الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيانات الحرف العاري: خطيئة بريمر

زيد كثير الحمداني

2013 / 3 / 25
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


في أواخر العام الفين واثنين كان العراق على شفا حرب بدت للمتابعين انها لن تبقي ولن تذر، فالحصار الاقتصادي المفروض على البلد هزم امكاناته الاقتصادية والعسكرية وقلل للغاية من موارده الهائلة ولم يتسن له تصدير النفط الا ضمن برنامج حددته له الامم المتحدة كبند حاسم من بنود وثيقة الهزيمة الموقعة في خيمة صفوان والتي انهت حرب الخليج الاولى. فصار حالنا مع نفطنا مطابقا للمثل البغدادي القائل: "اسمي في الحصاد ومنجلي مكسور."
ما كسر رتابة وقلق تلك الايام بالنسبة لي هو حصولي على مقعد في الجامعة التكنولوجية لدراسة الدكتوراة في علم هندسة المواد. يوم اعلان نتائج القبول كاد قلبي ان يطير فرحا ويحلق في سماء بغداد ليلثم كل نخلاتها الحزينة. ووددت وانا عائد الى البيت لو اسابق الريح كي ادخل ببشارتي تلك على أهلي لعلي امنحهم فرحا كانو بأمس الحاجة اليه، وهذا ما حصل، حيث زغردت أمي وبكت وعانقتني. لم يزغرد ابي ولم يبك لكنه عانقني ايضا.
بعد اسبوع من المباشرة وبدء الدوام لمحت اسمي في نشرة الاعلانات المعلقة عند رئاسة القسم الذي أدرس فيه، حيث تطلب مني مديرة الدراسات العليا في رئاسة الجامعة الحضورالى مكتبها في اسرع وقت. شعرت بقلق حقيقي وانا احث الخطى الى مكتبها الواقع في الطابق الرابع من مبنى رئاسة الجامعة. حين دخلت المكتب كان وجهها متجهما وبعد ان عرفت بنفسي قالت لي بلهجة جدية:
" اسمع عزيزي. اسمك تم شطبه من قائمة المقبولين في الدراسات العليا. ارجوك لا تسألني عن الاسباب فالجامعة لا دخل لها بذلك. الأمر متعلق بكتاب وصلنا من مديرية الامن العامة يقضي بشطب اسمك من قائمة المقبولين لعدم حصولك على الموافقة الأمنية اللازمة لمتابعة الدراسة"
شعرت لحظتها بدوار عنيف ولم أعد اسمع اصوات المارين في الممرات المجاورة وخيل لي أن ساعة الأرض قد حانت الا اني استجمعت قواي مرة اخرى وقلت لها بصوت عال:
" سوف اشتكي الى وزير التعليم العالي وسوف احصل على حقي ولن تمنعني قوة على وجه الأرض من مواصلة دراستي".
" افعل ما شئت واشتكي عند من شئت. قبولك مُلغى."
خرجت من مكتبها والمرارة تغمرني وشعور هائل بالعجز يستولى على تفكيري. ماذا سأقول لأمي؟ كيف ساشرح الأمر لأبي؟ ومن يقدر أن يطفأ النار المستعرة في صدري؟ أحقا لم يبق ما يهدد أمن العراق وسلامة اراضيه ومياهه الا حصولي على مقعد في الدرسات العليا؟! تبا لكم، وأدتم حلما جميلا وهو مازال في مهده.
بعد شهور قلائل جاءت الحرب الحاسمة، وجاء معها الدمار، وخربت صواريخ أمريكا الذكية قلوب الناس قبل دورهم، وهدمتْ معابدا وكنائسا فوق رؤوس عبادها، وتبخر الرفيق القائد المهيب الركن المناضل المجاهد المؤمن وكل زبانيته وكأنهم لم يملكوا العراق وناسه بالأمس القريب، وشُوهد عناصر الأمن الخاص وهم يهرولون بملابسهم الداخلية على ضفاف دجلة قريبا من القصر الجمهوري بعد ان داهمتهم الطائرات الامريكية في فجر اليوم الذي سبق سقوط العاصمة، أما الجندي المسكين الذي تخلت عنه قيادته فصار يقايض بزته العسكرية وسلاحه المعطوب بجلباب عتيق وخف بلاستيكي وبضعة دنانير يرجع بها الى اهله الذين أكل الخوف قلوبهم على مصير ولدهم.
على الرغم من مقتي الشديد للطمغة الحاكمة آنذاك الا اني بكيت بحرقة حين شاهدت الدبابات الأمريكية تصول وتجول في شوارع بغداد المدمرة وجثث القتلى من مدنيين وعسكريين ملقاة باهمال فوق الأرصفة ووسط الطرقات. أين الرفاق الحزبيون الذين ملأوا الدنيا بتقاريرهم التي أودت برقاب الخونة كما كانوا يصفونهم؟ أين الفدائيون الاشاوس الذين كانوا يفترسون الذئاب والضباع ويقطعون ايادي واقدام الفارين من الخدمة العسكرية ويجدعون انوف المعارضين ويسملون عيونهم؟ أين رجال الأمن الخاص الذين كانوا تحت امرة الابن الصغير للرئيس و أين شواربهم المنسدلة على جوانب افواههم وأين نظراتهم القاسية التي كادت في يوم من الأيام ان تجعلني أتبول في بنطالي حين دخلت وعن طريق الخطأ شارعا من الشوارع الموصلة الى القصر الجمهوري؟ أين فدائيو صدام وانتحاريوه؟ وأين قائدهم الشرس عدي صدام؟ الم يشاهدوا الدبابات الأمريكية وهي تفتح احياء العاصمة حيا فحيا؟ الم يروا على شاشات التلفاز كيف تهاوى تمثال الرئيس وصارت تدوسه اقدام الأطفال في ساحة النضال؟ أين برزان ووطبان وطرزان؟ أين سبعاوي وخمساوي وستاوي وكل وحوش الغابة التي كنا نعيش فيها؟ أين صواريخنا العابرة للقارات؟ أين المدفع العملاق؟ أين طائرة الانذار المبكر "عدنان1"؟ أين الكيمياوي المزدوج؟ أين الاسحلة التي كلفت ميزانية العراق مليارات الدولارات؟ أين وأين وأين؟!
عدت الى بيتي بعد جولة سريعة في أحياء بغداد اظنها كانت في اليوم السابع للغزو. أخبرني وانا في تلك الجولة أحد الأصدقاء الذين التقيت بهم عن طريق الصدفة أن الخراب وصل الى الجامعة التكنولوجية. "الجامعة التكنولوجية؟" سالته وانا مندهش للغاية لاني لم أتوقع أن يتعرض أحد لذلك الصرح العلمي فليس هو بمركز للقيادة ولا مصنع من مصانع السلاح. فكرت قليلا ثم قررت أن اذهب الى هناك في اليوم التالي لاطمئن على بيتي الثاني الذي طردت منه عنوة. حين وصلت الى الجامعة كانت بوابتها الرئيسسية محطمة بالكامل ولا يوجد أحد في مكتب الاستعلامات، دخلت ووجدت بعض الطلبة هنا وهناك يتحدثون فيما بينهم عن الاحداث التي يمر بها البلد. توجهت بعد ذلك وبصورة عفوية الى المكتبة المركزية للجامعة، وما ادراك ما المكتبة المركزية؟! صرح من صروح الثقافة والعلم لا على مستوى بغداد فحسب وانما على مستوى العراق كله، حيث كان الطلبة يأمونها من كل حدب وصوب لينتفعوا بما تقدمه لهم من كتب حديثة ودوريات علمية رصينة.
كان الزجاج الخارجي للمكتبة والذي يشكل واجهتها الامامية مهشما بالكامل حتى انك تستطيع الدخول اليها دون الحاجة الى المرور من خلال الباب الخشبية المتهالكة، وكانت شظايا الزجاج مع بقايا اوراق ممزقة تغطي الارضية الملوثة بالاتربة. حين دخلت لم أجد سوى طالبتين تنظفان الارضية بالتعاون مع الاستاذ أحمد المسؤول عن قاعة الدوريات. ذلك الرجل الستيني، الاسمر، النحيل، والقادم من اقسى مناطق جنوب العراق طقسا وهي منطقة الجبايش له علي فضل لست انساه خلال دراستي في مرحلة الماجستير.
" استاذ أحمد.. ارجوك تفضل واجلس في مكتبك وأنا سوف اتعاون مع الاختين في تنظيف المكتبة."
لم يرجع الاستاذ أحمد الى مكتبه وانما جلس على اريكة جلدية موضوعة في قاعة الاستقبال وظل يراقبنا ونحن نقوم بالتنظيف ثم قال لنا وفي صوته نبرة حزن عميق:
" الله يجازيكم الخير يا اولادي، هذه المكتبة هي مكتبة كل طلاب العلم، وليست ملكا لصدام ولا للأمريكان."
بقيت اتردد على الجامعة التكنولوجية طوال الشهور الثلاث المتتالية، ازور المكتبة وقسم البناء والانشاءات. كان كل ما يجري خارج الجامعة يملأني اسى الا اني بمجرد دخولي الى ذلك الحرم أشعر بأني أدخل عالما آخر لا هم فيه ولا غم. وفي ظهيرة احد الايام وبينما كنت اصعد سلم القسم صادفت استاذتي السابقة في مرحلة الماجستير الدكتورة الفاضلة هناء عبد يوسف التي رحبت بي ترحابا حميما ثم قالت لي:
" أينك يا زيد؟ انا ابحث عنك منذ فترة ولم استطع الوصول اليك. اريدك ان تعيد تقديم ملفك الدراسي كي يتسنى للجامعة ان ترجعك الى مقعدك الذي طردت منه."
" لكني لا املك الوقت الكافي للتحضير لامتحان القبول يا دكتورة." قلت لها.
" عن أي امتحان تتحدث؟ انت مقبول عندنا مسبقا وسوف تعيد الجامعة قبولك فور تقديمك للطلب. تلك تعليمات ممثل سلطات الاحتلال في وزارة التعليم العالي والتي تقضي باعادة جميع الطلبة المفصولين لاسباب امنية او سياسية في عهد النظام السابق!"
تركت الجامعة بعد حديثي مع د. هناء ومرة أخرى وددت ان اسابق الريح كي اصل الى البيت حاملا معي بشارة العودة الى مقاعد الدراسة لعلها تجفف دموعا غزيرة ذرفتها أمي يوم شطب اسمي من لائحة المقبولين. في الطريق مررت بالعديد من سيارات الهمر العسكرية الامريكية، بصراحة لم أشعر ساعتها بالضغينة تجاه تلك القوات الغازية، بل راودني شعور جاهدت في كتمانه بأنهم اصحاب فضل علي!
ما جرني الى هذه الذكريات هو ما قام به أحد الطلبة العراقيين في لندن بالأمس القريب في مؤتمر صحفي عقده بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي السابق للعراق حيث صوب الطالب المقصود فردتي حذائه باتجاه السيد بريمر ولكنه لم يصبه. وقال الطالب ان فردتي الحذاء هما رسالتان من صدام حسين والشعب العراقي الى بريمر لانه كان سببا في الدمار الذي حل بالبلد بعد الغزو. السيد بريمر وبعد أن تفادى القذيفتين قال لمن ضربه:
" عليك في المرة القادمة ان تحسن التصويب اذا اردت القيام بعمل من هذا النوع." ثم أضاف قائلا: " وتأكد انك لو حاولت مجرد محاولة قبل الاطاحة بنظام صدام حسين ان ترمي فردة حذاءك بوجه رئيسك السابق لكنت قد قتلت شر قتلة. هذا هو ما انجزته لكم يا عزيزي!!"
في هذا المقام، أود أن أعلن لملأ الراغبين بقذف الساسة الامريكان الذين شاركوا في الاطاحة بالنظام السابق باحذيتهم ذات الروائح النتنة ان يجتمعوا في قاعة كبيرة مزودة باجهزة البث المباشر وسأكون هناك في الزمان والمكان الذي يريدونه كي أقف امامهم بشحمي ولحمي الوفير ليرجمونني باحذيتهم تلك لأني اخترت ان اصلب على صليب نتائج الاحتلال الامريكي للعراق الذي اعادني واعاد الاف الطلبة المظلومين الى مقاعدهم الدراسية.
هيا ايها الاشاوس هاتوا احذيتكم الفتاكة لتضربوا بها وجهي وتقطعوا لساني الذي يصارحكم بحقيقتكم المرة، فانتم لاتملكون الآن الا الاحذية بعد ان سحب منكم الغزاة جميع اسلحة الدمار الشامل التي لم يخطرعلى بالكم يوما ان تضربوا بها الدولة العبرية اللعينة -كما تصفونها-!!!

ملاحظة: تبين لي بعد مراجعات طويلة ووساطات كثيرة تتعلق بالمشكلة الأمنية التي حرمتني من دراستي وطُردتُ بسببها من الجامعة ان ثغرة ملفي الأمني تكمن في كون جد أمي من أب عراقي وأم تركية و ولد في تركيا أواخر القرن التاسع عشر، وبالتالي تم اعتباره عراقيا بالتجنس وتركيا في الأصل وهكذا صار جدي -والد أمي- عراقيا بالتجنس أيضا وتركيا في الأصل ومن ثم صارت امي عراقية بالتجنس وتركية في الأصل وبالتالي يكون اولادها وارثين شرعيين لتلك العاهة المستديمة.
على أية حال، " حمدا لله أن جدي السادس والستين لم يشهد معركة الجمل فلربما اتهموه بمعاداة زوجة الرسول وحاكموه بتهمة الانتماء لحزب الخليفة الرابع." هكذا فكرت بعد أن عرفت سبب طردي، وأحيانا اذا عُرف السبب زاد العجب!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا خصّ الرئيس السنغالي موريتانيا بأول زيارة خارجية له؟


.. الجزائر تقدم 15 مليون دولار مساهمة استثنائية للأونروا




.. تونس: كيف كان رد فعل الصحفي محمد بوغلاّب على الحكم بسجنه ؟


.. تونس: إفراج وشيك عن الموقوفين في قضية التآمر على أمن الدولة؟




.. ما هي العقوبات الأميركية المفروضة على إيران؟ وكيف يمكن فرض ا