة التي بذلتها إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب من أجل ضمان مشاركة سورية في التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية في معركة تحرير الكويت عام 1991، ثم في الدور البارز والمحوري الذي لعبته سورية في إطلاق مسيرة العملية السلمية عبر مؤتمر مدريد، ثم بعد ذلك في تأثيرها القوي على تموجات الحركة التفاوضية وضبط تداعياتها على الصعيد العربي الذي ظل الرئيس الراحل حافظ الأسد يلعب حتى وفاته في العام 2000 دورا مركزيا في توجيه مواقفه من قضية الصراع العربي الإسرائيلي وردود فعله حيال النقلات التي تشهدها العملية التفاوضية على مختلف مساراتها.
قراءة في المتغيرات:
شكل الوجود السوري في لبنان إذن خلال المرحلة الماضية إحدى نقاط الارتكاز الرئيسية التي استندت إليها القيادة السورية في تأمين حماية نظامها وتسهيل مهمة أجهزتها الأمنية في مطاردة مشاريع القوى المعارضة للوثوب إلى السلطة وتدمير قدراتها على مواجهة النظام، وعلى الصعيد الإقليمي كان الوجود السوري في لبنان قاعدة انطلاق لبناء الدور الإقليمي الذي صنعته سورية لنفسها على مدى العقود الماضية والذي تمكنت عبره من فرض نفسها على مراكز صنع القرار الخاص بمنطقة الشرق الأوسط في مختلف العواصم الدولية والإقليمية المعنية بأمور المنطقة كرقم صعب لا يمكن تجاهل مصالحه الاستراتيجية في مختلف القضايا المتعلقة بمستقبل المنطقة ولاسيما القضايا المتصلة بقضية الصراع العربي الإسرائيلي وتفرعاتها التي تمتد في أكثر من اتجاه إقليمي ودولي. وبعد كل تلك السنوات الطويلة تتكشف الأزمة التي تواجهها سورية في لبنان حاليا عن حقيقة أن المتغيرات العاصفة التي جرت خلال العقود الماضية على مختلف الصعد المحلية والإقليمية والدولية أدت إلى تغير الأوضاع في سورية ولبنان في آن معا وتبدل أوضاع المنطقة والعالم بشكل عام وتغيرت بالتالي جملة الموازين والمعادلات التي أتاحت استمرار الوجود السوري في لبنان طوال الحقبة الماضية.
ولاشك في أن أولى وأبرز تلك المتغيرات تتمثل في التحول الذي طرأ على تركيبة السلطة في سورية قبل خمس سنوات إبان وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد وانتقال منصب الرئاسة إلى نجله الرئيس بشار الأسد، حيث يبدو من الثابت اليوم أن غياب الأسد الأب أحدث هزة قوية في بنية النظام السوري بعد ثلاثة عقود أمضاها في الحكم وحصر خلالها جميع خيوط عملية صنع القرار السياسي في المجالين الداخلي والخارجي داخل جدران مكتبه الشخصي. وفي هذا المجال يمكن القول بأن تجربة الأسد الأب المديدة في الحكم أدت إلى وضع خليفته أمام مهمات بالغة الصعوبة حيث لم يكن من السهل على الرئيس الجديد، الذي ينتمي إلى جيل مختلف وثقافة مغايرة، متابعة نهج والده في شخصنة عملية صنع القرار السياسي وحصرها في يد الرئيس، في حين لم يترك الرئيس الراحل وراءه تقاليد عمل مؤسساتي يمكن الاستناد إليها في إيجاد آلية بديلة لعملية صنع القرار، وهكذا فقد أدى غياب الشخصية الكاريزمية التي ضبطت أداء السياسة السورية على مدى ثلاثة عقود إلى ظهور مؤشرات إرباك في أداء السياسة السورية في الحقبة الجديدة تجلى خصوصا في تعدد وتباين الأصوات التي صارت تنطق باسم القيادة السورية وهو ما أوحى بوجود تجاذب في قمة هرم القيادة بين ما أصبح يعرف باسم "الحرس القديم" الذي يتمثل خصوصا في قيادة الحزب والمؤسسة العسكرية وبعض مفاصل الأجهزة الحكومية وبين "الجيل الجديد" الذي يوحي في خطابه المعلن أنه يمثل المشروع الإصلاحي الذي يقوده الرئيس بشار الأسد. وقد يكون في حالة تعدد المراكز التي تحاول الاستئثار بعملية صنع القرار في سورية أحد المداخل التي تفسر سلسلة الأخطاء التي وقعت فيها السياسة السورية خلال الأعوام الأخيرة والتي يبرز منها الخطأ المستمر في إدارة ملف العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية وخصوصا عبر مدخلها العراقي، ثم الخطأ الذي أدى إلى خسارة العلاقة الخاصة التي أقامتها سورية مع فرنسا وراهنت على الاستفادة منها في كسر حالة الانفراد الأميركي بإدارة حركة الأحداث في الشرق الأوسط وكانت النتيجة دفع فرنسا لتكون شريك الولايات المتحدة الأميركية الرئيسي في قيادة الحملة الدولية المعادية لسورية، أما في لبنان فقد كان الخطأ القاتل هو دعم قرار التمديد للرئيس اللبناني أميل لحود الذي إن لم يكن هو السبب الحقيقي لصدور القرار الدولي رقم 1559 الذي ركبت المعارضة اللبنانية موجته لتصعيد حملتها ضد الوجود السوري في لبنان بدعم دولي كما تقول دفوعات الإعلام السوري في تبريرها لدعم قرار التمديد، فلا شك في أن خطوة التمديد أعطت للقرار 1559 وحملة المعارضة التي تلفحت به لبنانيا ودوليا غطاءه الحدثي ومسوغاته السياسية.
وبالعودة مرة أخرى إلى موضوع المتغيرات التي طرأت على شبكة الظروف الناظمة لمعادلات الوجود السوري في لبنان لا بد من التوقف عند ملاحظة تزامن التحول الذي طرأ على تركيبة السلطة في سورية مع جملة المنعطفات الكبيرة التي دخلتها المنطقة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر واندفاع الإدارة الأميركية في اتجاه تكريس انفرادها بالهيمنة على قيادة النظام الدولي الجديد الذي دخل منعطفا نوعيا بعد الهجوم الأميركي على أفغانستان وإسقاط نظام حركة طالبان ثم بعد الاحتلال الأميركي للعراق وإسقاط نظام الرئيس صدام حسين، أما في معادلات الحسبة السورية فقد أسفرت تلك التحولات عن جعل القوات الأميركية ترابط على تخوم الحدود السورية لتضع دمشق تحت وطأة حملة مبرمجة من الضغط والتهديد ولي الذراع، وإضافة إلى ذلك لابد من الإشارة إلى المتغيرات التي طرأت على وضع القضية الفلسطينية بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات وانتقال السلطة إلى يد الرئيس الجديد محمود عباس الذي أعاد إطلاق مسيرة عملية تفاوضية تهدف إلى ترتيب اتفاق نهائي مع إسرائيل يسدل الستار على قضية الصراع مع إسرائيل على الجبهة الفلسطينية دون ارتباط يذكر بما يحدث على المسارات التفاوضية الأخرى والتي أصبحت تنحصر في المسارين السوري واللبناني.
واقع جـديد:
تضافرت جملة المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية التي أشير إليها لتخلق مع بعضها البعض واقعا جديدا في المنطقة أدى بين مجموعة نتائج أخرى إلى وضع السياسة السورية في مواجهة معركة متعددة الجبهات، وبدا كما لو أن هناك الكثير من القوى الإقليمية والدولية التي استيقظت في وقت واحد للدخول مع سورية في معارك متزامنة لتصفية حسابات تراكمت على مدى أكثر من ثلاثين عاما، فعلى المستوى العربي يمكن إيراد قرائن عديدة تدل على أن وفاة الرئيس حافظ الأسد أغرت العديد من الدول العربية بمحاولة انتهاز الفرصة من أجل إعادة تحجيم الدور الإقليمي الواسع الذي لعبته سورية خلال عهد الرئيس الراحل والذي ترى تلك الدول أنه تضخم على حساب دورها الخاص ضمن خارطة المنطقة، وعلى المستوى الإقليمي تكاثرت المؤشرات التي تدل على أن مصالح العديد من القوى والأطراف المعنية بعملية السلام تقاطعت عند نقطة التوافق على إضعاف قدرة سورية على النهوض بالدور المؤثر الذي لعبته خلال عهد الأسد الأب في ضبط إيقاعات العملية التفاوضية والتحكم بتوجيه خطواتها على مختلف المسارات، وعلى الصعيد الدولي قادت تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق نحو تحريك هواجس ومخاوف من مخططات أميركية مبيتة تسعى إلى تقويض سلطة حزب البعث في سورية بعد أن تم لها تقويض سلطة الحزب في العراق، وفي ظل هذه التشابكات جاء تصاعد حملة الضغط على سورية عبر خاصرتها اللبنانية لتكشف عن حقيقة الانقلاب الذي طرأ على وظيفة الوجود السوري في لبنان، حيث بات مطلوبا من سورية (حسب تصريحات ومواقف معلنة صدرت عن أكثر من طرف معني بالأزمة بما في ذلك مسؤولين في الإدارة الأميركية) أن تتعاون مع المخططات الأميركية في العراق وأن تستخدم نفوذها لدى فصائل المعارضة الفلسطينية من أجل تسهيل مهمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس للانطلاق بمسيرة مفاوضات تسوية المسار الفلسطيني بصورة منفردة وأن تتولى مهمة نزع سلاح حزب الله وضبط الأوضاع الأمنية داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان، مقابل تخفيف الضغوط التي تتعرض لها داخل الساحة اللبنانية، وهو ما يعني عمليا أنه بعد مرور ثلاثة عقود على دخول القوات السورية إلى لبنان وهي الخطوة التي شكلت قاعدة الارتكاز الرئيسية لبناء الدور المحوري الذي لعبته سورية على المستوى الإقليمي، وصلت سورية إلى المنعطف الذي صار عليها فيه أن تضحي بدورها الإقليمي وأوراقها التفاوضية (عملية السلام، العراق، المقاومة اللبنانية) من أجل ضمان استمرار وجودها في لبنان، مع ملاحظة أن هذا الوجود نفسه فقد فاعليته العملية سواء لجهة التصدي لنشاطات القوى المناوئة التي لم يعد يؤرقها هاجس الجوار الجغرافي بعد ثورة الاتصالات التي أتاحت لها إدارة نشاطاتها من مناطق بعيدة فيما وراء البحار، أو لجهة الحفاظ على وجود جبهة مشتعلة تضمن بقاء قضية المسارين السوري واللبناني في واجهة اهتمام العواصم المعنية بترتيب أولويات أجندة المفاوضات الخاصة بمسارات العملية السلمية حيث أصبح الدور المنوط بدمشق في لبنان، تحت طائلة تهديدات من كل نوع، هو السهر على وقف عمليات المقاومة عبر الحدود اللبنانية بدل توظيف تلك العمليات واستثمارها السابق كورقة رابحة في يد المفاوض السوري.
أفق غامض:
من حيث المحصلة النهائية يمكن القول أن حادثة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وقبلها صدور القرار 1559 الذي تزامن مع قرار التمديد للرئيس أميل لحود، أعطت للقوى اللبنانية المعارضة للوجود السوري المناسبة الحدثية التي كانت تنتظرها من أجل أن تخرج المسألة اللبنانية من قشرتها المحلية وتفرضها على رأس أجندة اهتمامات العواصم الدولية والأطراف الإقليمية المعنية بأمور المنطقة، ولكن قبل ذلك بمدة طويلة كانت حركة المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية التي عصفت بأوضاع المنطقة قد قوضت مبررات استمرار الوجود السوري في لبنان، حيث أصبحت خسائر هذا الوجود وأضراره تفوق عوائده وأرباحه في حسابات السياسة التي يجب أن تستبعد عنها حسبة المصالح المالية والشخصية لحفنة من الشخصيات التي يمكن أن تكون قد بنت لنفسها شبكة واسعة من المصالح المتبادلة على هامش الأخطاء والخطايا التي واكبت مرحلة الوجود العسكري السوري في لبنان خلال السنين السابقة، ويشمل ذلك مصالح بعض الشخصيات المؤثرة على مراكز صنع القرار في الجانبين السوري واللبناني والتي يخشى أن تكون قد لعبت دورا محوريا في إطالة أمد الوجود السوري في لبنان لسنوات عديدة من أجل تأمين استمرار مصالحها الشخصية رغم كل المؤشرات التي كانت تدل منذ وقت طويل على أن ذلك الوجود فقد كل مبرراته من الناحية السياسية.
ومن هذه الزاوية يمكن القول أن القرار الذي اتخذته القيادة السورية بشأن الانسحاب الكامل للقوات السورية من لبنان شكل إعلان نهاية حقبة في تاريخ العلاقات السورية اللبنانية فقدت مرتكزات استمرارها في أرض الواقع قبل أن يعلن الرئيس الأسد عن قلب صفحتها بصورة رسمية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم إسرائيل -المحدود- داخل إيران.. هل يأتي مقابل سماح واشنط


.. الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟ و




.. روايات متضاربة حول مصدر الضربة الإسرائيلية لإيران تتحول لماد


.. بودكاست تك كاست | تسريبات وشائعات المنتجات.. الشركات تجس الن




.. إسرائيل تستهدف إيران…فماذا يوجد في اصفهان؟ | #التاسعة